“مصر الشيعية”.. من أكبر الأحلام التي لا يخفيها مرجعيات المذهب الشيعي في إيران والعراق، طامحين لأن تعود المحروسة إلى سابق عهدها تحت حكم الدولة الفاطمية.
وفي سبيل هذه الأحلام والطموحات على مدار عقود، بذل الشيعة خارج مصر بمعاونة من هم داخلها من المصريين جهودًا مضنية، أغلبها اتسمت بطابع السرية وبعضها كان علنيا.
هذا الخليط أفرز واقعًا جديدًا بات الحديث فيه ليس عن وجود الشيعة في مصر، بل عن مدى انتشارهم، هذا الوجود والانتشار مر بمراحل مختلفة كانت مرهونة بالوضع السياسي بين مصر وإيران.
كم عددهم؟
وتبدو الإحصائيات بشأن أعداد الشيعة في مصر متضاربة، حيث تفيد تقارير بأن عددهم يصل إلى 1% من عدد السكان، بينما يقدر الشيعة أنفسهم ما بين 750 ألفًا ومليونين، إلا أن تحديد الرقم كما يقول الناشط الشيعي أحمد راسم النفيس شديد الصعوبة في ظل عدم وجود مؤسسة شيعية رسمية.
وفي سبتمبر 2012، قال “بهاء أنور” الموصوف حينها بأنه، المتحدث الرسمى باسم شيعة مصر أن عدد الشيعة المصريين يبلغ 3 ملايين شخص في جميع المحافظات.
وبالتزامن مع احتفالات ذكرى عاشوراء، التي يوليها الشيعة اهتمامًا بالغًا، تصاعد الحديث بشأن “الحسينيات” ودورها في نشر المذهب الشيعي داخل مصر، سواء كانت بصورتها الصحيحة أو حتى تلك المستترة خلف عباءة الصوفية.
التعبير المشتق من اسم سيدنا الحسين بن علي بن أبي طالب – رضي الله عنهما – ظل يعبر عن تجمعات الشيعة التي تمثل حادث مقتل الحسين في كربلاء، وسط البكاء والعويل ولطم الخدود.
إلا أن دور “الحسينية” تطور الآن وصارت تشمل مجالس العزاء التي تقام على أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم وأئمة الشيعة، فضلًا عن المناسبات الأخرى كالأفراح وذكرى الإسراء والمعراج وعيد الغدير، كما تقام كثير من الحسينيات بشكل أسبوعي، وتكون مخصصة للدروس والمواعظ والمسائل الفقهية، التي لابد أن يتم ربطها ابتداء وانتهاء بموقف من مواقف تضحيات الحسين يوم كربلاء.
متى بدأ؟
وقبل الدخول في تفاصيل انتشار الحسينيات الشيعية في مصر، لابد من إلقاء الضوء على بدايات ومراحل تطور دخول المذهب الشيعي فيها.
الوجود الشيعي في مصر، بدأ بوصول الفاطميين إلى حكم مصر سنة 969م، بعد قيام دولتهم في شمال أفريقيا، حيث اكتست طوال حكم هذه الدولة برداء الشيعة الفاطميين الذين أنشأوا الجامع الأزهر خصيصًا ليكون منبرًا لنشر المذهب الشيعي.
وطوال سنوات الصراع بين الدولة العثمانية السنيّة التي كانت مصر ولاية تابعة لها، وبين الدولة الصفوية في إيران، التي تعد الظهير والمرجعية السياسية للشيعة حول العالم، زاد الوجود الشيعي في مصر أضعافًا.
ومع بزوغ نجم محمد علي، ووقوفه في وجه الإمبراطورية العثمانية، نشطت العلاقات المصرية الإيرانية، وهو الأمر الذي تطور في عهد خلفاء محمد علي، ليصبح لإيران سفير معتمد في القاهرة في عهد الخديوي إسماعيل، كما نشطت العلاقات التجارية بين البلدين بشكل غير مسبوق.
وقد بلغ تنامي العلاقات السياسية ذروته عام 1939م بزواج الأميرة فوزية شقيقة فاروق الأول ملك مصر من ولي عهد إيران محمد رضا بهلوي، ولكن سرعان ما انتهى هذا الزواج، ومن ثم فترت العلاقات بين البلدين.
بعد يوليو 1952، تصاعدت دعوات التقريب بين المذاهب، التي أثمرت فيما بعد، وبالتحديد في عام 1958م، عن فتوى شيخ الأزهر محمود شلتوت بجواز التعبد على مذهب الشيعة الإمامية، حيث أكد في فتواه: “أنّ مذهب الجعفرية المعروف بمذهب الإمامية الاثني عشرية، مذهب يجوز التعبد به شرعاً كسائر مذاهب أهل السنّة، فينبغي للمسلمين أن يعرفوا ذلك، وأن يتخلصوا من العصبية بغير حقّ لمذاهب معينة”.
الفتوى أنعشت الوجود الشيعي في مصر، خلال فترة من عهد الرئيس الراحل أنور السادت الذي كان على علاقة وطيدة بشاه إيران محمد رضا بهلوي، حيث أمر بإنشاء بعض الجمعيات والهيئات الشيعية في مصر، مثل جمعية آل البيت، إضافة إلى السماح لبعض الطوائف الأخرى بالعمل كالبهرة، ووافق على قيامهم بتجديد وإعادة بناء مسجد الحاكم بأمر الله لإقامة شعائرهم فيه.
بقي الوضع هكذا حتى قيام الثورة الإيرانية سنة 1979م، والتي عارضها السادات وحل جمعية آل البيت، وأصدر شيخ الأزهر عبد الرحمن بيصار فتوى تبطل الفتوى التي سبق أن أصدرها الشيخ شلتوت.
وعلى مدى العقود التالية تعرض الشيعة في مصر للملاحقة والاعتقال بتهم تكدير السلم المجتمعي والإخلال بالأمن العام، مع الربط بينهم وبين إيران، فكانت تهمة التجسس لصالح طهران اتهامًا جاهزا في معظم القضايا، فضلًا عن تهمة الترويج لتنظيم شيعي يسعى لقلب نظام الحكم.
وتتلخص أهم قضايا الملاحقة التي جرت من قبل الأجهزة الأمنية تجاه الشيعة، في: قضية عام 1987، التي تمّ فيها القبض على عدد من الشيعة بتهمة التجسس لصالح إيران، وقضية عام 1988، التي اعتقل على إثرها مجموعة من الطلاب الشيعة العرب، وأخرى عام 1989 واعتقل فيها نحو 52 شخصًا، ورابعة عام 2002.
الثورة تنقل الحسينيات إلى العلن
بعد ثورة 25 يناير 2011، وما شهدته أحداثها المتلاحقة من سيولة سياسية ومجتمعية وانفلات أمني، انتقل الشيعة في مصر إلى مرحلة مختلفة كلية عما سبقها، حيث نشطوا في إقامة الحسينيات وتنافس قادتهم في الظهور الإعلامي، بل وصل الأمر إلى المطالبة بتكوين حزب سياسي تحت اسم “حزب التحرير”، رفضت المحكمة الإدارية العليا في سبتمبر 2012 إنشاءه، الأمر الذي أغضب وكيل مؤسسيه المفكر الشيعي أحمد راسم النفيس.
في مايو 2012 كان شيعة مصر على موعد مع لحظة فارقة، ربما لن تتكرر على المدى المنظور، وهو الشهر الذي شهد زيارة العالم الشيعي اللبناني “على الكوراني” والمقيم في قم الإيرانية إلى مصر، وإعلانه إنشاء أول حسينية بها.
الزيارة التي أحدثت حالة واسعة من الجدل والغضب الشعبي، انتهيا إلى إغلاق الحسينية، شهدت ندوات دينية خاصة عقدها الكوراني داخل بيوت عدد من الشيعة بالقاهرة والمحافظات، وإلقاء محاضرات لشرح عقائد الشيعة، وسط حشد من الشيعة المصريين.
وعلى الرغم من الهجوم الذي تعرض لها الرئيس الأسبق محمد مرسي بسبب المحاولات الشيعية للظهور فإن مواقفه النابعة من أيديولوجيته الإخوانية السنية حالت دون انتشار كان يطمح إليه الشيعة خلال عهده.
ولعل من أبرز تلك المواقف كلمته خلال افتتاح قمة دول عدم الانحياز في العاصمة الإيرانية طهران، حيث ترضى عن الصحابة (أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب)، الأمر الذي يخالف بشدة عقائد الشيعة الذين يعتبرون سب ولعن أبي بكر وعمر خصيصًا تعبدًا لله.
وقبل أيام من أحداث 30 يونيو 2013 التي مهدت للإطاحة بمرسي، استيقظت مصر على حادث بشع، قتل فيه أهالي قرية زاوية أبو مسلم التابعة لمركز أبو النمرس بمحافظة الجيزة رجل الدين الشيعي الأشهر في مصر “حسن شحاتة” و3 آخرين، ومثلوا بجثثهم.
لكن بعد أشهر من الإطاحة بمرسي، وتحديدًا في أكتوبر 2013، أعلن العالم الشيعي محسن العصفور، رئيس البحوث العلمية بالبحرين، عن افتتاح 4 حسينيات جديدة للشيعة في مصر، بمحافظات القاهرة والجيزة والإسكندرية.
وفي مارس الماضي، نقلت تقارير إعلامية عن مصادر إسلامية رصدها “تحركات عدد من قيادات الشيعة لتأسيس المجلس الأعلى للشيعة ليكون بمثابة هيكل تنظيمى لجموع شيعة مصر، وبمثابة مركز له مراجع فكرية، كما هو الحال فى مدينة قم الإيرانية”.
الشيعة يغزون مصر
هذا الإعلان كان بمثابة الرئة الجديدة التي أُذن لشيعة مصر أن يتنفسوا بها، إلا أن هذا التنفس ظل سريًا للغاية ودون إعلان، حيث انتشرت العشرات من الحسينيات الشيعية في العديد من المحافظات بعضها تحت سمع وبصر الدولة، لكن بلا إعلان رسمي تارة وتخفيًا تحت ستار “الحضرة الصوفية” تارة أخرى، أو في بيوت الشيعة تارة ثالثة.
تقارير إعلامية، كشفت المحافظات والمدن التي تتركز فيها الحسينيات الشيعية عن غيرها في مصر، وأبرزها كالتالي:
-مدينة المنصورة بمحافظة الدقهلية، حيث يوجد أحد أشهر الشخصيات الشيعية المصرية وهو الدكتور أحمد راسم النفيس الذي يعمل أستاذًا مساعدًا بجامعة المنصورة.
-الشرقية، حيث تم إلقاء القبض على أحد التنظيمات الشيعية، ويتركز الشيعة في هذه المحافظة في منطقة تسمى كفر الإشارة بالقرب من الزقازيق.
-المنوفية.. بدأ ظهور عدد من الشيعة على استحياء في مركز قويسنا ولكنهم لا يجاهرون بتشيعهم.
-أسوان.. حيث يعتنق العديد من سكان المحافظة المذاهب الصوفية، ويستغل الشيعة في ذلك حب الصوفية لآل البيت.
-الغربية.. حيث يوجد في طنطا ضريح السيد أحمد البدوي الذي يفد إليه الملايين من كافة محافظات مصر سنويًا.
ومن أبرز المراقد التي نجح الشيعية في تحويلها إلى حسينيات ضريح الإمام سلامة الرضا، والسيد الشاذلي، وضريح السيد أبو العزائم، وضريح الإمام صالح الجعفري، وضريح الإمام علي زين العابدين بن علي، وضريح الإمام محمد بن الحنفية الأخ غير الشقيق للحسن والحسين، وأخيرًا ضريح الإمام مالك الأشتر الذي يعد أخطر وأحدث حسينية في مصر.
وفي محافظة أسوان على وجه التحديد نجحت إيران في إنشاء 10 حسينيات شيعية داخل أضرحة ومراقد بعض الأولياء المنتسبين لآل بيت النبي، وهذه المراقد الصوفية الشيعية ترفرف فوقها الأعلام الحسينية الشيعية الخضراء، وفق تقارير إعلامية.
“علاء السعيد”، المتحدث الإعلامي باسم ائتلاف الصحابة وآل البيت قال إن القيادات الشيعية عندما تقرر أن تحول منازلها لحسينيات، فهي تشترط أن يكون البيت على أطراف المدن والمحافظات حتى لا يسمع منها صوت ويبلغ عنها الأهالي، مثلما حدث مع شحاتة، الذي قيل وقتها إنه حول بيته إلى حسينية.
وأوضح في تصريحات صحفية أن أبرز المناطق التي يتواجد فيها حسينيات في مصر، هي مدينة 6 أكتوبر، حيث يتركز العراقيون، مشيرًا إلى أن الشيعة منهم يقيمون الحسينيات في بيوتهم، علاوة على قرية الرجدية في طنطا، حيث منزل القيادي الشيعي المعروف عماد قنديل، المشرف على جمعية “أحباب العترة المحمدية”، ومن ضمن القيادات الشيعية الذين يشرفون على حسينية خاصة في منازلهم سالم الصباغ في المحلة.
كما لفت السعيد إلى أن أبرز المناطق التي توجد في قلب الجيزة ومشهورة بالحسينيات هي منطقة العمرانية، حيث يلجأ الشيعة إلى تغيير المنازل التي يقومون فيها بالحسينيات بحيث لا يتم رصدهم أو التعرف عليهم.
وتابع: المشهد في أسوان وصل لمرحلة خطيرة، حيث حول بعض المتشيعين أماكن بعض الساحات الشعبية إلى أسماء شيعية، مثل ساحة الرسول الأعظم، وساحة موسى الكاظم، علاوة على رفع الرايات الخضراء ومكتوب عليها “لبيك يا حسين” فوق الأضرحة.
اضف تعليقا