قبل شهور قليلة، لم يكن أحد يعتقد أن الوضع الليبي يمكن أن ينقلب رأساً على عقب، ويتحول إلى النقيض تماماً، بعد أن وصلت ميليشيات العميل “خليفة حفتر” إلى مشارف العاصمة طرابلس، وسيطرت على أكثر من ثمانين في المئة من التراب الليبي، مدعومة بكل مرتزقة الأرض من “الجنجويد” و”الأفارقة” وسفاحي “فاغنر” الروس بتمويل رهيب من الإمارات العربية المتحدة عميلة إسرائيل المدللة.
ورغم الإجماع الدولي الظاهري على شرعية حكومة طرابلس والاعتراف بها طبقاً لاتفاق الصخيرات، فإن أغلب الدول أغمضت عينيها عن الانتهاكات الجسيمة، والجرائم الفظيعة التي اقترفها القاتل المأجور “خليفة حفتر”، وقطيعه المتعطش للدماء والنهب وانتهاك الحرمات، فتحولت ليبيا بأكملها إلى ساحة خوف وأحزان وفوضى، لا يكاد يأمن فيها أحد حتى لو أغلق عليه باب داره.
فانتشرت معسكرات تدريب المارقين عن القانون والمتطرفين والمنبوذين من كل بلد، بهدف خططت له إمارة الإبل واستماتت لإنجاحه بكل ما أوتي في نفوس شيوخها المتصابين، من شر ونقمة على كل نفس حر يسعى لنشر الديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
وعلى امتداد سنوات، ظلت الإمارات تضخ الأموال الطائلة وتشحن الأسلحة لمرتزقتها، وتقصف بطائراتها التي يقودها طيارون صهاينة كل شبر من التراب الليبي، وساعدها في مخططها صنيعتها الانقلابي “عبد الفتاح السيسي”، بعد أن ارتضى أن يحول بلده العملاق إلى تابع لإمارة مجهرية لا يساوي عدد سكانها أصغر كفر في أغوار الصعيد.
ولعل ما خلق الفارق على الميدان كان التدخل الروسي الغاشم، الباحث عن موطئ قدم في حوض البحر الأبيض المتوسط والسيطرة على الثروة النفطية للقطر الليبي، وكادت الأمور تنتهي إلى ضياع حلم الليبيين في وطن آمن وموحد يسوده العدل والحرية، لولا التدخل الفارق في آخر لحظة لدولة تركيا التي أبت أن يتم الاستفراد بالشعب الأعزل وتدمير ممتلكاته وتبديد ثرواته وقتل حلمه في الانعتاق من الاستبداد، فكان أن تغيرت موازين القوى بفعل الدعم القوي على كافة الأصعدة، السياسية والاقتصادية والعسكرية فتغير الحال واستعادت الشرعية المبادرة فحررت أغلب الأراضي التي سيطر عليها الأوباش وشذاذ الافاق والخونة والعملاء، ووصلت القوات الشرعية إلى مشارف مدينة سرت الاستراتيجية وأصبحت العاصمة طرابلس آمنة إضافة الى أجزاء هامة من مساحة الوطن الليبي.
عند هذا الحد استفاقت القوى الدولية التي كانت مغمضة العينين وأصبحت تنادي بوقف القتال والركون إلى الحوار، ورغم المعرفة بأن هذه الدعوات تبحث فقط عن كبح جماح التقدم العسكري للقوات الشرعية، فإن حكومة “السراج”، قبلت التفاوض بعد أن أصبحت هي القوة الأساسية التي يعود إليها شأن التفاوض وأرغمت أعداءها على الاعتراف بها فحققت بذلك الهدف الأول.
أما الهدف الثاني: فتمثل في تصدع صفوف القوى الخارجية ودخولها في تنازع حول المصالح، إذ رفضت الولايات المتحدة الامريكية استفراد روسيا بالنفوذ في مناطق تعتبرها مصالح حيوية لها، خاصة بعد أن اكتوت بنار ترددها في الملف السوري، مما أتاح لروسيا التسلل إلى المنطقة والتوسع فيها بشكل عميق، لذلك سارعت أمريكا إلى الضغط على صبيانها في الإمارات وحذرتهم من مغبة التمادي في الفوضى في الملف الليبي، وهو نفس التحذير الذي وجهته “لعبد الفتاح السيسي”، الذي اندحر خائبا.
ثم تحقق الهدف الثالث: على الميدان بعد أن دخل الارتباك صفوف مليشيات “خليفة حفتر” وانقسم معسكره إلى ثلاثة أطراف: أولها معسكر “عقيلة صالح”، الذي أصبح يحظى بدعم روسيا ومصر وبدرجة أقل من فرنسا، وباعتراف دولي كرئيس لمجلس نواب طبرق (رغم أن أغلب النواب تخلوا عنه)، بالإضافة إلى تأييد قبائل الشرق، وعلى رأسهم قبيلة العبيدات (أكبر قبيلة في الشرق) التي ينتمي إليها، وبذلك نجح “عقيلة” في إفشال مخطط “حفتر” لحكم البلاد عبر تفويض شعبي وهمي، والحصول على حصانة رئيس دولة تحميه من محاكمة دولية على جرائم الحرب التي ارتكبها في ليبيا.
ثانيها: معسكر “القذافي” ويقوده “سيف القذافي”، نجل زعيم النظام السابق، والمختفي منذ سنوات بمدينة الزنتان منذ 2015، فبعد الإعلان عن إطلاق سراحه، وتحالف هذا المعسكر مع “حفتر”، في قتال الثوار السابقين، وانطلقت شرارة الاختلاف بين الطرفين وبلغ الأمر إلى حد التقاتل والإبادة.
أما الجزء الثالث: من المعسكر فبقي يسيطر عليه “خليفة حفتر” الذي مازال يحظى بدعم الإمارات، كما أنه لم يخسر تماماً الدعم الروسي والمصري، ويسيطر على بعض مليشيات الشرق، وبعد هزيمته في معركة طرابلس، وانهيار مليشياته في الغرب الليبي، لم يعد له الوهج القديم وأصبحت أيامه معدودة.
كل هذه الأهداف باتت حجر الزاوية في بناء واقع جديد في ليبيا، قوامه الاعتراف بالحكومة الشرعية في طرابلس من جميع الأطراف المتنازعة، واعتبار أن الحل السياسي في البلاد لا بد من أن يمر حتماً عبرها، والابتعاد عن مخططات التخريب التي تبنتها الإمارات العربية ومعسكرها فتحولت بذلك الحكومة الشرعية إلى المفاوض الأقوى الذي يمسك كل خيوط اللعبة بين يديه، واستبعدت أعداء البلاد المأجورين وأصبح بإمكانها الآن أن تلتفت إلى الشؤون التنموية وتحسين أوضاع الليبيين التي تردت بفعل سنوات الحصار والدمار وهو ما يتيح لها تنظيم صفوفها وتحصين مواقعها بما يهيئ لها مستقبل الانطلاق نحو تحرير باقي التراب الليبي وطرد فلول المرتزقة والعملاء بشكل نهائي.
اضف تعليقا