أحمد حسين

تتفرد حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بين الفصائل والتنظيمات الفلسطينية، بقدرتها على الاستمرار والتجدد ومواجهة التحديات والخروج من الأزمات بأكبر قدر من المكاسب وأقل خسائر.

وعلى مدار مسيرتها منذ التأسيس عام 1987 على يد الشيخ المقعد أحمد ياسين ورفاقه، واجهت الحركة محطات مفصلية كانت كفيلة بأن تنهي وجودها من الأساس أو تحولها على أقل تقدير من حركة تحمل السلاح ضد المحتل إلى التنسيق معه.

تبدو الأسباب الرئيسية في ذلك، بخلاف الامتداد الفكري والعقائدي والأيديولوجي للحركة، إلى أنها لا تستجيب بشكل عشوائي أو متسارع للظروف الخارجية، كما أن الضغوط الدولية لا تمارس تأثيرا مباشرا على حسابات قيادة حماس، كما نجحت الحركة في تطوير منظمة مؤسسات غير مشخصنة، ومليئة بآليات تربط قيادتها بالقاعدة الشعبية الأدنى.

ولعل الفهم الأعمق لتركيبة حماس يفسر إلى حد كبير كم المرونة التي تبديها الحركة في التفاعل مع المستجدات والتعاطي مع الأزمات، مرونة تصل إلى حد تقديم ما يوصف بالتنازلات في أبجديات الحركة وموروثاتها وقوامها الفكري.

قبل أيام فاجأت كتائب القسام الجناح العسكري لحماس العالم بدعوة هي الأولى من نوعها، مطالبة مؤيديها بتقديم الدعم المالي للكتائب عبر عملة “بيتكوين” الرقمية الافتراضية.

عبر هذا النداء عن أزمة حقيقية تمر بها كتائب القسام وحركة حماس ككل، على مستوى الدعم المالي وحاجاتها المتزايدة لتطوير ترسانتها العسكرية، في ظل حصار مطبق مفروض على قطاع غزة.

لكن كما عبر النداء عن أزمة خانقة، فإنه ينسحب على ذكاء شديد من الحركة، وتكيّف غير مسبوق مع مستجدات الأوضاع، في ظل حصار مطبق، مقابل حاجات متزايدة لجناحها العسكري تضمن بقاءه رهن الجاهزية اللازمة لأية مواجهة مع الاحتلال.

السبب الذي برر به المتحدث الرسمي للكتائب “أبو عبيدة” الأزمة اقتصر على تضييق الاحتلال الإسرائيلي، قائلا: “العدو الصهيوني يحارب المقاومة من خلال محاولة قطع الدعم عنها بكل السبل.. ومحبي المقاومة في كل العالم يحاربون هذه المحاولات الصهيونية ويسعون لإيجاد كافة سبل الدعم الممكنة”.

إلا أنه من المعروف والمعلن لدى كل الأطراف أن إيران هي الداعم الأول والرئيسي لحركة حماس وجناحها المسلح، ورغم التوتر الذي ساد العلاقات في أعقاب دعم الحركة للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، إلا أن الأمور عادت لمجاريها لكن ليس بالقوة ذاتها.

وعلى الرغم من أن المؤشرات تدل على عودة الدفء إلى العلاقات، إلا أن الأزمات التي تمر بها طهران – داخليا لوطأة الأزمة الاقتصادية وإقليميا بسبب النزاع في سوريا ودعم حزب الله لمواجهة مرتقبة مع إسرائيل، ودوليا نظرا لاستمرار العقوبات الأمريكية – تؤكد جميعها أن التمويل الذي تقدمه إيران ليس كسابق عهده بأي حال من الأحوال.

وبالإضافة إلى الأسباب السابقة، فإن العلاقة الوثيقة بين الطرفين لم تعد كما كانت قبل الثورة السورية، وربما لن تعود.

وسواء كان الدافع الرئيسي في هذا التحرك من القسام وطأة الحصار الإسرائيلي، أو حتى شح الدعم الإيراني وغيره من مصادر تمويل حماس، فإن المحصلة تشير إلى تكيف مع الظرف الخارجي أو الداخلي، والاستعانة بكل الوسائل المتاحة من أجل استمرار المقاومة، حتى ولو فُسر ذلك على أنه اعتراف بضائقة مالية غير مسبوقة لدى حماس.

ميلاد جديد للحركة

وفي عام 2017 تمكنت حماس من تحويل ما تواجهه من أزمات داخلية بسبب الوضع الاقتصادي ومسألة المصالحة وكذلك العلاقات المتدهورة مع الخارج، إلى فرصة كبيرة للميلاد من جديد.

وعبر خطوات قياسية ضخمة أثبتت حماس للجميع أنها قادرة على تغيير جلدها ليصبح أكثر شدة ومرونة في الوقت ذاته للتكيف مع مستجدات الأوضاع.

أصدرت حماس في الأول من مايو ميثاقا جديدا فاجأ العالم كله، لأنه تضمن ما اعتبره كثيرون تخليا عن ثوابت ومبادئ أُنشئت الحركة على أساسها، حيث فكت ارتباطها بجماعة الإخوان المسلمين، واعترفت بدولة للاحتلال على حدود عام 1967.

وفي العام نفسه أوصلت انتخابات حماس كل من إسماعيل هنية إلى منصب رئيس المكتب السياسي للحركة، وصالح العاروري نائبا له، ويحيى السنوار إلى رئاسة الحركة في غزة.

وفي حين صُنف الأخيران في خانة المتشددين، إلا أنهما تحركا باتجاه التوصل إلى اتفاق مصالحة مع السلطة الفلسطينية وحركة فتح، وبينما بدت الصعوبات المحيطة بهذه المسألة عصية على الحل، منحت مكانة القياديين كسجينين سابقين لدى الاحتلال وكونهما وجهين جديدين، تحركًا دَفَعَ حماس في اتجاه جديد.

وسمحت حماس للإدارة في قطاع غزة الذي تحكمه، بالتعاون مع وزارات السلطة الفلسطينية التي تتخذ من الضفة الغربية مقرا لها، بعدما كانت هذه العلاقة قد انقطعت قبل عقد من الزمن، وصولا إلى ترتيبات لم تنته بعد لإحكام السلطة قبضتها على القطاع.

في الحكومة لأول مرة

في يناير 2006، حققت حماس انتصارا كاسحا على فتح في الانتخابات التشريعية لتنضم لأول مرة إلى الحكومة بل وتشكلها، لكن هذا النصر جلب ردا دوليا قاسيا، فقد سعت اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط إلى فرض شروط على حماس مقابل مواصلة المفاوضات مع إسرائيل.

اشتملت هذه الشروط على الاعتراف بإسرائيل، والقبول بالاتفاقات السابقة معها، ونبذ العنف، وعندما رفضت حماس الامتثال لهذه الشروط، اتخذت إسرائيل والولايات المتحدة خطوات الهدف منها توليد استياء شعبي ضد حكومة حماس في غزة والضفة الغربية.

توقفت إسرائيل عن تحويل الإيرادات الضريبية إلى الحكومة الفلسطينية الجديدة بقيادة حماس، في حين توقف الداعمون الغربيون عن دعم الموازنة، وحتى المصارف الخاصة أنهت تعاملها مع الحكومة الجديدة.

تحت تأثير هذه الضغوط، اتفقت حماس مبدئيا مع فتح على تشكيل حكومة وحدة وطنية في عام 2007، إلا أن الجهود الهادفة إلى الإطاحة بها استمرت، لكنها فشلت كثيرا بفضل قدرة حماس على إدارة الأزمة داخليا.

في يونيو 2007 وإثر تصاعد حدة الصراع على السلطة بين فتح وحماس للسيطرة على مؤسسات السلطة الفلسطينية خاضت الحركتان مواجهة عسكرية في غزة انتهت بسيطرة حماس وتوليها الحكم منفردة في غزة.

ورغم أن رفض حماس الإذعان إلى الشروط التي وضعتها اللجنة الرباعية الدولية أسفر عن حصار مشدد حوّل غزة إلى سجن كبير، إلا أن الحركة زادت من رصيدها الشعبي، الذي خفف كثيرا وطأة الحصار.

اقتصاد الأنفاق وسقوط الإخوان

بعد سيطرة حماس على غزة، أقدمت السلطة الفلسطينية على إقالة الحكومة بقيادة حماس، مع قطع الرواتب عن أعداد ضخمة من موظفي السلطة في غزة والذين عينتهم حكومة حماس.

لكن حماس ردت بإنشاء إدارة موازية، فاستخدمت آلاف الموظفين الذين رفضت السلطة الفلسطينية تسديد رواتبهم، كما شجعت على نمو “اقتصاد الأنفاق” لمواجهة الأزمة المالية الناتجة عن الحصار وقطع الرواتب،.

وكان النشاط الاقتصادي يتم عن طريق مئات الأنفاق التي حُفِرت تحت الحدود بين غزة ومصر، فساهم ذلك في تأمين وظائف لأبناء القطاع وفي حصولهم على السلع بأسعار زهيدة، ما زاد رصيد حماس الشعبي.

وبحسب تقارير إعلامية، فقد ارتفعت إيرادات حماس نتيجة للنشاط عبر الأنفاق، وتراوحت بحلول عام 2009، بين 150 و200 مليون دولار سنويا، وارتفع هذا الرقم إلى نحو 375 مليون دولار عام 2011، وتراجعت نسبة البطالة في غزة من 45 إلى 32 %، فاستقر حكم حماس ووجدت ضالتها في وصول الإخوان المسلمين بمصر إلى رأس السلطة عام 2012.

لكن التحدي الجديد والأكبر للحركة كان بعد عام واحد، عندما أطاح الجيش المصري بالرئيس محمد مرسي، ليضع النظام الجديد المتماهي مع الاحتلال حدا لاقتصاد الأنفاق، فنتج عن ذلك ضغوط اقتصادية أرغمت حماس على القبول باتفاق الشاطئ المبرم في 23 أبريل 2014، مع فتح وكان الهدف منه السماح للسلطة الفلسطينية بقيادة فتح ببسط حكمها على غزة من جديد،لكنه انهار على وقع العدوان الإسرائيلي على غزة صيف العام نفسه.

ومع انهيار اقتصاد الأنفاق وقيام السلطة الفلسطينية بفرض إجراءات عقابية، وصل التململ الشعبي في غزة إلى أوجه وكان أمام حماس خياران لا ثالث لهما، إما المصالحة مهما كان الثمن وتسليم إدارة غزة إلى فتح، وإما القبول بكارثة غير مأمونة العواقب والمآلات.