لسنا بصدد حديث عن قواعد تفكير سليم أو ما إلى ذلك، وإنما فقط أحاول الإبانة عما بداخلي من مشاعر ونظرات تجاه الكون والحياة، لم أدعي يومًا الصحة المطلقة بل على العكس أراعي آراء الآخرين كجزء رئيس من الصورة الكبيرة والفهم الشامل للحالة، وهذا الأمر يساعدني كثيرًا في أن أكون متسامحة لأبعد مدى مع جميع التنويعات من حولي سواء أكانت عقدية أم اجتماعية أو حتى سياسية، كما يضعني بكل أريحية أمام تهجم البعض أو شتمهم ولعنهم مُشفِقةً ومتمنيةً لهم يومًا أن ينزعوا كل هذه الحماسة المهلكة التي ربما تحجب عنهم كثيرًا من الرؤية وتضعهم في خانات من المحدودية لا يبرحونها.
إن الطريق إلى الله والترغيب فيه لا يحتاج لكل هذا الصراخ وكل هذا اللعن، أستغرب حقًا أولئك الأشخاص الذين يعتقدون أنهم يدافعون عن ذات الله وطريقه بالسب والشتم، الله طيب لا يقبل إلا طيبًا، فما بالكم إذًا تفعلون، خلو بين الناس وبين ربهم، واعلموا أن الله يومًا لم يعطي أحدًا رخصة أن يتحدث باسمه، بل أعطانا نحن البشر جميعًا عقلًا وميزنا به عن سائر مخلوقاته؛ كي نفكر ونزن الأمور والأيام والأعمار، ومن ثم نصل بكل هذا إلى تحري طريقه والوصول إليه، إن معالجة الشكوك التي تطرأ في نفوسنا حول حقيقة الكون والحياة ما ابتدعناها أو أوجدناها من عدم، وإنما هي محطة مر وسيمر منها كل إنسان قدر عقله وبحث جاهدًا من خلاله عن يقين نهائي يحتاجه.
مع الوقت يصبح الإنسان أكثر انفتاح على النقد إيجابي أو سلبية في الغالب فأنت تصبح صادق مع نفسك بحيث لا تعبئُ بكلام الذامّين كثيراً بل لا يشكل فرقا ابدا، حتى إنك لا تكاد تدقق في الكلام الهجومي الفارغ والذي القصدُ منهُ شخصيٌّ بالمقامِ الأول، فتتجاوزه –متجاهلا- كأن لم يكن شيئاً مذكوراً، ربما لأنك لا ترضى إلا بما تراه مقنعاً أو وجيهاً، فهذا هو ما سيتوقف، إذ لم يكلفنا الله تعالى بالاقتناع بما لا دليلَ ولا برهان عليه، لأن هذا من تكليف ما لا يطاقُ وهو مرفوع في الشريعة.
فما أشقها على النفوس الحرة أن تُرغم على الاقتناع بما ليس مقنعاً، ولمّا كان الإرغام على القناعة كالإكراه على الإيمان فكلاهما غير ممكن واقعياً ولا هو مشروع أصلاً ؛ كانا مرفوعين في الشريعة، فلا إكراه في الدين، ولا إجبار في القناعة .!
إن القناعات القسرية كإيمان المكره لا تنفعُ في الدنيا ولا تنجي في الآخرة. إن الدليل الضعيف إما في دلالته أو ثبوته كلا شيء، ولا قيمة له، ولا يُلزمُ أحداً بشيءٍ، لأنه يفتقد القوة الدليلية، أي أنه عاجزٌ ومتعطل عن البرهنة. كما أننا لسنا بملزمين بمسايرة الآخرين في قناعتهم، مهما أنسوا بها، وطال عليهم وعليها الأمدُ فلم يستسيغوا –نفسياً- مخالفتها، فأُلقي في روعهم أنها “الحق” أو “الصحيح” أو ما شابه.. وهنا يصير مجردُ الإلف الطويل هو المبرر الوحيد لتحويل بعض المعطيات الثقافية وتصعيدها إلى مدارج “الحقائق المنزهة”، فمجرد اقتناعك بالشيء لا يجعله حقاً، ولا يمنحه صفةَ الصواب، كما أن ادعاء الدليل ليس دليلاً. ولذا فالواجب يقتضي من كل شداة المعرفة أن يُعوّدوا أنفسهم على المطالبة بالدليل والبحث عنه، أي المساءلة الدائمة بشأنه، ثم فحص ما يبدو -للوهلة الأولى- دليلاً أو حجة، كما عليهم أن يتأملوا فيما يمكن أن يكون دليلاً مؤيداً أو معارضاً للفكرة المطروحة، مع ضرورة العناية بامتلاك التصور الصحيح عنها، وأيضاً في فهم مكامن قوة ووجاهة الدليل نفسه، وبهذا الاعتياد المعرفي الرفيع المستوى تتأس قناعاتنا على قواعد.
اضف تعليقا