العدسة – ربى الطاهر

تناول العلماء منذ القدم البحث وراء الدوافع لانتهاج السلوك الإجرامي، ولماذا ينحرف أشخاص بعينهم عن  الطريق السَّوِيّ، إلا أنّ كل الدراسات لم تاتِ بإجابةٍ قاطعةٍ أو قاعدة يمكن اعتمادها لاكتشاف السبب وراء ذلك.

ولم يكن البحث في أسباب ارتكاب أشخاص بعينهم للجريمة ولكنهم اختلفوا في وجود أسباب يمكن أن تعمم على كافة مرتكبي الجريمة من بني البشر بمختلف الأماكن والأزمان.

ولم تبحث الجريمة وأسبابها من ناحية زاوية واحدة، وإنما تم تناولها من كافة الدراسات العلمية سواء كانت علم النفس أو علم الاجتماع أو القانون أو الطب أو الفلسفة.. الخ لذلك جاءت العديد من النظريات التي تختلف أرضيات انطلاقها وبالتالي نتائجها فهناك من قال إنها مشكلة نفسية أو اجتماعية أو ترجع لجينات وراثية، وغيرها من التحليلات التي لم تكن أكثر من مجرد نظريات لم يتم إثباتها بالدلائل والبراهين.

حتى جاءت إحدى تلك الدراسات مؤخرا لتضيف نظرية جديدة إلى سابقاتها فقد صرح باحثون أمريكيون باكتشافهم سببا جديدا يقف وراء زيادة ارتفاع معدلات الجريمة في العالم أجمع وربما يضيف زاوية جديدة لم يتم تناولها مسبقا في مسببات الجرائم التى كانت تذكر من قبل ليضاف بها علم جديد في دراسة الجريمة.

وذلك بعد أن خرجت تصريحات لعلماء من كلية كولومبيا للأعمال في نيويورك عن قيامهم بدراسة جديدة كشفت عن أهم مسببات الجريمة في الوقت الحاضر، وكان هذا من وجهة نظرهم إنما يعود إلى ذلك التلوث الهوائي الذي امتد خطره من آثار خطيرة على الصحة البدنية إلى الصحة العقلية وكذلك النفسية وخاصة لسكان المدن المزدحمة التي تصل فيها مستويات التلوث إلى أقصاها.

وتناولت الدراسة 9360 مدينة أمريكية وثبت منها أن أكثر المدن التي تتعرض للتلوث الهوائي بعد دراسة امتدت لـ 9 سنوات كانت أكثر المدن ارتفاعًا في نسب ارتكاب الجرائم خاصة وأن ذلك كان بعيدا عن المسببات الأكثر شهرة والأكثر تقبلا كذلك مثل عوامل الفقر والبطالة والمسببات الاجتماعية الأخرى مثل معدل دخل الفرد والشرائح الاجتماعية.

وظهر أن هناك سبعة أنواع من الجرائم ارتفعت في تلك المدن ومنها القتل والسلب والنهب وهو ما دفعهم إاصدار التحذيرات من ارتفاع معدلات الجريمة في كافة أنحاء العالم؛ حيث إن التلوث الهوائي أصبح أمرا عاما على كافة مدن العالم ويتعرض له كل سكان الأرض.

ولكن جهودًا أخرى بذلها علماء آخرون اعتنوا بدراسة الجريمة، لمعرفة أسبابها والدوافع وراء ارتكابها وفي محاولاتهم تلك استعانوا بالعلوم الإنسانية وكذلك التجريبية واستنكروا الوسائل القديمة التي اتبعت لمعرفة تلك الأسباب، والتي غلب عليها الطابع التجريدى؛ حيث رأوا أنه غلب على جهود الباحثين خلال عدة قرون أثناء البحث عن تفسيرات للسلوك الإجرامي بعض التفسيرات التي اعتبرت الجريمة بسبب الأرواح الشريرة التي تدخل جسد ذلك الإنسان المجرم لتفسد نفسه وروحه أو هي من وسوسة الشيطان.

أسباب وقوع الجرائم

ولكن مع مرور الوقت ذهبت نظريات أخرى إلى عودة الجريمة لعوامل جغرافية تؤثر على نسب ارتفاعها وانخفاضها، بحسب تغير المناخ سواء كانت ارتفاع درجات الحرارة أو انخفاضها لدرجة البرودة أو حتى الأمطار، وكذلك الجفاف والرطوبة بالإضافة لعوامل الطقس الأخرى مثل الضغط الجوي والعواصف والرياح.. الخ

وتوصلوا في نتائجهم إلى أن الجرائم التي تتسم بالعنف “الاعتداءات الجسدية” ترتفع في المناطق ذات المناخ الحارّ أو في بعض الفصول الحارة والعكس كذلك فهي تنخفض في المناطق الباردة أو في الفصول الباردة أيضًا.

بينما تأتي جرائم الأموال التي تزيد في المناطق الباردة وتنخفض في المناطق الحارة وجاءت تلك النتائج بناء على إحصائيات لبعض الدول كفرنسا.

بينما أرجع البعض نوعَ ونسبةَ الجريمة إلى اختلاف الموقع الجغرافي فالمناطق الأقرب إلى خط الاستواء ترتفع فيها جرائم العنف، بينما المناطق التي تقترب من القطبين فأنواع الجريمة فيها ترتبط بالمسكرات والمخدرات.

في حين رأى فريق آخر أنَّ السبب في ارتفاع مستوى الجريمة يعود إلى أسباب نفسية وعصبية ربما تؤدي بالإنسان إلى عدم  تحقيق التوازن في التحكم بشهواته التي ترفض القيود وبين الضوابط الاجتماعية التي تفرض القيود فتنتصر الغرائز والشهوات لإشباعها حتى لو كان ذلك بارتكاب الجريمة.

في الوقت الذي ظل جانب آخر يتمسك بالعوامل الاجتماعية والاقتصادية مثل الفقر الذي اعتبره هذا الفريق عاملًا أساسيًا في زرع بذرة الإجرام أو البيئة التي تساعد على تهيئة الفرصة لارتكاب الجرائم.

ومنحى آخر اتَّجه إلى العوامل السياسية التي رأى أنها أهم أسباب ارتفاع نسب الجرائم ومنها مثلًا النظرية الماركسية التى تعتبر أنَّ تلك المتناقضات التي يوجدها المجتمع الرأسمالي تولد أنواعًا من الصراع تمثل الجريمة فيه صراع الإنسان مع الظروف المحيطة به.

الانعكاسات الصحية لتلوث الهواء

كما أظهرت دراسة طبية أخرى استمرّت لمدة ثلاثة عقود أنَّ التلوث الهوائي يتسبّب في ارتفاع مستوى الرصاص في الدم خلال فترة الطفولة والذي يترتب عليه تراجع مستوى الذكاء لدى الأطفال وهو ما يعضِّد بدوره أن التلوث الهوائي، وخاصة مادة الرصاص لها تأثير قوى على تلف الخلايا العصبية.

وليس هذا فحسب فالتأثيرات السلبية التي يترك أثرها تلوث الهواء على صحة الإنسان لا حصر لها فهو عامل مهم للمساهمة في الإصابة بالعديد من الأمراض منها أنواع  السرطان المختلفة وأمراض الرئة ومرض القلب التاجي ومرض السكري وكذلك السكتة.

كما أصدر البنك الدولي في عام 2016 إحصائية عن تسبب تلوث الهواء في الوفاة تقول إن هناك شخص من بين كل عشرة أشخاص يتسبّب في هذا النوع من التلوث في وفاته ويزداد العدد في الدول الفقيرة، حيث تصل نسبة الوفيات فيها إلى 93% بالإضافة إلى الإصابة بأمراض أخرى ربما لا تؤدي إلى الوفاة، وهو ما يجعله رابع أكثر العوامل خطورة على المستوى الدولي.

أما منظمة الصحة العالمية فقد ذكرت أن 2،4مليون شخص يموتون سنويًا بسبب مباشر لتلوث الهواء، ونسبة 1.5 مليون شخص يموتون لنسبة تلوث الهواء الداخلي.

كما قامت المنظمة بتقييم عوامل الخطر في زيادة نسبة الأمراض وتبيّن منها أن تلوث الهواء وخاصة في الأماكن المغلقة يحتلّ المرتبة الثامنة ضمن أكثر العوامل خطورةً بل إنه يتسبّب في 7ر2% من نسبة المرض على مستوى العالم.

وربما تعود وفاة 6ر1 مليون شخص على الصعيد العالمي  نظرًا لتعرضهم لحرق الوقود الصلب في الأماكن المغلقة، وهو ما يؤدي بهم إلى الإصابة بالالتهاب الرئوي والأمراض التنفسية المزمنة وسرطان الرئة.

وترتفع نسبة الأمراض التي يتعرض لها الإنسان نتيجة تلوث الهواء  بالأماكن المغلقة إلى خمسة أضعاف عنها في الأماكن المفتوحة، بل ويتسبب تلوث الهواء بالأماكن المغلقة في البلاد التى ترتفع بها نسب الوفيات إلى  7ر3% من نسبة الأمراض العالمية، وبهذا يكون هذا النوع من التلوث من أهم الأسباب المؤدية للوفاة بعد سوء التغذية والاتصال الجنسي غير المأمون وعدم توفر المياه.

وهناك نتائج لبعض الأبحاث تذكر أن التعرّض لتلوّث الهواء في الأماكن المغلقة يرفع نسبة  احتمال إصابة الأطفال دون سن العاشرة بالالتهاب الرئوي وإصابة البالغين الذين تتجاوز أعمارهم 30 عامًا بالأمراض التنفسية المزمنة وسرطان الرئة (نتيجة استخدام الفحم).

كما جاءت بعض الدراسات الأخرى التي تربط بين تلوّث الهواء في الأماكن المغلقة وبين نتائج الحمل الضارة، وعلى وجه الخصوص انخفاض وزن الولدان والإقفار والسرطان البلعومي الأنفي وسرطان الحنجرة.