العدسة – معتز أشرف:                               

في تقدير موقف مهم حول الأزمة النووية الإيرانية وأبعادها صادرٍ عن المرصد السياسي لمعهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى والمقرَّب من دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة الامريكية، أكّد المرصد حرص إيران على النموذج الياباني في الوصول للعتبة النووية رغم كل الإجراءات المضادة، ورجّح أن تنتهج طهران استراتيجية حافة الهاوية بالانسحاب من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية”؛ أملًا في إعادة التفاوض حول شروطها مع المجتمع الدولي، وهو ما نستعرضه.

نموذج طوكيو!

تقدير الموقف الذي وصل “العدسة” أعدَّه الخبير الاستخباراتي الإسرائيلي عومير كرمي مدير الاستخبارات في شركة الأمن السيبراني الإسرائيلية “سيكسجيل” والزميل العسكري السابق في معهد واشنطن، وينظر لتقديراته بأهمية في أوساط كثيرة، خاصة أنه قاد سابقًا جهودًا تحليلية وبحثية في “جيش الدفاع الإسرائيلي”، ويرى أنّ طهران اختارت نموذج طوكيو لتصبح دولة على العتبة النووية على المدى الطويل.

وأوضح أنّه بالعودة إلى عام 2006، في ذروة الأزمة النووية الأولى بين إيران والغرب، حلل نائب وزير الخارجية الإيراني محسن أمين زادة استراتيجية طهران النووية الفاشلة في مقال افتتاحي سلط فيه الضوء على سبل المضي قدمًا،  وذكر أنه تعين على إيران الاختيار بين نموذجين مختلفين لمستقبلها النووي: اليابان أو كوريا الشمالية. ومن خلال التوقيع على «خطة العمل الشاملة المشتركة» في عام 2015، بدا أن طهران اختارت نموذج طوكيو غير أنّ القرارات التي اتخذها الرئيس ترامب مؤخرًا بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» ومتابعة المفاوضات النووية مع بيونج يانج قد تدفع بالقادة الإيرانيين إلى إعادة النظر في خيارهم.

وأشار إلى أنّ رد إيران على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي من خلال التحذير من أنها ستكثّف بشكل ملحوظ جهودها لتخصيب اليورانيوم ما لم تستجب الأطراف الأخرى- أوروبا كما يُفترض- لمطالباتها بالتعويض، كان خطوةً أخرى في استراتيجية طهران للوصول إلى العتبة النووية، بدأت بإيعاز المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إلى “منظمة الطاقة الذرية الإيرانية” بالبدء باستعدادات فورية لإنشاء 190 ألف وحدة عمل منفصلة، وهي وحدات معيارية لقياس إنتاج أجهزة الطرد المركزي من اليورانيوم، وعلى الرغم من تأكيده على أن هذه الخطوة لا تزال ضمن القيود المفروضة بموجب «خطة العمل الشاملة المشتركة»، إلا أنّ هذا العدد يكاد يكون 40 مرة أكبر من قدرة إيران الحالية على التخصيب، وبالتالي إذا نفّذ النظام الإيراني تهديده، سيشكل ذلك خطوةً أخرى في استراتيجية طهران للوصول إلى العتبة النووية- القائمة على تطوير المواد الضرورية للأسلحة النووية بقدر الإمكان دون إنتاج الأسلحة المذكورة فعليًا أو بطريقة أخرى.

العتبة النووية اليابانية

وأضاف المرصد السياسي لمعهد واشنطن في تحليله أنّه خلال العقدين الماضيين نظر مختلف المسؤولين الإيرانيين بحسد إلى مكانة اليابان على المستوى النووي، بحسب وصفه، فمن وجهة نظرهم، نجحت طوكيو في اكتساب ثقة المجتمع الدولي وبناء دورة وقود نووي على الرغم من ماضيها العدائي، ومن خلال قيامها بذلك أصبحت دولة على عتبة نووية قادرة بسرعة على إنتاج أسلحة نووية إذا ما رغبت في ذلك، كان وضع اليابان على الصعيد النووي بعد الحرب العالمية الثانية مماثلاً لوضع إيران الحالي، لكن هذه الجزيرة بنت منذ ذلك الحين 55 محطة للطاقة الذرية، ومع ذلك، تغفل مثل هذه التصريحات بشكل ملائم بحسب المرصد الثمن الباهظ الذي دفعته طوكيو لكسب الثقة الدولية وجني الفوائد النووية؛ حيث اضطرت اليابان إلى إحداث تغيير جذري في سياستها الخارجية بعد الحرب، لتصبح قوةً في شرق آسيا بحكم الأمر الواقع، وحُرّمت دستوريًا من المشاركة المستقبلية في النزاعات في الخارج. وفي المقابل، تواصل إيران تصدير ثورتها الإسلامية وزعزعة استقرار الحكومات في الشرق الأوسط وما يتخطاه بحسب تقدير معهد واشنطن.

وأضاف- في محاولة لإثبات حرص إيران على امتلاك السلاح النووي، أن صدْمَتَيْ هيروشيما وناجازاكي أدتا إلى دفع اليابان إلى التعهد بعدم السعي قط إلى امتلاك أسلحة نووية- وفي الواقع، أصبحت من أبرز المنادين بنزع السلاح النووي، ولكن القادة الإيرانيين أمروا بتنفيذ أعمال التسليح النووي بشكل سِرّي خلال السنوات الماضية، بحسب ما زعم التقرير، كما تعاونت طوكيو مع “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” بحسن نية على مر السنين، وأزالت أي خوف من أنها قد تسعى للحصول على أسلحة نووية، وبالمثل حاول المسؤولون الإيرانيون جعل المجتمع الدولي يؤمن بأنهم أيضًا يتعاونون بشكل كامل، لكن تقارير “الوكالة الدولية للطاقة الذرية” من الفترة 2011-2015 توضح بجلاء سعي طهران غير المشروع إلى امتلاك سلاح نووي.

 

وأشار إلى أن قرار إيران بالتفاوض بشأن الاتفاق النووي وقبول القيود المؤقتة على برنامجها محاولةً واضحة لتحقيق المكاسب نفسها تمامًا كاليابان، ولكن دون تبنّي أهداف طوكيو السلمية أو نفورها من أسلحة الدمار الشامل.

نموذج كوريا الشمالية

وشدّد المرصد السياسي لمعهد واشنطن على أنه على الرغم من أن العديد من المحافظين الإيرانيين مُعجبون على الأرجح بقدرة نظام كيم على إنتاج أسلحة نووية والحفاظ في الوقت نفسه على السلطة السياسية، إلّا أنهم حذرون دون شك من

الثمن الذي دفعته بيونج يانج، فكوريا الشمالية هي إحدى أفقر المجتمعات وأكثرها استبدادًا في العالم،  ولا يتطلع المسؤولون الإيرانيون إلى التمثّل بوضعها الاقتصادي، ونظرًا إلى فترات الاضطرابات الدورية التي تشهدها الجمهورية الإسلامية منذ ثورة عام 1979، قد يطرح اتباع المثال الكوري الشمالي خطرًا كبيرًا على الدعم الشعبي للمرشد الأعلى، ومع ذلك، فقد حثّ المتشددون البارزون النظام الإيراني مرارًا على النظر في هذه الفكرة بالذات.

 

وأشار تقدير الموقف إلى أنه رغم ذلك، قررت طهران كبح نفسها، على افتراض أن السبب يُعْزَى إلى أن استراتيجيتها النووية نابعة من هدف أساسي يتمثل بالحفاظ على النظام مهما كان الثمن، ورغم الإشارة إلى المزايا الاستراتيجية لكوريا الشمالية (أي الانسحاب من “معاهدة حظر الانتشار النووي” وإنتاج سلاح لتحقيق الردع النووي)، اتخذت إيران مسارًا آخر وهو اعتماد أجزاء من نموذج اليابان من خلال تطوير برنامج التخصيب والانخراط مع الغرب في الوقت نفسه، وموافقتها في وقت لاحق على «خطة العمل الشاملة المشتركة»، للتخفيف من العقوبات الاقتصادية الصارمة.

عودة معضلة إيران

ووصف المرصد السياسي للمعهد قرار الرئيس ترامب بالانسحاب من «خطة العمل الشاملة المشتركة» وإعادة فرض العقوبات بأنه ضربةً كبيرة للمناصرين الإيرانيين للنموذج الياباني، فالرئيس روحاني يرزح تحت وطأة ضغوط كبيرة يمارسها خامنئي وغيره من المحافظين الذين يلقون اللوم عليه بسبب دوره في السعي إلى التوصل إلى الاتفاق المذكور، وإذا عَجَز عن توفير الحلول للوضع الاقتصادي والسياسي الناتج في إيران، فقد يضغط بعض المتشددين على الحكومة لتنفيذ التحذيرات التي أصدرتها في الأشهر الأخيرة بالانسحاب من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية”، كما أنه بانعقاد قمة ترامب وكيم جونج أون قد تقتنع طهران بأن واشنطن مستعدة أخيرًا للموافقة على حكم النظام الكوري الشمالي، ومن المحتمل أن تدفع بعض المحافظين إلى الادعاء بأنّ السبيل الوحيد لمقاومة الغرب هو الحصول على أسلحة نووية والتفاوض من موقع قوة.
ورجّح تقدير الموقف أنّ الأشهر القليلة القادمة ستكون مهمة لمستقبل إيران؛ إذ سيتحتم على قادتها حسم موقفهم بين اتخاذ إجراءات قاسية لكبح الضغط الأمريكي أو لعب دور الضحية والاكتفاء باتخاذ إجراءات محدودة، وستشكل الديناميكات بين إيران وواشنطن وأوروبا- لاسيما احتمال الحصول على تعويضات اقتصادية من هذه الأخيرة- العامل الرئيسي في تحديد معالم هذا القرار، غير أنَّ الأحداث الجارية في شرق آسيا والمفاوضات بين ترامب وكيم قد يؤثران على سلوك النظام الإيراني، خاصة إذا قررت إيران أن تكون عنيدة، وهو ما قد يدفعها إلى أن تنتهج استراتيجية حافة الهاوية وتنسحب سرًا من “معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية” أملًا في إعادة التفاوض حول شروطها مع المجتمع الدولي.