العدسة – معتز أشرف
في دراسة جديدة لوحدة الأبحاث بمركز كارينجي للدراسات بالشرق الأوسط سقطت ديار الأمير الطائش محمد بن سلمان في الفشل بجدارة؛ حيث وثقت الدراسة دور السعودية في دعم قبضايات التطرف السلفي في لبنان، والذين استخدمتهم لمواجهة حزب الله وإيران في لبنان وسوريا، ولكن وصل الحال بهم إلى صعود دورهم بشكل واضح في المشهد اللبناني.
أكدت الدراسة أن لبنان شهد في الآونة الأخيرة نموًا مُطّردًا للتشدُّد السلفي، حيث انعكاسات وتداعيات الحرب السورية والتوترات الطائفية كعوامل مغذّية لهذا التطور، موضحة أن تفاقم العنف السلفي هو في الواقع عارض من عوارض تظلُّمات السنّة اللبنانيين التي فشلت النخبة السنية في معالجهتها حتي الآن، لكن يوفّر الاستقرار السياسي النسبي الراهن فرصة فريدة لصانعي السياسة اللبنانيين من كل الأطياف كي يتوحّدوا صفاً واحداً لسنّ الإصلاحات الهادفة إلى معالجة هذه الأسباب المحلية من جذورها.
3 أسباب
رافاييل لوفيفر الباحث غير مقيم في مركز كارنيجي للشرق الأوسط في بيروت، الذي تتركّز أبحاثه على الحركات الإسلامية السنّية في لبنان، صاحب الدراسة التي وصلت “العدسة”، يرى أن جوهر صعود التطرُّف السلفي ينبع من بيئة تمرّد اجتماعي- سياسي متفشية في المناطق السنّية المُهمَّشة. إذ هناك، تشي ظاهرة قبضاي السلفية المتنامية بأن سطوة الجماعات السلفية الجهادية تتعلّق بالديناميكيات الاجتماعية وليس، في المقام الأول، بأي جاذبية إيديولوجية متطرّفة.
وأوضح أن جماعة القبضايات تحتضن غالباً السلفية كوسيلة لغايات أخرى، مثل ادّعاء وجود دعم سماوي ضمني لهؤلاء القبضايات في حمأة صراعاتهم على السلطة والموارد. كما أنهم يستخدمون الخطاب المتطرّف لتبرير الانضمام إلى المتمردين في سوريا، أو لتغطية أعمال العنف التي تبدو في ظاهرها شبيهة بالتشدّد السلفي، لكنها في الواقع أكثر تناغماً مع التقاليد المحلية المتعلّقة بالصراعات الاجتماعية.
واستنكرت الدراسة تعامل الحكومة اللبنانية مع الظاهرة والأزمة، وقالت: ” بدلاً من الإطلالة على هؤلاء المُتشدّدين كعوارض للبيئة الاجتماعية والسياسية البائسة التي انبثقوا منها، تقاربهم الحكومة اللبنانية من منظور أمني، فتُرسل المئات منهم إلى السجون التي تعاني أصلاً من أوضاع مزرية تؤدي، إضافةً إلى لامبالاة الساسة السنّة، إلى قذفهم نحو أشداق التطرّف، فضلا عن إضفاء الطابع الأمني على اللاجئين السوريين، والخلل المتمادي لدار الإفتاء. لكن حتى الآن على الأقل، لاتزال قدرة المُتطرفين السلفيين على الغرف من هذه الإمكانيات الثورية، محصورة في إطار قطاعات محدودة من الجمهور السنّي”.
للسعودية دور!
السعودية وفق الدراسة كانت سببا في تصاعد التطرف السلفي في بلاد الأرز، وأوضحت الدراسة أن لبنان كان هدفاً رئيساً للتطرّف والتشدّد الإسلاميين منذ اندلاع النزاع السوري العام 2011، حيث فتك المتطرّفون المُلتحقون بجماعات جهادية سلفية (على غرار تنظيم الدولة الإسلامية المُعلن ذاتيا، وهيئة تحرير الشام المعروفة سابقاً بجبهة النصرة ثم جبهة فتح الشام) بأعداد كبيرة من المدنيين، عبر عمليات تفجير انتحارية وهجمات بالصواريخ داخل بيروت وخارجها، وخاضوا معارك دامية مع الجيش اللبناني. وفي العام 2014، كانت أعداد هذه الجماعات وقوتها تتنامى إلى درجة أنها باتت تُسيطر بفعالية على أجزاء من سهل البقاع، وصيدا، وطرابلس، حين كانوا يسعون، وفق ما قال مسؤولون أمنيون، إلى إقامة “إمارة إسلامية”..
ولمواجهة هذه التحديات عمدت الحكومة اللبنانية إلى اعتقال مئات من المتشدّدين المُشتبه بهم، وقادت حملة عسكرية على ما تعتقد أنه خلايا إرهابية، كان حصيلة كل ذلك انحسار كبير في أعمال العنف، بيد أن هذه المقاربة المتمحورة حول الأمن، لم تفعل شيئاً لمعالجة أسباب صعود التطرّف السلفي من جذوره. وإلى أن يحدث ذلك، سيواصل شبح التطرّف الراديكالي إلقاء كلكله على بلاد الأرز.
وحملت الدراسة ضمن تفسيرات عديدة حول صعود ظاهرة السلفية الجهادية في لبنان السعودية ما يحدث، حيث نسبوا صعود السلفية إلى الحرب بالواسطة التي شنّتها السعودية التي كانت المموّل الرئيس للمساجد السلفية والجمعيات الخيرية، لمواجهة إيران التي تدعم حزب الله حتي وصل في الآونة الأخيرة، التطرف السلفي كحصيلة جانبية للصراع السوري الذي تلعب فيه الميليشيات السلفية دورًا قياديًا بارزًا تحت الإشراف السعودي في مواجهة طهران، وهو الإشراف الذي ربطته الدراسة “بالسخاء التمويليي”.
واتهمت الدراسة السعودية كذلك بتسهيل مهام تصاعد التطرف السلفي، ونقلت عن رئيس منظمة سلفية غير حكومية في شمال لبنان، بكل فخر: “نحن ندفع بدلات الإيجار للاجئين، ونؤمّن لهم الغذاء والمازوت”، وأردف قائلاً إنه ينسّق مع جمعيات خيرية سلفية أخرى في سائر أنحاء البلاد، وإن تأثير انخراط السلفيين في المجال الإنساني بات أقوى من أي وقتٍ مضى، ولاسيما مع تزايد المساعدات الكويتية والسعودية التي يتّكلون عليها على نحو مطّرد. لكنهم في الواقع يأملون أيضاً أن تكسبهم أعمالهم الخيرية أعضاء سلفيين جددا، إذ شدّد القائد السلفي قائلاً: “إننا نقدّم مساعدات غير مشروطة، لكننا نفتح أيضاً صفوفاً للتعليم الديني، ونأمل أن تقنع رسالتنا بعض اللاجئين”.
في بعض الحالات، قد يشجّع الناشطون السلفيون اللاجئين على العودة إلى سوريا والانضمام إلى إحدى الكتائب السلفية العديدة والكبيرة والقوية المُنخرطة في القتال ضد النظام وحلفائه. وأقرّ رئيس المنظمة غير الحكومية السلفية بحذر “إننا نحيط اللاجئين علماً بالوضع في سوريا، ونعلّمهم أن يكونوا مواطنين فعّالين – وليس مجرّد لاجئين عاجِزين”.
حرمان السنة وغياب الدولة !
وأوضحت الدراسة أنه على رغم أن الصدع السنّي- الشيعي غالباً ما يُعتبر أهم الانقسامات في المجتمع اللبناني، إلا أن الفجوة الاجتماعية المتنامية بين المحظوظين من ذوي الامتيازات وبين الفقراء مُهمة بالقدر نفسه في دراسة الظاهرة، فالحرمان يمس الطائفة السنّية على وجه الخصوص. مثلاً: في طرابلس، وهي ثاني أكبر مدينة في لبنان حيث يشكّل السنّة الغالبية الكاسحة من سكانها، يُعتبر 57 في المئة من قاطنيها فقراء، وهي نسبة تبتعد كثيراً عن المتوسط الوطني الذي يبلغ 28 في المئة. ومع ذلك، فالأكثر لفتاً للانتباه هي الفروقات المتنامية بوتائر سريعة بين الأحياء المسوّرة للأغنياء حيث تتوافر الخدمات الأساسية، وبين المناطق المهمّشة التي يعاني سكانها من تفاقم فقدان الأمن، وتدهور البنى التحتية، والأداء البائس للمدارس الرسمية، ومعدلات الفقر المرتفعة.
وفي المناطق المدينية الفخمة كبساتين طرابلس، يُعتبر 19 في المئة من السكان فقط محرومون، بالمقارنة مع 69 في المئة في منطقة القبّة و87 في المئة في باب التبانة.
في هذه المناطق الأخيرة بالتحديد وجدت السفلية الأرض الخصبة للانتشار، وكَسَبَ الناشطون الدينيون المتزمتون الذين لهم روابط مع هيئات خليجية خاصة السعودية احترام العديد من السكان المحليين من خلال فتح المدارس، وإدارة الجمعيات الخيرية، وتمويل دور الأيتام، ومساعدة اللاجئين.
وبحسب الدراسة فإن العامل الرئيس في الجاذبية المُتنامية للسلفية في المناطق المحرومة، يكمن في قدرة هذه الحركة على استقطاب قادة الأحياء الذين يجلبون معهم أتباعهم إلى صفوف الجماعة.
هذه الأحياء عانت منذ قرون طويلة من الإهمال النسبي لها من لُدن الدولة، وسيطرت عليها فئة “القبضايات” الذين يوفرون للسكان الخدمات، وينظّمون العلاقات الاجتماعية، ويدافعون عن هوية مناطقهم في مقابل ولاء القاطنين لهم.
وفي حين أن سكان الأحياء الأغنى، والطبقة العليا بوجه عام، يعتبرون هؤلاء القادة “زعراناً” ومشاغبين بسبب ميلهم إلى الانغماس في الخلافات العنيفة مع العصابات المنافسة، إلا أن أحياءهم غالباً ما تُطل عليهم كأبطال. وهكذا، يقول قبضاي في حي مُفقر إنه يفخر بكونه قائداً غير رسمي، وأنه يقف على أهبة الاستعداد لاستخدام سلاحه لإنفاذ العدالة وتحقيق الأمن بسبب غياب الدولة: “إنه قانون الغابة هنا”. وإذا ما كان القبضايات في الماضي يبررون أعمالهم وسلوكهم العنيف من خلال التلحُّف بعباءة الإيديولوجيات اليسارية، إلا أن عدداً وازناً منهم يبدو الآن ميالاً إلى الخطاب السلفي والتراث الوهابي على النمط السعودي .
السجون سبب
ووفق الدراسة فإن السجون اللبنانية تغذي التطرف، فسجن رومية، وهو أكبر مركز اعتقال في البلاد، بات يشتهر على مدى العقد الماضي على أنه “مصنع التطرّف”، حيث تُجنّد الجماعات الجهادية الأعضاء الجدد وتُعد الخطط للهجمات الإرهابية.
لكن، بدءاً من العام 2014 اتخذت المشكلة أبعاداً جديدة أخطر وباتت تتمدد إلى كل السجون، وفي تلك الأثناء، سمح تشكيل حكومة لبنانية جديدة للجيش اللبناني بشن “خطة أمنية” تضمّنت اعتقال مئات المُشتبه بأنهم مُتشدّدون سنّة في كل أنحاء لبنان. وقد استمرت هذه الحملة ضد ملاذات وخلايا المتشدّدين حتى صيف 2017.
على المدى القصير، أعادت هذه الخطوة الشعور بالأمن بعد أن انحسرت هجمات المتطرّفين إلى حد كبير، لكنها أسفرت أيضاً عن اكتظاظ سجون البلاد وتراكم القضايا في الهيئات القضائية، وكل ذلك سيكون له آثار ستجعل الأمور أكثر سوءاً من خلال مفاقمة شبح التطرّف على المدى البعيد، فيما كشفت الدراسة عن أن حجم هذا التحدي لا سابق له، ففي حين كانت السجون اللبنانية مُصممة أساساً لاستيعاب 2700 مسجون، ترفع تقديرات العقد الأول من القرن الحالي العدد إلى نحو 4700 سجين، وإلى 7000 في العام 2016.20 معظم هؤلاء الموقوفون متهمون بأن لديهم روابط مع جماعات المتمردين التي تعتبرها الدولة “إرهابية”، ولذلك فإن العوامل الطائفية والمعادية للدولة في خطابهم، تمهّد الطريق أمام تفشّي الأيديولوجيات السلفية في السجن، ولاحظ رجل دين يعظ السجناء السنّة أن الجماعات الجهادية مثل هيئة تحرير الشام والدولة الإسلامية حصدوا مؤخراً شعبية في السجن بفعل خطابهم الذي يعطي “معنى” لإحساس السجناء بالظلم، خاصة بعد أن أقرّ السياسيون السنّة الرئيسيون الخطة الأمنية.
تعثرات دار الفتوى
وتحمّل الدراسة دار الفتوى المسئولية عن الأزمة فبعد عقد تقريباً من الشلل بسبب الأزمة الداخلية المُتعلقة بأسلوب إدارة مفتيها السابق الشيخ محمد رشيد قباني، أطلق انتخاب رئيس أكثر ديناميكية للدار في 2014 هو عبد اللطيف دريان، العنان للأمل بأن هذه الهيئة ستصبح أكثر فعالية، لكن الحقيقة أن مدى تأثير ذلك لايزال محدوداً للغاية على ما يبدو في السجن وفق متابعة الدراسة التي قالت: “قد غرق مسؤول في سجن القبة في نوبة ضحك حين سُئل عن نشاطات دار الفتوى في تلك المنشأة ثم قال: “لا نراهم سوى لساعة واحدة صبيحة أيام الجمعة. إنهم لا يفعلون الكثير هنا!” وقال سجين سابق في سجن رومية إن دار الفتوى أصبحت غير شعبية إلى حد كبير؛ لأن زيارات رجالها محدودة للغاية ولا تنتقد سوى ظروف السجن”، وأضافت أن أحد العوامل الرئيسة التي تقيّد نشاطات دار الفتوى في السجون يكمن في النقص الحاد للتمويل. على سبيل المثال، في حين أن منطقة شمال لبنان تتضمن خمس منشآت اعتقال تأوي آلاف السجناء، ليس في وسع دار الفتوى المحلية سوى توفير ثلاثة رجال دين للإدلاء بالخطبة.
اضف تعليقا