“معلومة ذهبية غيرت مسار الحرب” هكذا وصف رئيس الموساد الإسرائيلي الأسبق، “تسفي زامير”، ما حصل عليه من مسؤول مصري عن حرب أكتوبر 1973.
وشرح في مقابلة صحفية تفاصيل وملابسات حصوله على المعلومة، وكيف بني عليها قرار مجلس الحرب الإسرائيلي، بطريقة مكنت جيش الاحتلال من أخذ زمام المبادءة بالهجوم بعد أيام من عبور القوات المصرية قناة السويس وتدمير خط بارليف.
اللافت أن الصمت كان سمة الموقف المصري الرسمي، حيث لم ترد القاهرة بالنفي أو الإيجاب على ما أثاره المسؤول الإسرائيلي السابق.
ماذا قال الرجل؟
المقابلة التي نشرتها صحيفة “يسرائيل هيوم”، العبرية الجمعة الماضية، كشفت أمرين في غاية الأهمية والخطورة، أولهما تصريحه بأن تلك المعلومة ساهمت في تغيير مصير الحرب ككل، والثاني أن مصدر المعلومة مسؤول مصري جنده الاحتلال داخل أروقة الحكم حينها.
وبحسب ما جاء في المقابلة، فقد اجتمع المجلس الوزراي الإسرائيلي المصغر، مع قيادة جيش الاحتلال يوم 12 أكتوبر 1973 أي سادس أيام الحرب، لمناقشة خيارات عبور قناة السويس.
رئيسة الحكومة الإسرائيلية آنذاك، جولدا مائير، بالإضافة إلى وزير الأمن، موشيه ديان، ورئيس الأركان دافيد إلعزار (دادو)، وباقي الحاضرين في اجتماع المجلس الوزاري المصغر، واجهوا صعوبة في اتخاذ القرار، إلى أن تلقى “زامير” مكالمة هاتفية قلبت مجريات الأمور، بحسب رواية الصحيفة.
“زامير” البالغ من العمر 92 عامًا نقل عن ديان قوله خلال الاجتماع: “إذا فشلنا في هجوم آخر، سنضطر أن نقاتل عند ضواحي تل أبيب”.
إذن الاحتلال كان في موقف لا يُحسد عليه، ويحاول بقدر الإمكان شن هجوم معاكس لإضعاف القوات المصرية التي تستعد للتوغل في عمق سيناء.
المثير أنه قبل أن يحصل الموساد على تلك المعلومة كانت هناك أصوات في أوساط الجيش الإسرائيلي، من ضمنها رئيس الأركان، دادو، تطالب ببحث مسألة وقف إطلاق النار مع الجانب المصري، لـ”إعادة تنظيم” الجيش، نظرًا للخسائر الفادحة التي تعرض لها.
رئيس الموساد الأسبق تابع في روايته لما حدث بأن “المعلومة التي نقلها المصدر تفيد بأن المصريين يعتزمون “إسقاط قوات من المظليين بالقرب من هدف مهم أرادوا مهاجمته في عمق سيناء، ترافقها حتمًا قوات برية مدرعة كبيرة”، مقترحًا الانتظار والاستعداد للهجوم المصري”، وهو ما حدث بالفعل.
تلك “المعلومة الذهبية” قلبت موازين الحرب رأسًا على عقب، إذ هاجمت القوات المدرعة المصرية البر الآخر من القناة، وتعرضت للضرب من قبل جيش الاحتلال ودُمر في ذلك اليوم، ما لا يقل عن 250 دبابة مصرية.
حرج بالغ لمصر
وعلى الرغم من أن الصمت المصري الرسمي ليس مستغربًا إلى حد كبير لعدة أسباب، سيتم تحليلها لاحقًا، فإن مجرد هذا الصمت دليل صدق رواية المسؤول الإسرائيلي ودقتها، وإلا لكان الرد بالنفي هو الحل الأمثل.
عدم استغراب الصمت المصري ربما يرجع لعدة أسباب سياسية وعسكرية ودبلوماسية، يأتي في مقدمتها الحرج البالغ الذي تعرضت له مصر بالكشف عن هذه المعلومات الخطيرة، التي تؤكد أن ثمة مسؤول “رفيع” نجحت إسرائيل في تجنيده لصالحها بخلاف أشرف مروان صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر.
إزاحة الستار عن هذه المعلومة يمثل هزيمة مصرية على المستويين السياسي والمخابراتي، ومسحًا للصورة الذهنية المتكونة لدى عموم المصريين عن بطولات جهاز المخابرات المصري خلال تلك الفترة وما بعدها، والمسجلة عبر العديد من الأعمال الفنية.
سياسيًا، فهي تكشف أيضًا مدى الاختراق الذي تمكنت من خلاله إسرائيل من الوصول إلى قلب منظومة الحكم المصرية في مثل هذه الأوقات الحساسة التي تخوض فيها البلاد حربًا ضروسا.
أما وجهة النظر الأخرى في محاولة تفسير الصمت الرسمي المصري حيال التصريحات، فتشير إلى احتمالية أن تكون الرغبة المصرية هي إبقاء تلك المعلومات طي الكتمان باعتبارها أسرارا حربية لا يمكن الكشف عنها.
على المستوى العسكري، فإن تلك المعلومة تمثل جرحًا غائرًا في جبين المؤسسة العسكرية المصرية، وتعيد إلى الأذهان الخطيئة التي خدشت نصر أكتوبر وهي “ثغرة الدفرسوار” التي كانت نتيجة مترتبة على حصول إسرائيل على تلك المعلومة.
تلك الثغرة غيرت بالفعل مسار حرب أكتوبر، ودفعت مصر دفعًا نحو التسليم بوقف إطلاق النار، رغم الفرصة التي كانت مواتية قبل حدوث الثغرة للتوغل في عمق سيناء لمسافة 12 كيلومترًا.
“الشاذلي” يكشف “الدفرسوار”
واستكمالًا لما كشفه المسؤول الإسرائيلي كان لابد من البحث عن الرواية المصرية لما حدث، وكيف تعرض الجيش لهذه الخسارة الأكبر على مدار أيام الحرب.
ما كشفه المسؤول يتطابق مع ما كتبه الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان حرب القوات المسلحة خلال حرب أكتوبر، في مذكراته عن الحرب.
يقول الشاذلي: “أرسلت القيادة العسكرية السورية مندوبًا إلى القيادة الموحدة للجبهتين، التي كان يقودها المشير أحمد إسماعيل تطلب زيادة الضغط على القوات الإسرائيلية على جبهة قناة السويس لتخفيف الضغط عن جبهة الجولان، فطلب الرئيس السادات من إسماعيل تطوير الهجوم شرقًا لتخفيف الضغط عن سوريا، فأصدر إسماعيل أوامره بذلك على أن يتم التطوير صباح 12 أكتوبر”.
هذا التطوير الهجومي عارضه الشاذلي بشدة لأنه كان خارج نطاق حماية مظلة الدفاع الجوي، وبالتالي ستكون القوات المهاجمة مكشوفة لطيران الاحتلال، وعبر عن ذلك بقوله: “معناه أننا نقدم قواتنا هدية إلى الطيران الإسرائيلي”.
بناء على أوامر تطوير الهجوم شرقًا، هاجمت القوات المصرية في قطاع الجيش الثالث الميداني (في اتجاه السويس) بعدد لواءين، وفي قطاع الجيش الثاني الميدانى (اتجاه الإسماعيلية) هاجمت الفرقة 21 المدرعة، وعلى المحور الشمالي لسيناء هاجم اللواء 15 مدرع.
“وكان الهجوم غير موفق بالمرة، وانتهى بفشل التطوير وخسرت القوات المصرية 250 دبابة من قوتها الضاربة الرئيسية في ساعات معدودات من بدء التطوير بسبب التفوق الجوي الإسرائيلي”، وفق مذكرات الشاذلي.
هنا تسلم جيش الاحتلال زمام المبادرة، واستعد لتنفيذ خطته المعدة من قبل والمعروفة باسم “الغزالة” للعبور غرب القناة وحصار القوات المصرية الموجودة شرقها، خاصة أن القوات المدرعة التي قامت بتطوير الهجوم شرقًا وتم تدمير معظمها، هي القوات التي كانت مكلفة بحماية الضفة الغربية ومؤخرة القوات المسلحة، إلا أن السادات رفض سحب ما تبقى من تلك القوات مرة أخرى إلى الغرب، وأصبح ظهر الجيش المصري مكشوفًا غرب القناة، فيما عرف بعد ذلك بثغرة “الدفرسوار”، بحسب المذكرات.
ولسوء الحظ، اكتشفت طائرة استطلاع أمريكية، وجود ثغرة بين الجيشين الثالث في السويس والثاني في الإسماعيلية، فأبلغوا إسرائيل على الفور، ونجح “أرئيل شارون” قائد إحدى الفرق المدرعة الإسرائيلية حينها في العبور إلى غرب القناة من الثغرة عند منطقة “الدفرسوار” القريبة من البحيرات المرّة ليلة 16 أكتوبر 1973.
بعدها تم تطويق الجيش الثالث بالكامل في السويس، ووصلت القوات الإسرائيلية إلى طريق السويس/القاهرة، ولكنها توقفت بسبب صعوبة الوضع العسكري بالنسبة لها غرب القناة، خصوصًا بعد فشل شارون في الاستيلاء على الإسماعيلية وفشل الجيش الإسرائيلي في احتلال السويس.
هل يتعكر الصفو؟
ولعل السؤال الذي يتبادر إلى الذهن، هو ماذا يمكن أن يعلق بالعلاقات المصرية الإسرائيلية من شوائب جراء الكشف عن هذه المعلومات؟.
منطقية السؤال ترجع إلى الود والحميمية التي تسيطر الآن، وأكثر من أي وقت مضى، على العلاقة بينهما والتي تجلت في اللقاء المثير للجدل والأول من نوعه في العلن بين عبد الفتاح السيسي ورئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو، سبتمبر الماضي.
وعلى الرغم من هذه العلاقة الوثيقة التي توجت نحو 4 سنوات من التعاون والتنسيق الأمني والاستخباراتي بين الطرفين فإن احتمالات وجود رد مصري تبقى واردة ولو كانت ضعيفة.
سياسيًا ودبلوماسيًا ليس هناك رد يحتمل خروجه، بل الرد المفترض يكون عسكريًا من قبل الجيش والأجهزة المعنية بالقوات المسلحة، لكن يبدو أن القيادات الحالية وعلى رأسها السيسي وزير الدفاع السابق، ليست معنية بهذا الرد.
لمَ لا؟ وجميعهم لم يشهد حرب أكتوبر في أثناء تواجده بالخدمة، فكلهم من الجيل الذي التحق بالجيش في أعقاب زيارة الرئيس السادات للأراضي المحتلة ثم توقيع اتفاقية كامب ديفيد للسلام، وبالتالي فهم يفتقرون للحساسية تجاه مثل هذه الموضوعات.
اضف تعليقا