العدسة _ منصور عطية
ربما كانت دماء الفلسطينيين التي سالت بفعل رصاص الاحتلال الإسرائيلي على حدود قطاع غزة في مسيرة العودة الكبرى، الجمعة، هي الثمن الذي سدده القطاع حتى ينجو من الإجراءات العقابية التي هدد رئيس السلطة محمود “عباس” باتخاذها.
فهل تجبر تلك الدماء “عباس” على التراجع عما نواه تجاه القطاع وصرح به، وما التداعيات المتوقعة لفعاليات “يوم الأرض” على مسار المصالحة الفلسطينية بين حركتي فتح وحماس؟.
“عباس” يتضامن مع غزة!
ولعل الكلمة التي ألقاها “عباس”، بلهجة جديدة تفرضها اللحظة الراهنة، تشير إلى ما يمكن أن نسميه تغيرًا في لغة خطابه تجاه حركة حماس، رغم أنه لم يُشر إليها صراحة في خطابه.
وكان ملاحظًا وصف “عباس” مسيرة العودة الكبرى بـ”المظاهرات الشعبية السلمية”، رغم أن حركة حماس وجناحها العسكري وأجهزتها الأمنية هي القائمة على تنظيم المسيرة، وكان يمكنه بشكل أو بآخر التلميح أو التصريح بمسؤولية الحركة عن الدماء التي سالت.
وقال “عباس”: “إن سقوط هذا العدد الكبير من الشهداء والجرحى في مظاهرات شعبية سلمية، يؤكد وجوب تدخل المجتمع الدولي لتوفير الحماية لشعبنا الفلسطيني الأعزل”.
وتابع: “كما أعبر عن اعتزازي بكم وبهذه التضحيات الجسام التي قدمتموها اليوم، ليس فقط لهذه المناسبة الوطنية الخالدة، بل دفاعًا عن القدس ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وعن مشروعنا الوطني”.
وشهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة، السبت، إضرابًا عامًّا لكل القطاعات وتجدد الدعوات للاحتجاج، بعد يوم من استشهاد 16 فلسطينيًّا برصاص الاحتلال، خلال مسيرة العودة، التي شارك فيها الآلاف من الفلسطينيين، ووصلوا حتى الحدود الشرقية للقطاع مع الأراضي المحتلة، بمناسبة إحياء ذكرى “يوم الأرض”.
وأعلنت الحكومة الفلسطينية تعطيل كافة المؤسسات والمدارس والجامعات “التزاما بقرار سيادة الرئيس محمود “عباس” إعلان الحداد الوطني العام على أرواح الشهداء الذين ارتقوا يوم الجمعة خلال خروج جماهير شعبنا إحياءً لذكرى يوم الأرض”.
أحداث الجمعة ليست فقط إلا بداية لمسيرة العودة الكبرى، بمناسبة الذكرى السنوية الثانية والأربعين لـ”يوم الأرض”، والتي تستمر فعالياتها حتى الذكرى السنوية السبعين لنكبة فلسطين التي توافق 14 مايو تاريخ الإعلان عن قيام دولة إسرائيل.
هل يتراجع عن تهديداته؟
المفارقة الزمنية هنا، أن مسيرة العودة وتداعياتها حتى الآن، بما فيها كلمة “عباس”، تأتي بعد أقل من أسبوعين على الاتهامات التي ساقها رئيس السلطة بحق حركة حماس، والتهديد باتخاذ إجراءات عقابية ضد قطاع غزة.
فخلال كلمة ألقاها باجتماع للجنتين التنفيذية لمنظمة التحرير والمركزية لحركة فتح، اتهم “عباس” رسميا حركة حماس بالوقوف وراء محاولة اغتيال رئيس حكومة الوفاق رامي الحمدالله بقطاع غزة مارس الماضي.
وتابع: “بصفتي رئيسًا للشعب الفلسطيني قررت اتخاذ الإجراءات الوطنية والقانونية والمالية كافة من أجل المحافظة على المشروع الوطني”، في إشارة لعقوبات سيفرضها قريبًا على قطاع غزة.
الرد السريع والحاسم الذي أشعل الموقف جاء من حركة حماس، عبر بيان رسمي نشره موقعها الإلكتروني، دعت فيه للذهاب إلى الشعب الفلسطيني “لإجراء انتخابات عامة رئاسية وتشريعية ومجلس وطني؛ كي ينتخب الشعب قيادته ومن هم أهل لتحقيق الوحدة وتحمل المسؤولية ورعاية مصالحه”.
وطالبت الحركة كل الجهات الإقليمية والدولية وجامعة الدول العربية، “بالتدخل العاجل والمسؤول، لوقف هذا التهور الخطير، وتحمل مسؤولياتهم في منع وقوع الكارثة على المستوى الوطني الفلسطيني الداخلي، والمترتب على سياسة “عباس” وقراراته بحق غزة وأهلها”.
ويبدو الربط بين كلمتي “عباس” منطقيًّا إلى حد كبير، يمكن الجزم معه بأن الكلمة الثانية تشكل تراجعا عما قيل في الكلمة الأولى.
مناط الجزم هنا يرجع إلى ردات الفعل الفلسطينية الشعبية، تحديدًا التي يمكن أن تصدم “عباس” إذا حاول الحديث مجددا عن إجراءات عقابية ضد غزة، وسط الأجواء الملتهبة حاليًا، خاصة بعد قمع الاحتلال لمسيرة العودة.
تطبيق العقوبات الآن، سوف يفضح بلا شك “عباس” ويُعرّي موقفه أمام الشعب الفلسطيني، حتى ولو كان الحق معه في فرضها، فليس هذا هو الوقت المناسب إطلاقا والدم الفلسطيني يسيل.
عرقلة مؤقتة فقط
لكن لا يمكن التسليم بتحقق هذا السيناريو بالكامل، بل ترجيح أن تكون عرقلة مخطط “عباس” بصفة مؤقتة فقط، إلى حين انتهاء فعاليات “يوم الأرض” أو حتى هدوء وتيرتها.
ويعزز من تلك الفرضية الوضع الحرج الذي يعاني منه “عباس”، الرجل الثمانيني، الذي يقل تدريجيًّا نفوذه الإقليمي والدولي، وثقة الأطراف المختلفة فيه، أبرزها مصر، لما يخص ملف المصالحة، وأمريكا لموقفه من قرار القدس ونقل السفارة، ومؤخرا سب السفير، وإسرائيل بسبب حدة خطابه تجاهها مؤخرًا.
نفوذ “عباس” الآخذ في الاضمحلال، يتزامن مع صعود كبير لنجم القيادي الفتحاوي المفصول محمد دحلان، وما يتمتع به من ثقل وعلاقات واسعة ومتشعبة بمختلف الأطراف الإقليمية والدولية، ما يؤهله لتصدر المشهد بعد إزاحة “عباس” غير المرغوب فيه من الجميع.
ولعل هذا ما ذهبت إليه تحليلات سياسية كثيرة في أعقاب التصريحات المثيرة للسفير الأمريكي لدى إسرائيل، ديفيد فريدمان، حين قال إن هناك جهات فلسطينية سترغب في خوض المفاوضات المباشرة مع الإسرائيليين حال مواصلة الرئيس الفلسطيني محمود عباس رفض ذلك.
وقال “فريدمان”، في تصريح لجريدة “سبع” العبرية، الأربعاء الماضي: “إن الوقت لا يتوقف، إذا لم يهتم “عباس” بإجراء المفاوضات فإنني على يقين بأن هناك من سيريد ذلك بدلا منه”، مضيفًا: “في حال خلق “عباس” فراغًا، فإنني مقتنع بأن أحدًا ما سيملؤه، وسنمضي قدما (في عملية السلام)”.
تلك العرقلة المؤقتة، ستكون رهينة أيضًا لعامل آخر متغير، وهو عدول “عباس” عن موقفه بشأن مفاوضات السلام مع الاحتلال برعاية أمريكا، رغم أن موقفه الحالي متصلب للغاية، خاصة بعد قراري الرئيس دونالد ترامب اعتبار القدس عاصمة للاحتلال، ونقل سفارة بلاده إليها.
فإما يتنحى “عباس” عن المشهد قسرًا؛ فيتغير المشهد الفلسطيني برمته، أو تهدأ الأوضاع في غزة، أو يتماشى رئيس السلطة مع شروط واشنطن وتل أبيب لبقائه.
اضف تعليقا