لماذا يمكن اعتبار مذبحة حماة (التي وقعت في مثل هذا اليوم من فبراير 1982) تاريخا فاصلا لحقبة سوداء ممتدة في الصفحة السورية؟ قبل تلك الواقعة الدامية، كانت الجماهير السورية تتحصن بعددها الكبير، مؤمنة أن النظام -على إجرامه- يستحيل أن يفتح النيران على الآلاف، وأن “المذبحة غير ممكنة” لأن النظام أجبن من أن يبيد مدينة بأكملها.

جاء رد حافظ الأسد على غير ما توقع أسوء صانعي السيناريوهات، ففتح النيران على الجميع، وأطلق لحرسه العسكري العنان في إبادة حماه وأهلها، دفعة واحدة، دون مفر أو معبر آمن.. ليعرف جميع السوريين منذ ذلك اليوم أن “المذبحة باتت ممكنة”، وأن تلك العائلة لن تنخلع عن الكرسي إلا بالدم، حتى لو كان دم الشعب السوري كله.

رابعة السورية

قبل عام من ذكراها الأربعين، لم تكن مجزرة حماة مجرّد مذبحة قمعية تهدف لإنهاء حراك اجتماعي وسياسي، بل كانت الحدث الأكبر والمؤسس لدولة سوريا الأسد: المؤسسات والهوية المتخيلة والامتداد الاجتماعي، موطدة رحلة الأسد من “الجمهورية” إلى “المزرعة”.

لم يكن الإخوان المسلمون هم المستهدفين بمجزرة حماة، ولا حتى الإسلام الرجعي بنظر البعث، وحسب؛ بل كانت السياسة ككل هي محط نظر الأسد، فتحولت الدولة، الكيان السياسي القائم على احتكار العنف، إلى “دولة متوحشة”: كيان لا سياسي قائم على “حكم العنف”، كما يفصل ميشيل سورا وسلوى إسماعيل.

من جانب آخر؛ مثلت المجزرة آخر المواجهات الاجتماعية/ السياسية (التي تحولت إلى عسكرية) بين التجّار والتكنوقراط المتمركزين في المدن، الطبقة السياسية لسوريا الحديثة، من جهة، و”فلّاحي سوريا”، من الجهة الأخرى؛ ممثلة انقلابا تاريخيا في حكم سوريا الجمهورية منذ تأسيسها وتشكيلها.

لم يوطد عنف مجزرة حماة موقع الفلاحين داخل الدولة وحسب؛ لكنه مثّل كذلك هوية الخوف والدم المشتركة للعامة، مشكلا هويتهم المتخيلة (والفعلية في حالة الإخوان المسلمين وأبناءهم) التي تجاوزت هوياتهم الفرعية، مما كان مكن الأسد من تجاوز الشروخ والتباينات الاجتماعية التاريخية في سوريا، مفتتحا بشكل رسمي: سوريا الأسد.

تاريخ أسود

في الثاني من فبراير 1982، شهدت سوريا أسوأ مجزرة مرت في تاريخها الحديث كما كان يُعتقد قبل اندلاع الثورة السورية في مارس 2011، فقبل 37  سنة طوّق النظام السوري الذي كان رئيسه آنذاك حافظ الأسد مدينة حماة الواقعة وسط البلاد وبدأ بقصفها جواً وبراً وبجميع أنواع الأسلحة قبل أن يجتاحها ويقتل كل من يصادفه فيها بحجة القضاء على جماعة “الإخوان المسلمين” في سوريا، التي كانت تُعد من أكبر الجماعات المناوئة للأسد الأب في تلك الحقبة، واتهمها النظام حينها بتسليح عدد من كوادرها وتنفيذ اغتيالات بحق مجموعة من الضباط في مدرسة المدفعية في يونيو 1979، في مدينة حلب شمال سوريا.

وفي 20 يناير 1982، وقعت محاولة اغتيال فاشلة لحافظ الأسد، ليقوم بعدها بحظر الجماعة وشن عملية تصفية واسعة، ومن ثم أصدر القانون 49 الذي يأمر بإعدام كل شخص ينتمي للإخوان المسلمين وأقربائهم، إلى أن قادت سرايا الدفاع بقيادة رفعت الأسد شقيق حافظ الأسد الحملة العسكرية الدموية التي انطلقت الساعة الثانية صباحاً يوم 2 فبراير 1982.

استمرت المذابح اليومية مدة 27 يوماً، ووضع تحت قيادته، نحو 12 ألف جندي من مختلف الكتائب ما بين “سرايا الدفاع واللواء السريع الحركة التابع لسرايا الدفاع، واللواء 47 دبابات، واللواء الميكانيكي 21، وفوج الإنزال الجوي 21 (قوات خاصة)”، إضافة إلى عدّة كتائب مكونة من عناصر مختلطة من مختلف أجهزة الأمن والمخابرات وفصائل حزبية مسلحة بقيادة عدنان الأسد.

وتمّ خلال الحملة العسكرية ارتكاب مجزرة حماة سنة 1982 عبر تطويق المدينة، وتجويع أهلها، وقصف البلدة القديمة فيها جواً وبراً، لكي يتمكن الجنود من دخول شوارع المدينة الضيقة بدباباتهم، وتدمير معالمها حتى المساجد والكنائس التي لم تسلم من هذا القصف.

وفي تاريخ 15 فبراير، أي بعد عدّة أيام من القصف المكثف، أعلن اللواء مصطفى طلاس الذي كان يشغل منصب وزير الدفاع حينها انتهاء الحملة العسكرية وأن انتفاضة مدينة حماة قد تم قمعها، غير أن المدينة ظلّت حينها محاصرة وجرى عزلها عن العالم الخارجي.

إعدامات ميدانية

بعيد الحملة العسكرية شنّت قوات النظام السوري على مدار أسبوعين حملة أخرى لمداهمة المنازل واعتقال الشباب فيها، وارتكبت خلال هذه الحملة إعدامات جماعية بحق عدد كبير من الأهالي، وتحدثت بعض التقارير عن صنوف من الإساءة، التي ارتكبتها تلك القوات، من قتل جماعي وإعدامات ميدانية، وتعذيب للمدنيين واغتصاب للنساء، إلى أن وصل بهم الحد إلى قتل الأطفال أمام أعين ذويهم.

ويختلف عدد ضحايا المجزرة باختلاف المصادر ولا أحد يعرف الحصيلة النهائية لعدد القتلى خلال ذلك الهجوم، حيث وثّقت اللجنة السورية لحقوق الإنسان مقتل 40 ألف مدني، غالبيتهم قضوا رمياً بالرصاص بشكل جماعي ثم تمّ دفن الضحايا في مقابر جماعية.

الصحفي الدولي روبرت فيسك الذي كان متواجداً في حماة بعد المجزرة بفترة قصيرة يقول إن عدد القتلى كان 10 آلاف شخص تقريباً، أما جريدة الإندبندنت فقالت إن عدد ضحايا مجزرة حماة وصل إلى 20 ألفاً، أما الصحفي والكاتب الأمريكي توماس فريدمان فقال إن رفعت الأسد قام بالتباهي بأنه قتل 38 ألفاً في حماة، كما تشير بعض التقارير إلى صعوبة التعرف على جميع الضحايا لأن هناك ما بين 10 آلاف و15 ألف مدني اختفوا منذ وقوع الأحداث، ولا يُعرف أهم أحياء في السجون العسكرية أم أموات.

أما عدد المعتقلين والمفقودين الذين لم تتم معرفة مصيرهم حتى اليوم فقد بلغ 15000 ألف شخص، وهذه المجزرة كانت سبباً مباشراً في تهجير 100 ألف شخص، وتم تدمير جزء كبير من المدينة خاصة أحياءها القديمة، وإزالة 88 مسجداً، وهدم 3 كنائس ومناطق أثرية وتاريخية، كما سُوّيَ حي الحاضر بالأرض عقب اقتحامه بالدبابات خلال الأيام الأربعة الأولى من القصف.