العدسة – منصور عطية
على قدم وساق تجري الترتيبات النهائية لكي تصبح التسوية الإقليمية الكبرى أو ما يمكن تسميته بـ”تصفية القضية الفلسطينية” أمرا واقعا، دون الالتفات لأصحاب القضية أنفسهم، وهي الخطة التي باتت تعرف باسم “صفقة القرن”.
الولايات المتحدة الأمريكية الراعي الدولي والمسوق للصفقة، كشفت أنها في مراحلها الأخيرة، وسط تنسيق متزايد مع الاتحاد الأوروبي كضامن قوي وموثوق لدى الفلسطينيين، لتمرير الصفقة وإقرارها دون إزعاج.
الطبخة جاهزة!
الكشف الجديد بشأن آخر تطورات الصفقة، جاء عن طريق المبعوث الأمريكي لعملية السلام “جيسون جرينبلات”، الذي أبلغ قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأن صفقة القرن “في مراحلها الأخيرة”.
تقارير إعلامية، نقلت عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن “صفقة القرن” أكد للمسؤولين الأوروبيين أن “الطبخة على النار، ولم يبق سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.
وقال المبعوث الأمريكي إن الخطة الجاري إعدادها تشمل المنطقة، وأن الفلسطينيين أحد أطرافها، لكنهم ليسوا الطرف المقرر في تطبيقها.
في السياق ذاته، يقول مسؤولون أمريكيون إن الرئيس دونالد ترامب سيكشف قبل منتصف العام الحالي عن خطة لتسوية الصراع الفلسطيني، بات من المؤكد أنها هي “صفقة القرن”.
وأوضحوا أن هذه الخطة -التي يضعها جاريد كوشنر، مستشار وصهر “ترامب” بالتعاون مع جرينبلات- ستكون شاملة وتتجاوز الأطر التي وضعتها الإدارات الأمريكية السابقة، وستتناول كل القضايا الكبرى، بما فيها القدس والحدود واللاجئون، وتكون مدعومة بأموال من السعودية ودول خليجية أخرى لصالح الفلسطينيين.
التنسيق الأمريكي مع الاتحاد الأوروبي -حتى تضمن تمريرا دوليا من طرف لا يزال يتمتع بثقة الفلسطينيين- آتى أكله حيث نصح دبلوماسيون غربيون القادة الفلسطينيين بعدم التسرع في اتخاذ “مواقف متشنجة”، وانتظار عرض الخطة رسميا.
المسعى الأوروبي يتماهى مع الرغبة الأمريكية المعلنة في إخراج الفلسطينيين من معادلة التسوية، وعدم وضعهم في الاعتبار كرقم هام بالمعادلة، وذلك على الرغم من مواقف أوروبية، في مقدمتها الموقف الفرنسي، رافضة ما أُثير بشأن “صفقة القرن” وتفاصيلها.
خطوات عملية للصفقة
وفي سياق الآليات العملية التي اتخذتها الولايات المتحدة بالفعل كخطوات تمهيدية في طريق الصفقة، يبرز ملمحان أساسيان يعنيان ضمنيا أن تصفية القضية الفلسطينية من أهم مرتكزاتها وقضايا الحل النهائي لها.
الخطوة الأشهر والأكثر جدلا، كانت في ديسمبر الماضي، عندما أعلن “ترامب” قرار إدارته الاعتراف بمدينة القدس عاصمة موحدة للاحتلال الإسرائيلي، وما عناه ذلك من تفريغ القضية من مضمونها، نظرا لما تتمتع به المدينة المقدسة من وضع مصيري وسط مختلف أبعاد القضية الفلسطينية.
وفي يناير، كانت الخطوة الثانية، وهي تجميد 125 مليون دولار من التمويل الذي تقدمه أمريكا لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا).
ويشكل هذا المبلغ ثلث التبرع السنوي الأمريكي للوكالة، وجاء تطبيق قرار التجميد بعد أيام من التهديد الذي أطلقه “ترامب” ضد السلطة الفلسطينية بوقف تقديم المساعدات لها، كرد فعل على رفضها قراره بشأن القدس.
المبعوث الأمريكي للسلام “جرينبلات” أدلى بدلوه في سياق اللقاء سالف البيان وعبر عن نية بلاده في المستقبل القريب بشأن الأونروا، حيث أبلغ القناصل الأوروبيين بأن إدارة “ترامب” تريد إنهاء عمل الوكالة، وليس فقط تجميد مستحقاتها.
تتماهى الرغبة الأمريكية مع تصريح أدلى به رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، يشكل ما يعد تحريضا لداعمي الوكالة بهدف إنهاء وجودها للأبد، ادعى فيه أن أحفاد اللاجئين الذين ترعاهم الوكالة “ليسوا لاجئين”.
وبهذه الخطوات، تضمن أمريكا تصفية قضيتي القدس واللاجئين، باعتبار أنهما من القضايا العالقة بين الفلسطينيين وإسرائيل، والتي تُركت لحين الحل النهائي للقضية الفلسطينية برمتها.
مهندسون و”عرابون”
وفضلا عن الدور الذي أفصح عنه “جرينبلات”، كأحد مهندسي “صفقة القرن”، فإن ثمة مهندسين آخرين لهذه الصفقة، أبرزهم “ديفيد فريدمان”، السفير الأمريكي في تل أبيب، والذي أزاح الستار عن الصفقة في سبتمبر الماضي، حيث قال إن الإدارة الأمريكية تُعِدُّ الآن خطة سلام ستُعرَض ملامحها في غضون أشهر قليلة، وأن حل الدولتين الفلسطينية والإسرائيلية لا يتضمنها.
لكن المهندس الأول للصفقة هو “جاريد كوشنر”، مستشار وصهر “ترامب”، والذي كشف علاقته بالصفقة عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، “أحمد مجدلاني”، حيث قال في تصريحات متلفزة، إن مستشار الرئيس الأمريكي نقل تفاصيل الصفقة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي نقلها بدوره إلى السلطة الفلسطينية.
ومن هنا يبرز اسم “بن سلمان” كأحد عرابي الصفقة، والذي سبق وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” الأمريكية ما اقترحه على الرئيس الفلسطيني محمود عباس، خلال لقائهما في نوفمبر الماضي.
الصحيفة، نقلت عن مصادر رسمية فلسطينية وعربية وأوروبية، قولها إن “بن سلمان” اقترح على الرئيس الفلسطيني، خطة ترمي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وصفتها بأنها منحازة لإسرائيل أكثر من خطة “ترامب” نفسه.
وذكرت أن “بن سلمان” اقترح خطة تكون فيها الدولة الفلسطينية مقسمة إلى عدد من المناطق ذات حكم ذاتي، وتبقى المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية المحتلة “ملكًا” لإسرائيل، وتكون “أبو ديس” عاصمة فلسطين، وليس القدس الشرقية المحتلة، وكذلك لن يمنح حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
ولعل الرئيس عبدالفتاح السيسي، هو أول من تحدث عن “صفقة القرن” في تصريح أدلى به خلال زيارته إلى أمريكا ولقائه نظيره دونالد ترامب في أبريل الماضي، حينما قال له: “ستجدني بكل قوة ووضوح داعمًا لأي مساعٍ لإيجاد حل للقضية الفلسطينية في “صفقة القرن”، ومتأكد أنك تستطيع أن تحلها”.
الحديث عن “صفقة القرن” يعود إلى عام 2010، حين أنهى مستشار الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط “جيورا أيلاند”، عرض المشروع المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أعدها لصالح مركز “بيجين-السادات” للدراسات الإستراتيجية، بعنوان: “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”.
الدراسة التي نشرت تفاصيلها تقارير إعلامية في حينه، تقوم على اقتطاع 720 كيلومترًا مربعًا من شمال سيناء للدولة الفلسطينية المقترحة، تبدأ من الحدود المصرية مع غزة وحتى حدود مدينة العريش، على أن تحصل مصر على مساحة مماثلة داخل صحراء النقب الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تخلو الضفة الغربية بالكامل للاحتلال.
ترتكز الخطة على وعد ملائكي بتحويل غزة إلى مدينة اقتصادية عالمية على غرار “سنغافورة”، بعد زيادة مساحة شريطها الساحلي، مقابل إغراء مصر بمكاسب اقتصادية ضخمة لتحكمها في شبكة الحركة البرية والجوية والبحرية، التي ينتظر أن تربط تلك الدولة الفلسطينية بمصر والأردن والعراق ودول الخليج أيضًا.
مجرد وسيلة!
وعلى الرغم من ضخامة الصفقة، وكم الأطراف الدولية والإقليمية المشتركة فيها، إلا أن تحليلات سياسية عدة، ذهبت إلى القول بأنها مجرد وسيلة لتحقيق غاية أكبر وأهم، وهي بناء تحالف إقليمي واسع يتمكن من تحقيق هدفين محددين، هما مواجهة الطموح الإيراني والحرب على الإرهاب.
ولم تكن “صفقة القرن” هي الوسيلة الوحيدة لتحقيق الغاية الأمريكية، بل سبقتها وسائل أخرى، أبرزها تشجيع ودفع التطبيع في العلاقات بين إسرائيل ودول عربية في مقدمتها السعودية والإمارات.
وغير ما كشفته المواقف السعودية المتتالية من قضية القدس، فقد بدا عبر وقائع رصدها وحللها )العدسة)، أن السعودية تهرول حثيثة وبخطوات متسارعة نحو التطبيع الكامل مع الاحتلال الإسرائيلي.
وبعيدًا عن الشواهد غير الرسمية وتلك التي يكون أبطالها أشخاصًا ليسوا في منظومة الحكم أو يتمتعون بحيثية كبيرة، أكد مسؤول إسرائيلي، رفض الكشف عن اسمه، لوكالة الصحافة الفرنسية أن المسؤول السعودي الذي زار إسرائيل سرًّا في شهر سبتمبر الماضي، هو ولي العهد محمد بن سلمان.
وهكذا يبدو “ترامب” مجتهدا في نسج خيوط تحالفه الجديد، في مخطط يعيد إلى الأذهان الأجواء التي سبقت الحرب العالمية الثانية، بحسب تحليل نشره معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى في ديسمبر الماضي.
التحليل رأى أن “إستراتيجية الأمن القومي” التي أطلقها “ترامب”، “تشبه كثيرًا ما كانت الولايات المتحدة تقوم به منذ عام 1940، مع التشديد على الصحة الاقتصادية والمنافسة والقوة العسكرية الأمريكية أكثر من الإدارات السابقة”.
نحن هنا أمام معسكرين؛ أحدهما تتزعمه أمريكا، ويضم إلى جانبها كل من إسرائيل والسعودية والإمارات ومصر وربما الأردن، أما المعسكر الثاني في تلك الحرب المحتملة فيضم بشكل أساسي إيران ومن يمكن أن يدعمها، مثل روسيا وتركيا، فضلا عن ترقب لموقف قطر التي يعاديها حلفاء أمريكا لكنها تحتضن أكبر القواعد العسكرية لواشنط
اضف تعليقا