العدسة – عطية منصور

رسائل كثيرة ودلالات أكثر يمكننا أن نلمحها من خلال المقارنة بين خطابي الرئيس عبدالفتاح السيسي والفريق سامي عنان، رئيس أركان القوات المسلحة الأسبق، لإعلان ترشحهما في الانتخابات الرئاسية المقررة مارس المقبل.

تلك الرسائل والدلالات كان بعضها مباشرًا، والآخر يكمن بين سطور الكلمتين المكتوبتين لعسكريين خلعا زيهما لكنهما لم ينسلخا منه بأي حال من الأحوال.

السيسي المرتبك

قبل الخوض في تفاصيل ما يحمله خطاب السيسي من مضامين وتوجهات، تبدو عدة أمور ظاهرية، لكنها جديرة بالتوقف أمامها، نظرا لما يمكن أن تحويه من دلالات ربما تكون أعمق بكثير من السطحية التي قد تبدو عليها.

بداية، فقد بدا السيسي مرتبكًا ومهزوزًا بعض الشيء خلال إلقاء كلمته، على نحو قد يكون اضطر فيه إلى تلاوة كلمة مكتوبة وليست ارتجالية، كعادته في مثل هذه المواقف التي ينوي خلالها الحديث “بصراحة” مع الشعب المصري، كما يقول دائما.

لكن الكلمة المكتوبة، والجِدِّيَّة الشديدة التي بدا عليها السيسي، لم تمنعاه من ارتكاب أخطاء لغوية كثيرة جدا في دقائق معدودة، هي التي تضمنت في سياقها إعلانه عزمه الترشح لفترة رئاسية ثانية.

وربما يشعر كثيرون أن الهدف الأساسي من تلك الكلمات، كان محاولة دفع الاتهامات التي تلاحق السيسي بشأن عدم وجود انتخابات من الأساس، وكون المسألة مجرد استفتاء على بقائه، والتشكيك المتزايد بشأن سلامة عملية الانتخابات ونزاهتها المفترضة.

فقد تحدث كثيرا بعبارات تدل على هذه المعاني، مثل: “الرئيس القادم الذي ستختارونه بإراداتكم الحرة”، وأن الانتخابات ستكون “عنوانا للحرية والشفافية”، وتعهداته بضمان “تكافؤ الفرص بين المرشحين”، ومطالبته المصريين بالتوافد الكثيف على لجان الاقتراع.

الرسالة إذن، هي وعد وتعهد بإجراء انتخابات حقيقية، في ظل تحليلات سياسية قائمة محلية وعالمية تقلل من فرص إجراء تلك الانتخابات، وترجيحات بأن تكون نسخة مكررة من سابقتها في 2014.

رسالة ليست في محلها!

المفارقة أن التوفيق قد خالف السيسي في توصيل تلك الرسالة المتعلقة بنزاهة الانتخابات على وجه الخصوص، إلى حد ضرب تعهده في مقتل بيده هو، وليس بيد منافسيه المحتملين أو حتى معارضيه.

السيسي قال تلك الكلمات الرنانة، وسط جمع غفير لم يأت إلا لتأييده وإعلان دعمه، فالصفوف الأولى من الحاضرين امتلأت بجميع قيادات الدولة ورموزها مدنية وعسكرية ودينية، وهؤلاء هم من وقفوا لتحية السيسي فور إعلان ترشحه مصفقين لفترة طويلة.

ولعل التساؤل الذي يتبادر إلى الذهن، هو: كيف ستكون حيادية الدولة ومؤسساتها بعد هذا المشهد؟ وأين تكافؤ الفرص الذي تحدث عنه السيسي، في الوقت الذي كل الفضائيات التي استطاع السيطرة عليها تروج لإنجازاته منذ فترة؟.

أضف إلى هذا المشهد، مشهدا آخر أكثر عمومية وصورة أشد وضوحًا، وهو أن إعلان ترشح السيسي جاء في خضم مؤتمر ضخم لا شأن له سوى الترويج للإنجازات التي حققها السيسي خلال فترة رئاسته الأولى، وبهذا يتبدد كثيرا مفعول رسالته التطمينية بشأن نزاهة الانتخابات وتنافسيتها.

هنا يقول قائل، ألم يكن أولى بالسيسي، إذا أراد تثبيت رسالته التطمينية، أن يرسلها عبر تسجيل مصور أو كلمة مرئية يعلن خلالها ترشحه رسميا، مثلما حدث في 2014؟، ويبدو التساؤل منطقيا إلى حد كبير، لكن السيسي ربما رغب في استغلال الحدث لتعزيز فرصته في قبول المصريين بترشحه.

ثمة ملمح آخر شديد الرمزية في كلمة السيسي جدير بالرصد، فالراسخ في أذهان المصريين عبر عقود طويلة مقولة المؤرخ الشهير “هيرودوت” إن “مصر هبة النيل”، والتي ترجع الفضل في نهضة مصر وحضارتها إلى الحياة على ضفتي النيل.

لكن السيسي كان له رأي آخر، حيث وصف مصر بأنها “هبة الجغرافيا”، في توصيف ربما يكون دقيقا من الناحية العلمية والتاريخية، لكن دلالاتها السياسية ربما لا تكون خافية على أحد.

ولعل الرئيس تجنب في إعلانه الترشح الإشارة إلى نهر النيل، ابتعادًا عن تلك الكلمة التي أصبحت ملغومة بسبب أزمة سد النهضة الإثيوبي، وما مُنيت به مصر من فشل ذريع في الحفاظ على حقوقها التاريخية في مياه النيل.

“عنان”.. الشعب السيد

في المقابل، فإن خطاب الفريق سامي عنان، بدا أنه ارتكز على إبراز مساوئ حكم السيسي خلال فترته الأولى، ربما أكثر من الحديث عما ينوي أن يقدمه للمصريين إذا أصبح رئيسا.

البداية كانت في لغة الخطاب التي اعتمدها “عنان” عند توجيه كلمته للمصريين بعبارة “أيها الشعب السيد في الوطن السيد”، فهو أسلوب جديد في الخطابة لا يخفي محاولة التودد للمواطنين، وإشعارهم ربما بكرامة وقيمة ومكانة افتقدوها خلال عهد السيسي.

وظهر “عنان” في التسجيل المصور الذي يبدو أنه أُعد حتى قبل إعلان السيسي ترشحه، رغم بثه بعد ساعات من خطاب الرئيس، واثقًا بمظهر شبابي حاول أن يخفي وراءه سنه السبعيني، وجلسة معتدلة، ولغة رصينة ومتقنة تفوق بمراحل تلك التي تحدث بها السيسي.

الخطاب السياسي لـ”عنان”، والذي يبعث على الشك في إمكانية أن يكون شارك في إعداده لقلة خبرته السياسية، ركز في أكثر من مناسبة على أبرز محطات فشل السيسي خلال فترته الرئاسية الأولى.

ولعل أبرز تلك المحطات التي ذكرها “عنان”: الحرب على الإرهاب، تردي أوضاع الشعب المعيشية “التي تزداد يوما بعد يوم”، و”تآكل قدرة الدولة المصرية على التعامل مع ملفات الأرض والمياه”.

ومن المفهوم أن حديث الرجل عن الأرض ينصب على أزمتي التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، والخلاف مع السودان على مثلث حلايب وشلاتين الحدودي، وعن المياه في أزمة سد النهضة.

ما السبب في كل ذلك؟ تساؤل أجاب عنه “عنان” مباشرة بعبارات نقد وهجوم تلميحية تارة، وتصريحية تارة أخرى، قائلًا إن ذلك حدث “نتيجة سياسات خاطئة، حملت قواتنا المسلحة وحدها مسؤولية المواجهة”، كما رأى أن مصر لن تتخطى ذلك “دون نظام يؤمن بالحريات والعدالة، وتقاسم السلطة بين مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية”.

لم يترك العسكري المخضرم الفرصة في إبراز الاتهامات التي تلاحق السيسي وما علق بفترة رئاسته من سلبيات كانت محل رصد وتوثيق منظمات حقوقية محلية وعالمية، فضلًا عن التحليلات السياسية المتعمقة.

تغول السلطة التنفيذية ممثلة في رئيس الجمهورية على باقي السلطات، انتهاكات حقوق الإنسان التي أصبحت سمة رئيسية للجهات الأمنية في عهده، الأحكام القضائية التي أساءت لمصر ونظامها القضائي، استئثار الجيش بمقومات الدولة وطغيانه على الأنشطة الاقتصادية المدنية في مختلف المجالات إلى حد أفقده دوره الحقيقي..، وغيرها من الاتهامات التي تتسرب من كلمات “عنان”، وربما ود لو أن يطلقها صراحة دون تلميح.

طمأنة الجيش

وفي هذا تعهد مباشر بإعطاء فرصة أكبر للمؤسسات المدنية والقطاع الخاص في المشهد الاقتصادي، لكنه ربما أراد تخفيف حدة كلمته التي تفهم أنها موجهة ضد الجيش.

فقد ذكّر مرارًا بانتمائه للمؤسسة العسكرية وبمنصبه السابق فيها، كما نطق بعبارة مثيرة للجدل قال خلالها إنه سيقوم باستيفاء أوراق ترشحه “وفقا للنظم القانونية العسكرية”.

فهل يمكن تأويل تلك العبارة غير المفهومة من الناحية القانونية – باعتبار أنه عسكري سابق وليس في الخدمة- على أنها مجرد تودد إلى الجيش، ومخاطبة قياداته برسالة: “أنا منكم ولست ضدكم، وسأحافظ على امتيازاتكم”؟ يعزز من منطقية هذا الطرح حديث “عنان” المتزايد بشأن دور المؤسسات المدنية وتحجيم النشاط الاقتصادي والعام للجيش.

ومن بين العبارات الهجومية شديدة الوطأة، التي قد تتضمن تهديدًا بمواجهة انحياز محتمل لصالح السيسي، دعوة “عنان” مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية إلى عدم الانحياز “لرئيس قد يغادر منصبه خلال شهور قليلة.. فهو منذ الآن مجرد مرشح محتمل بين مرشحين آخرين”.