باتت أخبار الانتهاكات ضد المسلمات في المجتمع الفرنسي عصية على الرصد والتتبع الجامع بسبب كثرتها وتفشيها في الآونة الأخيرة برعاية حكومية وجدت في التنكيل بالمسلمين وانتزاع حقوقهم سبيلا لتعزيز حضورها في مواجهة اليمين المتطرف، لتقدم فرنسا نموذجا يساريا غريبا يحمل نفس التطرف الذي يدعي مواجهته في تحالفات اليمين.

 

ولطالما كانت فرنسا متطرفة عبر تاريخها، سواء حين كانت مسيحية صريحة رافعة للصليب في معاركها ضد البلدان الأفريقية والآسيوية، قاصمة بذلك أرواح الآلاف بل والملايين من أبناء تلك المناطق وسارقة لخيارتها التي وصلت لحد بناء برج إيفيل كاملا من الحديد الجزائري المسروق، وذلك إبان احتلال فرنسا للجزائر ضمن حملتها ضد بلاد غرب أفريقيا، والتي بقيت شاهدة على العنصرية والتطرف الفرنسي في أبهى صوره.

 

وحين انخلعت فرنسا عن مسيحيتها المعلنة إبان الثورة الفرنسية التي استمرت من الخامس من مايو عام 1789 وحتى التاسع من نوفمبر لعام 1799، ألقت كل روث الحكم الثيوقراطي للكنسية خلف ظهرها، لتعلن العلمانية دينا جديدا للبلاد، ولكنها نسيت في الوقت نفسه -أو تناست- أن تخلع عنها أسوأ ما حمله الحكم الثيوقراطي للكنسية على مدار قرون، وهو العنصرية والتطرف والتمييز ضد أصحاب الاعتقادات الأخرى.

 

أبقت فرنسا إذن على العنصرية حاضرة في أرض خصبة تتغذى فيها العنصرية وتنمو أسرع من أي موقع آخر حول العالم، ولا أدل على ذلك من أن اليسار الفرنسي أكثر تطرفا من أعنف التيارات اليمينية في أوروبا كلها، وهو الذي يرعى هذه الآونة حملة ممنهجة ضد المسلمين في المجتمع الفرنسي، والتي كان آخرها معركة عنوانها رشيدة كبوري.

 

مُحافظة “فال دو مارن” الفرنسية اليسارية المتطرفة تذرعت بما أسمته مبدأ “التزام الحياد”، لمنع رئاسة المواطنة الفرنسية المُسلمة رشيدة كبوري، لمركز اقتراع في بلدية فيتري سور سين، بحجة أنها محجبة، بينما يقوم مبدأ الحياد على منع إبراز أي “علامة” تدل على انتماء سياسي أو ديني.

 

الغريب في الأمر أن المُحافِظة المذكورة تحمل أسفل رقبتها وشما كبيرا على شكل صليب (أحد أبرز علامات الديانة المسيحية)، ومع ذلك اعتبرت ذلك استثناءً لأنه على حد وصفها “مجرد شكل فني” لا أكثر، وليس دلالة على اعتقادها الديني، رغم أنها مسيحية متطرفة بحسب منشورات سابقة لها على منصات التواصل الاجتماعي، والذي رصدته صحيفة “لوموند” (lemonde) الفرنسية.

 

وقررت المُحافظة منع مستشارة البلدية عن الحزب الأخضر الأوروبي رشيدة كبوري، من ترؤس مركزَ الاقتراع رقم 15 في مدرسة جان جوريس؛ خلال الجولة الأولى من الانتخابات الإقليمية والمحلية في فيتري سور سين في 20 يونيو/ حزيران، وذلك لأنها ترتدي الحجاب.

 

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل امتد إلى درجة الاعتداء الجسدي واللفظي على رشيدة، ومحاولة ترهيبها وتعنيفها لفظيا، وهو ما أكدته رشيدة في تصريح لها لصحيفة “لوباريزيان” (Le Parisien) الفرنسية، بقولها: “دخلت امرأة إلى المكتب الذي كنت رئيسة له، وشتمتني ووصفتني بالإسلامية لأنني أرتدي الحجاب”.

 

وفي دولة تدعي أنها قائمة على احترام حقوق الإنسان، استنجدت رشيدة بالسلطات لمنع العنصرية ضدها، فما كان من السلطات الفرنسية إلا وعززت موقف المُحافظة العنصرية، حيث أوضحت محافظة فال دي مارن، التي تشرف على تنظيم الانتخابات في جميع أنحاء المقاطعة أن قرار السيدة المُحافظة بفصل رشيدة صحيح وواجب النفاذ، لأنه “يتولى رئاسة مراكز الاقتراع رئيس البلدية الذي يعمل في أيام الانتخابات، باعتباره ممثلا للدولة. وهو يتمتع بسلطة تفويض نواب بدلا عنه، وهذا يعني أن واجب التزام الحياد الذي يقوم عليه القانون الانتخابي والقانون العام للجماعات الإقليمية، يُفرض أيضًا على ممثلي الدولة”.

 

وبالرغم من سعي الرئيس الفرنسي اليساري إيمانويل ماكرون إلى تعزيز العنصرية في المجتمع الفرنسي ضد المسلمين لضمان عدم فقدان أصوات الناخبين لصالح منافسته اليمينية المتطرفة مارين لوبان التي تصرح بأنها ستطرد المسلمين من البلاد حال نجاحها في الوصول إلى رئاسة البلاد، فإن المفاجأة كانت أن نتائج هذه الانتخابات جاءت مخيبة لآمال ماكرون وحزبه اليساري المتطرف.

 

حيث شهدت الجولة الثانية من الانتخابات الإقليمية الفرنسية عزوفا واسعا عن التصويت من قِبل الناخبين، وسط احتفاظ اليمين واليسار بمناطقهم دون تغيير، في حين كانت نتائج حزب “فرنسا إلى الأمام” وحزب اليمين المتطرف “التجمع الوطني” مخيبة للآمال، بحسب الكاتب فرنسوا إكزفيي بورمو الذي نشر تعليقا له بصحيفة “لوفيغارو” (Le Figaro) الفرنسية.

 

الانتخابات الإقليمية الفرنسية التي أجريت الجولة الثانية منها الأحد الماضي، بحسب بورمو، أوضحت تضاريس المشهد السياسي، حتى لو ظل الامتناع الهائل عن التصويت يترك لغزا محيرا بشأن نية الفرنسيين في التصويت عشية الانتخابات الرئاسية العام المقبل 2022، والذي من الواضح أن تغذية مشاعر الكراهية ضد المسلمين قد آتت أكلها فيه، وبدا واضحا أن اليمين المتطرف أقرب لحسم الانتخابات المقبلة، والفضل في ذلك يعود لماكرون وحزبه اليساري نفسه.

 

وبشكل عام، يعزز الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من العنصرية في المجتمع الفرنسي ظانا أنه قد يتمكن من غلبة تصريحات لوبان العنصرية، ولكن في واقع الأمر فإن لوبان تبدو أكثر إقناعا للعنصريين الفرنسيين، الذين يؤمنون بأن لديها أيديولوجية حقيقية ومنتمية ضد الإسلام بعكس ماكرون الذي -بحسب وصفهم- لا يهتم سوى باقتصاص حصة من مؤيديها إلى اليسار المتطرف، الذي يقدم نموذجا هو الأغرب حول العالم من بين اتجاهات اليسار تجاه الأقليات!