مع أعقاب توقف المفاوضات عام 2014 ورفض إسرائيل استئنافها، بدأت السلطة الفلسطينية تقديم تنازلات كبيرة وغض النظر عن ملفات رئيسة أملًا في عدم انهيارها.

وبعد عقود مضتها السلطة في مناقشة قضايا الاستيطان وإقامة دولة فلسطينية ومطالبتها بإنهاء الصراع مع إسرائيل، إلا أن سلطات الاحتلال نجحوا بتغيير المعادلة جذريًا.

وخلال السنوات الأخيرة، في عهد رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو وخلفه نفتالي بينيت، تحول النقاش إلى إنقاذ السلطة الفلسطينية من الانهيار، ومناقشة التنسيق الأمني المشترك وتحسين الأوضاع الاقتصادية دون بذل جهد بشأن الملفات المصيرية.

وآخر ما يشهد على ذلك، هو ما نتج عن لقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس ووزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس في 28 ديسمبر/كانون الأول 2021 داخل منزل الأخير في مستوطنة قرب “تل أبيب”.

ونقل موقع “واللا” العبري عن مصدر إسرائيلي أن عباس وغانتس اتفقا على تهدئة الأوضاع الميدانية في الضفة الغربية المحتلة، ومنع حدوث أي تدهور آخر للأوضاع.

وشهدت الضفة الغربية مؤخرًا تصاعدًا في المواجهات بين جيش الاحتلال والمستوطنين من جهة والفلسطينيين من جهة أخرى، وحدث ذلك تزامنًا مع تصاعد عمليات المقاومة الفلسطينية.

واتضح أن المقابل من هذا الاتفاق، إعلان غانتس بعد ساعات من اللقاء، التصديق على عدة تسهيلات للسلطة، شملت تسوية أوضاع 6 آلاف فلسطيني لا يحملون الهوية الفلسطينية في الضفة.

وقالت صحيفة “هآرتس” العبرية إن غانتس أقر تقديم موعد دفع أموال المقاصة (العائدات الضريبية) بقيمة 100 مليون شيقل (نحو 32 مليون دولار)، ومنح تصاريح جديدة لرجال الأعمال الفلسطينيين، وتشمل التسهيلات منح 3500 من سكان قطاع غزة الهويات المحلية.

واتفق كذلك على منح 600 تصريح رجال أعمال إضافية لفلسطينيين، ومنح 500 منهم تصريح إدخال مركبات إلى “إسرائيل”، وكذلك منح عشرات بطاقات الـ”VIP” لمسؤولي السلطة. 

كما تضمن الحديث قرارات اقتصادية، بما بذلك تخفيض ضرائب الوقود وتجربة إدخال حاويات تجارية عبر معبر الكرامة مع الأردن، وإقامة قاعدة بيانات جمركية إلكترونية، وقاعدة بيانات لدفع أجور عمال فلسطينيين عبر مشغلين إسرائيليين بشكل إلكتروني.

وأبلغ غانتس عباس أنه ينوي الاستمرار في تعزيز تدابير “بناء الثقة” في المجالين الاقتصادي والمدني، كما اتفقا في اجتماعهما السابق.

ويعتبر هذا الاجتماع الثاني بين عباس وغانتس، حيث سبق أن التقيا في 30 أغسطس/آب 2021، بمقر الرئاسة في مدينة رام الله، وآنذاك، قالت الحكومة الإسرائيلية، إن اللقاء بحث قضايا أمنية ولم يتطرق لأي ملفات سياسية.

كما استبعد غانتس وقتها أي مبادرة سلام في ظل الحكومة الجديدة، فيما قال رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت لاحقًا إنه لن تكون هناك دولة فلسطينية.

وتوقفت المباحثات السياسية بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، منذ عام 2014، جراء رفض الأخيرة وقف الاستيطان، وعدم قبولها بمبدأ “حل الدولتين”.

وأكدت فصائل “العمل الوطني والإسلامي” في بيان لها، أنها تستنكر وتدين هذا اللقاء في هذا التوقيت “الذي تشهد فيه مدن الضفة والقدس حالة ثورية تقلق الكيان والمستوطنين، وفي ظل الهجمة الشرسة من قبل ما تسمى إدارة مصلحة السجون والقمع المستمر للأسرى والأسيرات في سجون الاحتلال”.

وبينما تقول السلطة الفلسطينية إن اللقاء كان بمثابة “الفرصة الأخيرة قبل الانفجار”، أوضح بيان صادر عن مكتب غانتس أن الاجتماع بحث “تعزيز التنسيق الأمني ومنع الإرهاب”، في إشارة إلى المقاومة المتصاعدة.

فيما قال رئيس هيئة الشؤون المدنية الفلسطينية حسين الشيخ، في 29 ديسمبر/كانون الأول 2021، إن لقاء عباس مع غانتس هو “تحد كبير، والفرصة الأخيرة قبل الانفجار، والدخول في طريق مسدود”.

وتابع في تغريدة نشرها على حسابه في “تويتر” أن اللقاء كان “محاولة جدية جريئة لفتح مسار سياسي يرتكز على الشرعية الدولية، ويضع حدًا للممارسات التصعيدية ضد الشعب الفلسطيني”.

في المقابل، خلا بيان مكتب وزير الدفاع الإسرائيلي من أي إشارة تفيد بأن الاجتماع بحث قضايا سياسية، حيث قال إنه ناقش “مختلف الملفات الأمنية والمدنية”.

وأضاف البيان: “استمر الاجتماع قرابة ساعتين ونصف الساعة، وأبلغ وزير الدفاع رئيس السلطة نيته مواصلة تعزيز إجراءات بناء الثقة، وأكد الوزير الاهتمام المشترك في تعزيز التنسيق الأمني والحفاظ على الاستقرار الأمني ومنع الإرهاب والعنف”، وفق تعبيره.

وذكرت القناة “السابعة” الإخبارية العبرية أن عباس قال لغانتس خلال الاجتماع إنه “لن يسمح بالعنف والإرهاب واستخدام الأسلحة النارية ضد الإسرائيليين” ما دام في السلطة، بغض النظر عن طبيعة العلاقات بينهما.

ونقلت عن عباس تأكيده أن الأجهزة الأمنية للسلطة الفلسطينية ستستمر في العمل على هذا الموضوع.

وتأتي هذه التسريبات والتأكيدات متوافقة مع التأكيدات الإسرائيلية بالتوجه نحو إدارة الصراع أو تقليصه لا حله، خاصة مع غياب إستراتيجية واضحة للسلطة الفلسطينية في مقاومة الاستيطان وتحرير الأسرى وغيرها من الملفات الرئيسة.

فعندما تولى بينيت رئاسة الحكومة في يونيو/حزيران 2021، وظف مفهومًا جديدًا عرف بـ”تقليص الصراع” من ضمن المفردات السياسية التي استخدمها.

وقالت الأكاديمية الفلسطينية سنية الحسيني: “لا يخرج مضمون ذلك المفهوم عن إستراتيجية إدارة الصراع التي تتبناها حكومات دولة الاحتلال المختلفة في تعاملها مع الأراضي الفلسطينية وسكانها”.

واعتبرت في مقال نشرته في أغسطس/آب 2021 أن “إستراتيجية حل الصراع لم تكن يوما على الأجندة الإسرائيلية، سواء كان ذلك في إطار أجندة اليمين أم اليسار الصهيوني، أو بعد احتلال العام 1967 أو عقب توقيع اتفاق أوسلو عام 1993”.

ولا يختلف هذا المصطلح عما طرحه رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق موشيه ديان حول “الاحتلال الخفي” والسيطرة على الأرض والسكان الفلسطينيين، لكن دون إشعارهم بذلك.

وفي عام 2017، ابتكر المصطلح الجديد أستاذ التاريخ الإسرائيلي ميخا غودمان، الذي يقدم المشورة السياسية لرئيس الوزراء الجديد وتبناه الأخير وكشف عنه علنا للمرة الأولى.

ولا يتطلب تنفيذ مقاربة غودمان تفكيك الاحتلال فعليًا أو إخلاء ثلثي أراضي الضفة الغربية والمعروفة بمناطق “ج” أو حتى تقديم حلول سياسية للفلسطينيين، إذ يكفي تقديم تسهيلات حياتية واقتصادية لهم.

ويختلف هذا المصطلح عن مفهوم “السلام الاقتصادي”، فهو لا يسعى إلى خلق علاقات اقتصادية وطيدة، قد تساهم في وصول الفلسطينيين إلى تنازلات حقيقية أثناء نقاش ملفات الوضع النهائي، بل يستند إلى اعتقاد بأن حل الدولتين غير قابل للتطبيق عمليًا.

أما التسهيلات الاقتصادية فهي تهدف إلى الحد من “تذمر” الفلسطينيين من استمرار الاحتلال، ولكن كيف تنتفع السلطة الفلسطينية من هذه السياسة التي تعني تآكل دورها على المدى الطويل؟

وقال أستاذ العلوم السياسية في جامعة حيفا، أسعد غانم، إن “القيادات الفلسطينية التي تتشبث بمنظمة التحرير وتاريخها ومكانتها كطوق نجاتها حولتها عمليا لحساب مصرفي تضخ به أموال أميركية وأوربية وعربية، وتضم مجموعة كبيرة من المنتفعين المروجين للسلام الإسرائيلي”.

وأضاف في مقال نشره موقع “الجزيرة نت” عام 2010 إن السلطة “تورطنا بأوهام السلام الإسرائيلي، لأنها تريد الحفاظ على مكاسبها الشخصية أولًا، وليذهب الشعب الفلسطيني بعد ذلك لجحيم المعاناة والتشرد والملاحقة والمنع من وصوله إلى وطنه”.

ورأى غانم أنه خلال السنوات الماضية، انتقلت إسرائيل جذريًا من التفتيش عن حل سياسي “قليل الثمن” في أوائل تسعينيات القرن الماضي وحتى التحول لإدارة الصراع بدل حله.

وتحقق هذا الأمر بالفعل نتيجة لفهم واسع النطاق بأن السقف الأعلى من الاستعداد الإسرائيلي “لن يلامس الحد الأدنى” للمطالب الفلسطينية، أو حتى ملامح حل الصراع وفق القرارات الدولية ذات الصلة، بحسب الكاتب.

ولذلك، إذا كان من غير الممكن الوصول إلى حل رخيص نسبيًا، فمن الممكن العمل على إدارة الصراع من خلال تفاهمات جزئية ومحدودة مع حكومة فلسطينية، لا تملك أي بديل آخر سوى الانصياع للإملاءات الإسرائيلية، إن كان بشكل مباشر أو من خلال ضغوط أميركية عربية أوروبية متعاونة مع إسرائيل، كما قال غانم.

وأردف: “في العقد الأخير انتقلت إسرائيل من التطلع لحل الصراع نحو إستراتيجية إدارته حسب ما تمليه مصلحتها، ولذلك بادرت لإقامة نظام فصل دون إحراز تسوية تاريخية”.

وبالتالي، يرجح قيام كيان فلسطيني يمكن وصفه بأنه أكثر من حكم ذاتي وأقل من دولة مع إبقاء المركبات الأساسية للصراع، وعلى رأسها قضية اللاجئين، غير محلولة لأجل غير مسمى، بحسب غانم.

وتابع: “تفعل إسرائيل ذلك من خلال إيمانها بأنها تستطيع إنزال هذه القضايا من أجندة الاهتمام العالمي، بمساعدة نشطة من سلطة فلسطينية لا تملك سوى الاحتجاج، ومن ثم استئناف الحياة، وكأن الصراع لم يعد موجودا”.

في غضون ذلك، سيتم تأجيل القضايا الجوهرية المتمثلة في إقامة الدولة الفلسطينية وترسيم الحدود ومنح الحقوق للاجئين الفلسطينيين إلى أجل غير مسمى.

ونقلت مجلة “ذي إيكونوميست” البريطانية عن أحد مساعدي بينيت في سبتمبر/أيلول 2021: “الشيء المهم هو عدم التسبب في أي مشاكل غير ضرورية ومحاولة تسهيل الحياة على الفلسطينيين”.

وتقول: “يسهل الفلسطينيون على إسرائيل دفع قضيتهم إلى الهامش، فقد رفض عباس، الذي أصبح الآن في العام الـ17 من فترة حكم كان من المفترض أن تكون مدتها أربع سنوات، إجراء انتخابات، سواء كانت للرئاسة أو المجلس التشريعي (كانت مقررة بدءا من مايو/أيار 2021)”.

وينظر إلى إدارته على نطاق واسع على أنها “فاسدة وغير فعالة”، وفق ما تقول “ذي إيكونوميست”، ومثل الحكومة الإسرائيلية السابقة، تبدو إدارة بينيت غير مبالية بمصير الفلسطينيين.

وقد تكون هناك نوبات من “العنف” لسنوات طويلة قادمة، وخلال الوقت الحالي، تراهن هذه الحكومة على “إدارة الصراع”، بحسب المجلة البريطانية.