قبل أن تتسلم تركيا الشحنات الأولى من أنظمة الدفاع الجوي الروسية “إس-400” في وقت سابق من هذا الشهر، اعتقد الكثيرون أن اتفاقها لشراء المعدات العسكرية روسية الصنع كان مجرد تكتيك للتفاوض على شروط أفضل بشأن شرائها المحتمل لنظام “باتريوت” أمريكي الصنع.

لكن من الواضح أن الأمر لم يكن كذلك، والآن، بعد تم طرد تركيا من برنامج الطائرات المقاتلة “إف-35” الأمريكية، يتساءل الكثيرون عن سبب مخاطرة تركيا بالوصول إلى الطائرة الحربية الحديثة من الجيل الخامس مقابل منظومة “إس-400″، في حين عرضت الولايات المتحدة بالفعل بيع نظام “باتريوت” لأنقرة.

وبالنسبة لتركيا، لم يكن شراء “إس-400” يتعلق فقط بشراء نظام دفاعي؛ بل كان حول بناء قدراتها الخاصة بشكل أكثر استقلالية.

ومنذ أوائل الثمانينات من القرن الماضي، تحاول تركيا تطوير صناعتها العسكرية الخاصة، وهي مهمة تتطلب اتفاقيات لنقل التكنولوجيا، تأتي غالبا مع شراء الأسلحة، لتعلم كيفية تطوير أنظمة مماثلة على المستوى المحلي.

وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة كانت على استعداد لبيع تركيا نظام “باتريوت”، غير أنها لم ترغب في منحها حقوق نقل التكنولوجيا كجزء من الصفقة.

أما بالنسبة للتوقيت، فقد وقعت تركيا على اتفاقية “إس-400” مع روسيا قبل أن تصدر الولايات المتحدة قانون “مواجهة أعداء أمريكا من خلال العقوبات” لعام 2017، الذي قد يعرض تركيا لعقوبات ثانوية بسبب شرائها للمنتجات الدفاعية الروسية.

وهددت الولايات المتحدة بإزالة تركيا من برنامج “إف-35” فقط بعد موافقة تركيا بالفعل على شراء “إس-400″، وتكهن البعض أيضا بأن تركيا قد مررت الاتفاق لإرضاء الروس بعد أن أسقطت طائرة روسية بالقرب من الحدود السورية التركية عام 2015.

وقبل شهر من الحادث، سحبت الولايات المتحدة وألمانيا منظومتيهما للدفاع الصاورخي من تركيا، ومن المحتمل أن أنقرة قد اعتبرت ذلك تجاهلا من قبل حلفائها في “الناتو” للتهديدات التي كانت تركيا تواجهها في ذلك الوقت.

ومع ذلك، يبقى السؤال الأكثر أهمية هو: لماذا تخاطر تركيا بمكانها في الناتو، التحالف الذي حماها من خصمها القديم، روسيا، بشراء نظام أسلحة توجد بدائل له؟

ولماذا قد تسمح الولايات المتحدة لحليف مهم بشراء نظام دفاعي قد يعرض برنامجها للطائرات النفاثة باهظة الثمن من طراز “إف-35” للخطر، ويعرض حلف الناتو ككل للخطر أيضا؟

ويبدو أنه أمر متهور من الولايات المتحدة أن تخاطر بفقد حليفها الوثيق لمجرد رفض حقوق نقل التكنولوجيا وبضعة مليارات من الدولارات، وهنا يكمن الجواب في رغبة تركيا المتزايدة في متابعة مصالحها الخاصة، بعيدا عن حلفائها في “الناتو”.

 

السير وحيدا

وخلال الأعوام القليلة الماضية، كانت العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا متوترة، وأثار دعم الولايات المتحدة للقوات الديمقراطية السورية، وهي جماعة متمردة من الأكراد غضب تركيا، التي ترى في هذه الجماعات امتدادا لـ”حزب العمال الكردستاني” المتمركز في تركيا.

ومع ذلك، بدأت الولايات المتحدة بدعم قوات سوريا الديمقراطية فقط بعد أن رفضت تركيا التدخل في الحرب الأهلية السورية ومحاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وفي الواقع، أهملت تركيا حدودها لأعوام، من أجل السماح للمسلحين الإسلاميين بالعبور إلى سوريا وممارسة ضغط أكبر على “بشار الأسد”.

وكانت التعريفة الجمركية الأمريكية على الصلب التركي، التي كانت في البداية ضعف معدل الرسوم المماثلة المفروضة على البلدان الأخرى، وتم تخفيضها فيما بعد، قضية رئيسية أخرى.

وبالإضافة إلى ذلك، ردا على حبس تركيا للقس الأمريكي “أندرو برونسون”، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على اثنين من مسؤولي الحكومة التركية في أغسطس/آب الماضي، ما ساهم في تراجع الليرة التركية المتعثرة بالفعل، وقد رفعت الولايات المتحدة العقوبات في نوفمبر/تشرين الثاني بعد إطلاق سراح “القس”.

وكان أحد أكثر النزاعات حرجا بين أنقرة وواشنطن يدور حول رجل الدين التركي “فتح الله غولن”، الذي اتهمته تركيا بالوقوف وراء محاولة الانقلاب الفاشلة عام 2016. ولأن الولايات المتحدة رفضت مرارا طلبات تركيا بتسليم “غولن”، فقد اعتبرت تركيا أن الولايات المتحدة قد لعبت أيضا دورا في الانقلاب.

وبخلاف ذلك، ترى أنقرة أن واشنطن أعاقت الجهود التركية لتفكيك شبكة “غولن”، أضف إلى كل هذا الانتقاد الأمريكي لأنشطة استكشاف الغاز الطبيعي المستمرة لتركيا في شرق البحر المتوسط، ومن هنا تبدأ الحقيقة الأوسع والأوضح في الظهور، وهي أنه أيا من تركيا أو الولايات المتحدة لا يعمل من أجل مصلحة الطرف الآخر، وقد ترى أنقرة المزيد من الفوائد في اتباع مسارها بمفردها، بدلا من القيام بذلك إلى جانب واشن

 

نحو سياسة خارجية مستقلة

عندئذٍ، ينبغي اعتبار شراء “إس-400” أقل من كونه علامة انهيار للعلاقة الثنائية، بل علامة على مسار جديد لأنقرة وهو اتباع سياسة خارجية تركية مستقلة.

ويمكن القول إن هذا الهدف طويل الأجل قد ظهر بعد غزو تركيا لقبرص عام 1974، حين فرضت الولايات المتحدة على إثر ذلك حظرا على بيع الأسلحة على تركيا، وفي ذلك الوقت، كانت تركيا حليفا رئيسيا للناتو، حيث شكلت أهم الفاعلين في خط الاحتواء الجنوبي للسوفييت.

وابتداءً من أوائل الثمانينات، بدأت تركيا في بذل جهود أكثر تضافرا لتطوير مخزون عسكري محلي، حتى يمكنها التوقف عن الاعتماد على واردات الأسلحة الأجنبية.

وبالتالي، يأتي شراء منظومة “إس-400” كجزء من استراتيجية أوسع لتنويع إمدادات الأسلحة التركية، وليس مؤشرا على تحالف استراتيجي ناشئ بين أنقرة وموسكو.

ومع ذلك، يبقى الحديث حول أن تركيا تعمل على زيادة التعاون مع روسيا صحيحا، رغم التاريخ الطويل من الصراع بينهما، وقد شهدت التجارة بين البلدين نموا ملحوظا، وتعتمد تركيا على روسيا كأكبر مورد للغاز الطبيعي، كما أنها شرّعت بشكل أساسي وجود روسيا في سوريا، عبر الجلوس مرارا وتكرارا في محادثات سلام تشمل موسكو.

لكن أنقرة وموسكو ليستا صديقتين تماما، فلم يمض وقت طويل منذ أسقطت تركيا طائرة روسية عبرت أراضيها. وما زال البلدان يدعمان الأطراف المتعارضة في الصراع بالوكالة شمال غرب سوريا، حيث تدعم روسيا “الأسد”، بينما تدعم تركيا المتمردين المناهضين لـ”الأسد”، حتى إن بعض المراقبين تكهنوا بأن تركيا قد تابعت صفقة “إس-400″ فقط لأن روسيا هددت بالسماح لـ”الأسد” بإطلاق هجوم واسع النطاق على “إدلب” كان من شأنه أن يدفع عشرات الآلاف على الأقل من اللاجئين إلى تركيا.

ومع وجود ما يقرب من 4 ملايين لاجئ سوري يعيشون بالفعل في البلاد، تعاني موارد أنقرة، ولا تريد تركيا أن تستقبل المزيد.

 

اهتمامات متباينة

وسوف يكون لنزاع “إس-400” آثار على علاقة تركيا بحلف الناتو، ويتطلب فهم هذه الآثار فهم سبب انضمامها إلى الناتو في المقام الأول، وكان خوف تركيا من روسيا دائما هو الذي دفعها إلى التحالف، وقد احتاجت إلى دعم من قوة عظمى لدرء خصمها، وهو خصم كان قد خرج من الحرب العالمية الثانية أكثر قوة من أي وقت مضى.

ولكن روسيا اليوم مجرد ظل للإمبراطورية السابقة التي كانت عليها، فهي غارقة في أوكرانيا، وتواجه تحديات اقتصادية حادة، ولا تزال معدلات تأييد الرئيس “فلاديمير بوتين” تنخفض، ولديه مشاكل أكبر للتعامل معها من تركيا.

وفي الواقع، لقد كانت حريصة على تجنب المواجهة مع القوات التركية في سوريا، وبالتالي، أعطى الضعف النسبي لروسيا تركيا حرية أكبر في التصرف بشكل مستقل عن حلفائها المناهضين لروسيا، لكن تجدر الإشارة إلى أن روسيا لا تزال تنفق ما يقرب من 50 مليار دولار على الدفاع أكثر من تركيا. 

ويبقى آخر شيء يجب مراعاته في النظر إلى هذه الصفقة هو العوامل السياسية، وقد تعامل الجانبان، خاصة الولايات المتحدة، مع هذه الصفقة بطريقة قلصت خيارات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان”، ما جعل من الصعب عليه للغاية التراجع دون أن يخسر ماء وجهه، في الوقت الذي تتراجع فيه قبضة حزبه على السلطة بالفعل، كما رأينا في انتخابات بلدية إسطنبول في يونيو/حزيران، وقد يكون هذا نتيجة لأسلوب التفاوض التي تفضله إدارة “ترامب”.

وربما كان من الممكن حل النزاع حول “إس-400” من خلال قنوات دبلوماسية أكثر تقليدية، إذا لم تكن وزارة الخارجية تعاني من نقص في الموظفين خلال فترة ولاية هذه الإدارة، لكن هذا لم يكن ليغير المسار طويل الأجل الذي بدأته تركيا منذ زمن.

وبصرف النظر عمن يكون في البيت الأبيض، فسوف تستمر أنقرة في محاولة تأسيس سياسة خارجية مستقلة أكثر من أي وقت مضى