رغم أن الأمريكيين أكدوا بوضوح عدم اعترافهم باستفتاء كردستان العراق، ورغم اعتبار قوى أوروبية كبيرة أنه سيزعزع استقرار المنطقة، فإن الروس كان موقفهم غريبا، فهم وإن دعوا للحفاظ على وحدة الأراضي العراقية فقد رفضوا إعلان موقفهم صراحة من الاستفتاء، مكتفين بالقول إنهم “يتفهمون التطلعات القومية الكردية وحقهم في تشكيل دولة”، كما جاء في بيان الخارجية الروسية، مؤخرا.

الأكثر غرابة أن موقف موسكو لم يحظ بمعارضة العراق أو تركيا أو إيران، الذين عادوا بشدة الاستفتاء، وهددوا باتخاذ إجراءات قاسية ردا عليه.

الموقف الروسي الملتبس بات يستدعي إذن مزيدا من البحث والتحليل.. في ظل تموجات إقليمية ودولية وتداخل في المصالح والرؤى.

 

 

إستفتاء القرم

ثمة وجهة نظر ترى أن روسيا لم تشأ أن تعارض استفتاء كردستان صراحة، بسبب فكرة الاستفتاء، كآلية ديمقراطية في حد ذاته، ولا ينسى الكثيرون أن الروس لم يترددوا في اللجوء إلى آلية الاستفتاء لضم شبه جزيرة القرم الأوكرانية إلى أراضيهم، وبالتالي فموقفها من فكرة الاستفتاء قد تكون مجروحة.

من ناحية أخرى، يرى مراقبون أن روسيا بنت مواقفها من الاستفتاء الكردي بعناية فائقة، انطلاقا من رغبتها في تعزيز وجودها المتعاظم في المنطقة، وتمكين وضعها في سوريا والمحافظة على التوازنات الدقيقة التي وطدت وضعها كقوة أمر واقع، يجب أن يؤخذ برأيها ومصالحها بعد نحو سنتين على بدء التدخل العسكري الروسي في سوريا بشكل مباشر.

وتنظر روسيا إلى إقليم كردستان العراق كشريك مهم في محاربة الإرهاب، ودعمت -عبر الحكومة المركزية في بغداد– الإقليم بعتاد عسكري قيمته مئات ملايين الدولارات.

 

مكاسب موسكو في كردستان

ورغم الحذر الشديد الذي تتسم به السياسة الروسية، فقد بدأت تنسج علاقات سياسية مع الإقليم وصلت إلى حد عقد لقاء بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ورئيس حكومة وزراء كردستان العراق نيجيرفان البارزاني، على هامش منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي بداية الصيف الحالي.

اقتصاديا.. تطمح الشركات الروسية إلى ولوج قطاع الطاقة بالإقليم الذي يمتلك احتياطيات قابلة للاستخراج تقدر بنحو 45 مليار برميل من النفط و5.66 تريليونات متر مكعب من الغاز.

وبدأت شركة “غازبروم نفط” الروسية العمل بالإقليم منذ 2012 في عدة حقول نفطية، ووطدت “روس نفط”، وهي الذراع القوية للكرملين، علاقاتها مع الإقليم، ووقعت اتفاقات كثيرة لإقراض شركات الطاقة به مليارات الدولارات مقابل شراء النفط.

كما رفعت هذه الشركة استثماراتها هناك إلى ما يزيد على أربعة مليارات دولار، كان آخرها الاتفاق على بناء وتشغيل خط لتصدير الغاز الطبيعي من الإقليم عبر تركيا بطاقة تصل إلى 30 مليار متر مكعب سنويا، واللافت أن الإعلان عن الاتفاق الأخير جاء قبل أيام من تنظيم الاستفتاء على انفصال الإقليم عن العراق.

 

مع العراق أيضا

ولم يثر عمل الشركات الروسية حفيظة الحكومة المركزية في بغداد، وفي الوقت ذاته تعمل “لوك أويل” في الحقل غرب القرنة 2 النفطي العملاق، وتنشط “غازبروم” في حقل بدرة.

ويرتبط العراق بعقود تسليح بمليارات الدولارات للحصول على مقاتلات ومدرعات روسية.

وتسعى موسكو للحفاظ على علاقات في مجال الطاقة مع الطرفين، حتى تكون شريكا في أي مشروعات لنقل الغاز والنفط إلى أوروبا من العراق وإيران، سواء عبر سوريا أو تركيا.

وتنطلق السياسة الروسية من أن الاستفتاء على الانفصال ليس ملزما، وأن هناك فرقا بين نتائج الاستفتاء وتنفيذه على الأرض. وتسود قناعة في موسكو بأن رئيس الإقليم مسعود البارزاني سيستخدم نتائج الاستفتاء ورقة ضاغطة لتحسين الوضع التفاوضي مع بغداد فيما يخص المناطق المتنازع عليها، وحصة الإقليم من الموازنة.

 

إرضاء إيران وتركيا

ما سبق قد يفسر عدم امتعاض العراق من الموقف الروسي في قضية كردستان، فما هو سر الصمت الإيراني التركي؟

في مقابل دعم تطلعات الأكراد القومية في العراق، فإن موسكو ترسل إشارات بالنار إلى “قوات سوريا الديمقراطية” لوقف تقدمها في دير الزور، ولتمكين الجيش السوري وداعميه من تحقيق نصر مهم في المحافظة يوازي النصر الذي حققوه في الرقة، ما سيؤدي إلى قطع الطريق على مساعي أكراد سوريا لإيجاد تواصل جغرافي مع العراق، وتمنح هذه الفرصة الجانب الإيراني تعويضا عن سحب المليشيات الإيرانية واللبنانية من جنوب سوريا بضغط من تل أبيب.

وتجنبا لاعتراض تركيا، فإن موسكو تنسق مع القوات التركية لحسم الأمور في إدلب، وتمكين أنقرة من التوغل في قاطع عسكري يتجاوز مائة كيلومتر وبعمق يصل حتى 40 كيلومترا، رغم اعتراض الحكومة السورية.

وإذا تمكنت تركيا من السيطرة على هذه المناطق في إدلب فإنها ستضمن محاصرة عفرين ذات الأغلبية الكردية من الغرب والشرق، مانعةً أي تواصل من جهة البحر أو الشرق مع المناطق ذات الأغلبية السكانية الكردية في شمال سوريا.

باختصار، تواصل موسكو نسج شبكة علاقات مع جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة، رغم تشعب الخلافات وتعقيداتها بين مصالح إيرانوتركيا وبغداد وأربيل.

وتبني موسكو علاقاتها بالاستفادة من تخبط سياسات الإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 25 عاما، وانسحابها التدريجي من المنطقة في عهد الرئيس السابق باراك أوبامابعد فشل مشروعات الشرق الأوسط الكبير أو الواسع.

ومن المهم التأكيد على أن موسكو ترى في أي أزمة تنشب بالمنطقة فرصة لزيادة نفوذها على حدودها الجنوبية، ومزاحمة واشنطن. ومن المؤكد أن موسكو لا ترغب في نشوب حرب واسعة تعطل مشروعاتها في المنطقة، لكنها تدعم المحافظة على بؤر توتر يمكن احتواؤها والاستفادة منها في التعامل مع القوى الإقليمية.