العدسة – منصور عطية
لم يكن سوى “ريتويت” لتغريدة، لكنها ليست كأي تغريدة، والمغرّد صاحب “الريتويت” ليس كغيره، ليتحول الأمر إلى أزمة بين بلدين إسلاميين.
لكن للحقيقة فقصة التغريدة تلك، ليست إلا دخانًا لنيران مشتعلة من الصراع على النفوذ بين تركيا والإمارات، والخلاف الذي كانت ثورات الربيع العربي صاحبة الفضل في تفجيره، بعد الموقفين المتناقضين للدولتين.
ولعل إثارة الأزمة في هذا لتوقيت ليست أمرًا عفويًّا بأي حال من الأحوال، وربما تنسحب على محاولة إماراتية لصرف الأنظار عن أزمة قرار “ترامب” بشأن القدس، والدور التركي المحوري فيها.
تغريدة تشعل أزمة
بداية الأزمة كانت مع تغريدة أعاد وزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد تغريدها عبر حسابه الرسمي على تويتر، تتضمن هجومًا على أحد رموز الدولة العثمانية، واتهامات تتعلق بالمدينة المنورة وسرقة مخطوطات مكتبتها.
التغريدة التي أعاد نشرها أيضًا وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش، هي لطبيب عراقي مقيم في ألمانيا يدعى علي العراقي، وجاء فيها: “هل تعلمون في عام 1916 قام التركي فخري باشا بجريمة بحق أهل المدينة النبوية، فسرق أموالهم، وقام بخطفهم وأركبهم في قطارات إلى الشام وإسطنبول، برحلة سُميت (سفر برلك)، كما سرق الأتراك أغلب مخطوطات المكتبة المحمودية بالمدينة وأرسلوها إلى تركيا، هؤلاء أجداد أردوغان وتاريخهم مع المسلمين العرب”.
التغريدة أغضبت تركيا على المستوى الرسمي، واعتبرت أنقرة هذا الأمر إساءة للأتراك، واستنكر إبراهيم قالين، المتحدث الرسمي باسم الرئاسة التركية، قيام وزير الخارجية الإماراتي بإعادة نشر التغريدة، واصفا إياها بـ “الكاذبة والاستفزازية”، وكتب على حسابه الرسمي على “تويتر” ينتقد التغريدة، وأشار إلى الوزير في تعليقه عليها.
ولم يتوقف الأمر على حد تعليق “قالين” بل أثارت التغريدة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بنفسه، وقال في كلمة له بالعاصمة أنقرة، الأربعاء: “حين كان جدنا فخر الدين باشا يدافع عن المدينة المنورة، أين كان جدك أنت أيها البائس الذي يقذفنا بالبهتان؟”.
وتابع الرئيس التركي: “عليك أن تعرف حدودك، فأنت لم تعرف بعد هذا الشعب (التركي)، ولم تعرف أردوغان أيضا، أما أجداد أردوغان فلم تعرفهم أبدا”.
وأضاف: “نحن نعلم مع من يتعامل هؤلاء الذين يتطاولون على تاريخنا وعلى شخص فخر الدين باشا، وسنكشف ذلك في الوقت المناسب.. من الواضح أن بعض المسؤولين في الدول العربية يهدفون من خلال معاداتهم لتركيا إلى التستر على جهلهم وعجزهم وحتى خيانتهم”.
اللافت، أن هذا التلاسن التركي الإماراتي الذي يتسبب فيه “بن زايد” ليس الأول من نوعه، حيث سبقه بتصريحات استفزازية في أغسطس الماضي، وجه خلالها انتقادات لما وصفه “الدور التركي الاستعماري في سوريا”.
الرد حينها اقتصر على المتحدث باسم وزارة الخارجية التركية، حسين مفتي أوغلو، الذي نفى الاتهامات الإماراتية، ووجه لابن زايد رسالة مبطنة بقوله: “”لكننا أيضا نود أن نقول: إن تركيا لا يمكنها التهاون حيال الأطراف التي تستهدف أمنها القومي، من خلال محاولات خلق أمر واقع، بدعوى مكافحة الإرهاب”.
دلالة التوقيت
ويبدو من غير المنطقي أن يتم تسويق الموقف الإماراتي باعتباره عفويًّا، فسبب الأزمة وزير الخارجية شخصيًّا المسؤول الأول عن سياسة بلاده الخارجية وعلاقتها مع الدول المختلفة، وليس أي شخص أو مسؤول.
أما التوقيت فهو يحمل دلالة في منتهى الرمزية، حيث جاء إشعال فتيل الأزمة من قبل ابن زايد، في ظل حالة الغضب التي تعم العالمين العربي والإسلامي، ضد قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باعتبار القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي.
ليس هذا فحسب، بل في ظل دور تركي لافت يوصف بالأهم في خضم الأزمة توجته بقيادتها لمؤتمر قمة منظمة التعاون الإسلامي بإسطنبول قبل نحو أسبوع، مقابل مشاركة هزيلة للإمارات بوزير دولتها للشؤون الخارجية، على نحو عكَس تراجع اهتمام أبو ظبي بقضية القدس.
وإلا، فما المناسبة التي دعت “بن زايد” للتصعيد بإعادة تغريد مثل هذه التغريدة التي ربما لا تستند إلى ظل من الحقائق التاريخية، بل مجرد كلام مرسل مدعوم بصور لا تتضح معالمها على وجه الدقة، دون الاستناد إلى مصادر معتبرة؟.
المناسبة هنا، بوضوح لا يحتمل اللبس والتأويل، هي رغبة الإمارات في صرف أنظار العالم عن الدور التركي في أزمة القدس، وشغل أنقرة بالرد والتوضيح وغيره من ناحية، وأيضًا صرف الأنظار عن دور أبو ظبي الهامشي في القضية ذاتها.
وليس أدل على ذلك من الحملة التي أفرزتها التغريدة عبر الآلاف من الحسابات الخليجية، التي يقال إنها مجرد لجان إلكترونية تديرها الإمارات والسعودية، تُشن فيها هجمات منظمة تسيء لتاريخ الدولة العثمانية، وتشكك في خدمتها للأمة الإسلامية، وليس مجرد انتقاد أردوغان وتركيا الحالية.
الانقلاب والأزمة الخليجية
ترجع جذور الأزمة المتفاقمة بين تركيا والإمارات إلى ثورات الربيع العربي، التي ساندتها أنقرة منذ البداية، بينما حاربتها الإمارات وسعت لتمكين الثورات المضادة في تلك الدول، على أرضية معاداة تيار الإسلام السياسي الذي قاد الثورات.
الملف المصري المرتبط بتعامل البلدين مع الثورات كان خير شاهد، فبينما مولت الإمارات علانية التحركات التي انتهت إلى الإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي في يوليو 2013، ودعمت بقوة مستمرة حتى الآن، نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي، احتضنت تركيا الفارين من مؤيديه والمنتمين لجماعة الإخوان المسلمين وناصبت السيسي العداء.
وخلال العامين الأخيرين، كانت محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا في يوليو 2016، والأزمة الخليجية يونيو 2017، هما الحدثان الأبرز في تعاظم الأزمة بين البلدين على نحو غير مسبوق.
تقارير إعلامية تحدثت عن اتهام السلطات التركية للإمارات بإنفاق نحو 3 مليارات دولار من أجل تمويل المحاولة الانقلابية الفاشلة للإطاحة بأردوغان ونظامه، عن طريق المتهم الأول بالتورط فيها، رجل الدين المعارض عبد الله كولن وجماعته المعروفة باسم “الخدمة”، والمتغلغلة في الدولة التركية.
أما الأزمة الخليجية فقد قادت إلى فهم أكبر للدور الإماراتي في محاولة الانقلاب الفاشلة، حينما كان أردوغان في طليعة المساندين لقطر ضد حصار الرباعي العربي، ليس بالكلمات فقط بل بالقوة المسلحة حيث انتقلت القوات التركية إلى قاعدتها العسكرية الوليدة في قطر.
تقارير أخرى، نقلت عن مصدرين أحدهما دبلوماسي وآخر أمني، ما قيل إنها معلومات جديدة، حول دور أبو ظبي في مساعدة جماعة “كولن” للقيام بمحاولة الانقلاب الفاشلة.
المصدر الدبلوماسي، قال: إن الصراع بين تركيا والإمارات أعمق من أي وقت مضى، في الوقت الذي كشف المصدر الأمني عن رصد أجهزة الاستخبارات في بلاده اتصالات عدة بين شخصيات بارزة في الإمارات وبين منظمات وصحفيين على صلة بـ”كولن”.
صراع النفوذ الإقليمي
على الجانب الآخر، كانت منطقة شرق إفريقيا، بما تمثله من أهمية إستراتيجية كبيرة، ساحة لصراع على النفوذ بين تركيا والإمارات.
ووفق تقارير إعلامية، بدأ التنافس التركي الإماراتي الناشئ حول الصومال على وجه الدقة في الازدياد بقوة خلال الأشهر الأخيرة، لدرجة حضوره في القلب من انتخابات الصومال الرئاسية أواخر العام الماضي.
واستثمرت أبو ظبي بشدة في عدد من المقربين منها، وعلى رأسهم الرئيس الأسبق “حسن شيخ محمود” الذي سهل بشكل ما سيطرة الإمارات على الموانئ الصومالية، كما استثمرت في مرشحين آخرين، على رأسهم رئيس الوزراء الصومالي السابق “عمر عبد الرشيد شارمارك” المقرب من الإمارة.
فاز عبد الله فارماجو في النهاية بالرئاسة على غير رغبة الإماراتيين، وبدا أن الرئيس الجديد يحمل حساسية أكثر من سلفه تجاه سعي بعض القوى الأجنبية لإضعاف الحكومة الفيدرالية، من خلال إبرام اتفاقات خاصة مع الحكومات الإقليمية.
ورغم أن الرئيس الصومالي الجديد اختار الرياض كمحطة أولى لزيارته الخارجية بعد انتخابه، فإنه طلب من الرياض الضغط على أبو ظبي لوقف بناء القاعدة العسكرية ببلاده.
ورغم معارضة الحكومة الصومالية، بدا أن أبو ظبي ماضية في سياستها التوسعية، خاصة بعد أن قامت موانئ دبي بتوقيع عقد جديد مع منطقة بونتلاند، أي أرض النبط (شبه المستقلة شمال شرقي الصومال) تدير بموجبه الشركة الإماراتية ميناء “بوصاصو”، مع الحديث عن تواجد عسكري محتمل في الميناء.
وفيما يبدو أن التحركات الإماراتية السريعة لتعزيز أصولها الصلبة في الصومال قد نجحت في رفع مستوى القلق لدي أنقرة لحده الأقصى، ما دفعها لتسريع وتطوير وتيرة البناء في منشأة التدريب العسكرية المعلن عنها قبل عامين، والتي افتتحت بالفعل.
وعلى خلاف القواعد العسكرية الإماراتية، ستخصص القاعدة التركية لتدريب الجنود الصوماليين، حيث سيقوم 200 خبير تركي بتدريب ما يصل لـ 10 آلاف من أفراد الجيش الصومالي، في غياب أي خطط لنشر وحدات تركية قادرة على القيام بعمليات عسكرية، وفيما يبدو فإن أنقرة قررت تعزيز تواجدها في فضاء تدريب وتشكيل القوات الأمنية الصومالية، بعد أن سيطرت الإمارات على هذا الفضاء بشكل ملحوظ في الأعوام الماضية.
ويتوسع نطاق المنافسة التركية الإماراتية في الصومال، من الأمن والسياسة إلى الاقتصاد والتجارة، ففي حين تدير شركة البيرق التركية ميناء مقديشو، وقدمت الشركات التركية عطاءات للقيام بنفس الشيء في مدينة كيسمايو على الساحل الجنوبي، فإن شركة “إس كيه إيه” الإماراتية للطيران والخدمات اللوجستية تدير مطار مقديشو.
في حين تنافس الشركات الإماراتية على عقود تطوير الميناء والمطار في كيسمايو، وستدير موانئ دبي بالفعل كل من ميناء بربرة وميناء بوصاصو بعقود طويلة الأجل تم توقيعها مؤخرًا على الرغم من اعتراض الحكومة الفيدرالية.
معهد “ستراتفور” الأمريكي، قال في تقرير له أغسطس الماضي، إنه مع تطوير تركيا والإمارات لعلاقاتهما العسكرية والاقتصادية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشرق إفريقيا، فمن المرجح أن تشتعل منافساتهما العسكرية والاقتصادية بشكلٍ أكبر.
اضف تعليقا