العدسة _ منصور عطية

“الإقدام على ذلك في الظروف الجيوسياسية الراهنة قد يتطلب الركوع والتوسل، وتقليص استقلالية صوتي”.. هكذا برر الأمير الأردني “زيد بن رعد الحسين” مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، قراره عدم الترشح لفترة ثانية في منصبه.

تلك الكلمات تعبر بلا شك عن ضغوط عميقة تمارسها أطراف عدة على الرجل الذي تشهد مواقفه بالدور الكبير الذي لعبه بمساندة قضايا حقوق الإنسان في العالم، إلا أنه لم يسلم من سهام النقد والتجريح التي جاءت من الأخ والشقيق قبل الغريب.

أشهر معدودة ويترك فيها “ابن رعد” منصبه بعد 4 سنوات حافلة بالعطاء، وكانت كفيلة بأن يكون صاحب هذا المنصب محل جدل ومداولات، بعد أن كان مجهولا لا يعرف عنه أحد شيئا سوى في بيانات الشجب والإعراب عن القلق الخجولة.

لن أركع

ربما كان مفهوما تعرض “زيد بن رعد” لانتقاد من قبل دول أو أطراف أو وسائل إعلام ترى في أدائه هجوما عليها، لكن المثير أن هذا الانتقاد لم يأت إلا من الشقيق.

وجرت الكلمات القاسية التي تكيل اتهامات واهية تفتقر إلى أدنى درجات الصحة والثبوتية، على صفحات جريدة أردنية رسمية حكومية، أقدمت على ما لم يتجرأ أحد على فعله.

جريدة “الراي” قالت إن المفوض السامي– تجنبت ذكر اسمه صراحة – “أثار زوابع عاصفة بتقاريره المنحازة وغير المنصفة والتي لا تسهم إلا في زيادة الإساءة والنقد والتجريح ببعض الدول”.

واتهم المقال المنشور قبل أيام بتوقيع المحرر السياسي في الجريدة، أي أنه يعبر عن توجهاتها الرسمية، الأمير زيد بأنه يتجاهل تصرفات وسلوكيات وانتهاكات الدول الكبرى، بينما يصدر تقارير وتصريحات “متشنجة وعدائية” ضد أعمال السيادة التي تقوم بها دولة عربية أو إسلامية أو حتى إفريقية.

المقال أثار حالة من الجدل، إلى الحد الذي دفع كثيرين للرد على الاتهامات الواردة فيه بتجاهل انتهاكات الغرب، ومن بينهم “مروان المعشر” رئيس الوزراء الأردني الأسبق.

“المعشر” كتب في مقاله المعاكس: “في حين تقاعس معظم من تولوا المنصب عن انتقاد ممارسات الولايات المتحدة والدول الغربية ضد حقوق الإنسان، لم يتقاعس الأمير زيد عن  ذلك، وانتقد وبشدة الولايات المتحدة، والانتهاكات الخليجية في اليمن، والممارسات الإسرائيلية”.

وتابع: “للأسف، تأتي صحيفة أردنية رسمية اليوم لتهاجم ما سمته تجاهله للخروقات الغربية وهو الوحيد الذي ذهب أبعد بكثير مما فعله غيره في فضح هذه الممارسات”، متسائلا: “ما بالنا نصر على أكل أبنائنا المتفوقين؟”.

المفارقة أن هذا الجدل يأتي بعد أشهر من إعلان الأمير زيد بن رعد، أنه لن يسعى للترشح لولاية ثانية في 2018، وكتب في بريد إلكتروني أرسله إلى فريق عمله: “قررت عدم الترشح لولاية ثانية مدتها أربع سنوات؛ إذ إن الإقدام على ذلك في الظروف الجيوسياسية الراهنة قد يتطلب الركوع والتوسل، وتقليص استقلالية صوتي، الذي هو صوتكم، ونزاهته”.

وفي مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية حينها رفض الأمير فكرة “مسايرة” المسؤولين السياسيين لضمان ولاية ثانية، بحسب تقارير إعلامية.

ورغم أنه لم يذكر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مباشرة في رسالته، فقد أوردت وسائل إعلام أن الدبلوماسي الأردني تعرض لضغوط من جانب الأمين العام للأمم المتحدة “أنطونيو غوتيريش” ليخفف من انتقاداته للرئيس الأمريكي.

وجدد المسؤول الأممي التحذير من الهجمات المتكررة لترامب على وسائل الإعلام، معتبرا أن ذلك قد يؤدي إلى أعمال عنف ضد الصحفيين.

مواقف مشرفة تبرر الهجوم

وعند استعراض جهود الأمير زيد خلال 4 سنوات هي مدة تقلده منصبه، لا تخطئ عين في رصد سجل حافل بالعطاء والمواقف المشرفة المدافعة عن حقوق الإنسان أيا كان، على عكس مزاعم مهاجميه، لكنها قد تعطي مبررا منطقيا للهجوم.

من سوريا كانت المحطة الأبرز في هذا السجل، ومن أبرز مواقفه في هذا الصدد انتقاده اللاذع للجرائم التي ارتكبتها القوات الروسية وجيش النظام السوري في الغوطة الشرقية في دمشق، وطالب المحكمة الجنائية الدولية بمتابعة أحداث قصف الغوطة لكونها تشكل على الأرجح “جرائم حرب”، حسب تعبيره.

وأضاف الحسين أنه “بعد سبع سنوات من الشلل في مجلس الأمن الدولي يصرخ الوضع لإحالته إلى محكمة الجنايات الدولية ولبذل جهد أكبر لتحقيق السلام في سوريا”.

وفي الشأن السوري أيضا، قال الأمير زيد إن إدانة القائد العسكري السابق لصرب البوسنة “راتكو ملاديتش” بالإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية تعتبر تحذيرا إلى زعماء آخرين مثل “بشار الأسد”.

مأساة مسلمي الروهنجيا في ميانمار كانت حاضرة، ولعل أحدث مواقف الأمير زيد فيها تصريحه فبراير الماضي بأن حملة العنف ضد الروهنجيا قد تكون شملت إبادة جماعية وتطهيرًا عرقيًا، وتسببت في نزوح ما يقرب من مليوني شخص إلى بنجلادش المجاورة.

ترامب.. أبلغ رد

ولعل مواقف المفوض السامي المتكررة مع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تقدم أبلغ رد ممكن على الاتهامات الموجهة ضده بالصمت حيال انتهاكات الدول الكبرى.

في يناير الماضي، أعرب الأمير زيد عن قلقه بعد كلمة ألقاها ترامب في دافوس، قائلا: “إن دعوة ترامب للدول للسعي وراء مصالحها الخاصة ستعيد العالم إلى عشية الحرب العالمية الأولى”.

وتابع: “إنه نص ينتمي للقرن العشرين… دعا (ترامب) كل الدول إلى السعي وراء مصالحها الخاصة دون الإشارة تقريبا إلى أنه إذا فعلتم كل هذا وإذا اكتفت كل دولة بتنفيذ أجندتها الخاصة، فإنها ستتصادم مع أجندات الدول الأخرى وسنعيد العالم إلى عام 1913 مرة أخرى”.

ووجه انتقادا لاذعا للرئيس الأمريكي، ونظيره الفلبيني، رودريغو دوتيرتي؛ حين قال: “الرجلان كسرا محرّمات لم يقترب منها أحد منذ زمن بعيد؛ بدعمهما للتعذيب والقتل دون محاكمات، ما تسبب في جعل المخاطر التي تهدد منظومة القانون الدولي كلها حقيقة واقعة”.

هذا الانتقاد لم تسلم منه أيضًا رئيسة الوزراء البريطانية، تيريزا ماي، بعد تصريحات أطلقتها خلال حملتها الانتخابية، وأشارت فيها إلى “إمكانية إلغاء قوانين إذا عرقلت الحرب على الإرهاب”.

وعلّق الحسين على تصريحات ماي بقوله: “إنها مؤسفة بشدة، وهدية من زعيمة دولة غربية كبرى لكل مستبدّ في العالم ينتهك بلا حياء حقوق الإنسان بذريعة مكافحة الإرهاب”.

وكان الأمير زيد قد اتهم ترامب، عام 2015، بنشر “تعصّب عرقي وديني مهين”، وحذّر من “تصاعد نبرة شعبوية يمكن أن تتحوّل إلى عنف”.

واعتبر خلال حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية أن فوز ترامب سيكون “خطرا من وجهة النظر الدولية”، مستشهدا بآراء عبر عنها ترامب بخصوص الأقليات وحديثه عن اللجوء للتعذيب الذي قال إنه أمر محظور، وفقا للقانون الدولي، مضيفا أن ذلك “يثير القلق والانزعاج الشديدين”.

القدس والقضية الفلسطينية

وعبر الأمير زيد عن اهتمامه بالقضية الفلسطينية أيما تعبير؛ حيث عارض بشدة قرار ترامب الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وإصداره أوامر لوزارة الخارجية ببدء إجراءات نقل السفارة من تل أبيب إلى القدس.

وفي مارس الجاري، قال إن المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية والقدس الشرقية المحتلة “تشكل جريمة حرب“.

وفي سبتمبر الماضي، كشف أكثر من مسؤول في وزارة الخارجية الإسرائيلية، أن الأمير زيد بعث برسائل تحذير إلى نحو 150 شركة من إسرائيل وأنحاء العالم، يطلعها فيها على نيته إدراجها في “القائمة السوداء” للشركات التي تعمل في المستوطنات اليهودية في المناطق المحتلة من الضفة الغربية والقدس الشرقية وهضبة الجولان.

لكن ضغوط ترامب والاحتلال وقفت بالمرصاد، ففي نوفمبر كشفت تقارير أن إدارة ترامب، وبتحريض إسرائيلي، حاولت ثني بن رعد عن نشر قائمة سوداء بأسماء شركات تعمل في مستوطنات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة.

وبحسب المصادر العبرية، فإن الضغوط الإسرائيلية على الأمم المتحدة تسبّبت بتأجيل نشر القائمة، لكن هذا التأجيل لم يغير موقف الأمير من ضرورة نشرها.

وفي يونيو الماضي، دعا المفوض السامي إسرائيل إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها في حرب 1967، وأضاف أن الشعب الفلسطيني يحيي الآن ذكرى “نصف قرن من المعاناة الشديدة في ظل احتلال بالقوة العسكرية اتسم بانتهاكات منهجية للقانون الدولي”.

التحالف العربي والأزمة الخليجية

ومن بين مواقفه التي لا تنسى ويبدو أنها لعبت دورا كبيرا في قرار عدم ترشحه، تلك المتعلقة بالأزمة الخليجية والحرب في اليمن.

ففي سبتمبر الماضي، أكد أن الأمم المتحدة تحققت من مقتل 5144 مدنيا على الأقل منذ اندلاع الصراع في اليمن، محمّلا قوات التحالف العربي بقيادة السعودية مسؤولية قتل المدنيين العزل في اليمن، داعيا لتشكيل لجنة دولية للتحقيق في الانتهاكات.

وأعرب الأمير زيد عن “قلقه واستنكاره” إزاء الإجراءات والتدابير القسرية التي اتخذتها دول الحصار ضد قطر، كما اعتبر أن مطالبة دول عربية لقطر بإغلاق قناة الجزيرة “هجوم غير مقبول” على الحق في حرية التعبير والرأي.

وقال إن الإمارات والبحرين انتهكتا حقوق الإنسان بالتهديد بسجن أو تغريم من يبدون تعاطفا مع قطر.

من هو الأمير زيد بن رعد؟

-أول عربي ومسلم يتولى منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان، إثر تراكم تجارب دبلوماسية وحقوقية تقلد خلالها مناصب عدة. يتمتع بشعبية في المحافل الدولية بوصفه مدافعا عن حقوق الإنسان.

-ولد الأمير زيد وهو ابن الأمير رعد بن زيد بن الحسين يوم 26 يناير 1964 بعمّان، وهو من أبناء عمومة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني.

-تلقى الأمير زيد تعليمه ما بين الأردن وبريطانيا والولايات المتحدة، نال شهادة البكالوريوس من جامعة جونز هوبكنز، وماجستير بالفلسفة وشهادة الدكتوراه من جامعة كامبريدج (1993).

-شغل منصب مسؤول الشؤون السياسية في قوة حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة بيوغسلافيا السابقة خلال الصراع في البلقان (1994-1996)، كما شغل منصب مندوب الأردن لدى الأمم المتحدة خلال الفترة من 2000 إلى 2007.

-عمل سفيراً للمملكة لدى الولايات المتحدة الأمريكية بين عامي 2007 و2010، وفي الوقت ذاته أيضاً سفيراً غير مقيم لدى المكسيك. كما يشغل عضوية اللجنة الاستشارية لمعهد العدالة والمصالحة التاريخية.

-ساهم في إنشاء المحكمة الجنائية الدولية، وشارك في المشاورات التي أفضت لوضع أركان للجرائم الفردية.

-انتخب في سبتمبر 2002 أول رئيس لجمعية الدول الأطراف المشرفة على المحكمة الجنائية الدولية.

-وضمن المهام الموكلة إليه بالهيئة الأممية كان الأمير زيد أول سفير يترأس اللجنة المخصصة لمسألة نطاق الحماية القانونية بموجب الاتفاقية المتعلقة بسلامة موظفي الأمم المتحدة والأفراد، وشغل أيضا منصب المستشار الخاص لقضايا الاستغلال الجنسي بين قوات حفظ السلام.

-وفي ربيع 2004 اختير الأمير رئيسا لفريق خبراء الأمم المتحدة للصندوق الإنمائي الذي أنشأه الأمين العام لمساعدة الدول على تسوية المنازعات عن طريق محكمة العدل الدولية في مسألة النزاع الحدودي بين بنين والنيجر.

-عينته الحكومة الأردنية في مطلع 2004 ممثلا لها ورئيسا لوفدها أمام محكمة العدل الدولية في مسألة الجدار الفاصل الذي بنته إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وقاد الجهود التي أسفرت عن قرار المحكمة في يوليو باعتبار الجدار غير قانوني.

-أيدت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم 16 يونيو 2014 ترشيح أمينها العام بان كي مون السفير الأردني لدى المنظمة زيد بن رعد الحسين لتولي منصب المفوض السامي لحقوق الإنسان لمدة أربع سنوات خلفا لنافي بيلاي.