العدسة – منذر العلي

بعد أكثر من 22 عامًا على مذبحة مسلمي البوسنة في سربرنيتشا والتي راح ضحيتها أكثر من 8 آلاف شخص، قضت المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بالسجن مدى الحياة بحق الجنرال الصربي “راتكو ملاديتش”.

وواجه “ملاديتش”، المعروف باسم “جزار البلقان”، 11 تهمة، من بينها ارتكاب الإبادة الجماعية وجرائم ضد الإنسانية، وأُدين “ملاديتش” بارتكاب مجزرة سربرنيتشا وحصار سراييفو.

ولا يزال البوسنيون حتى وقت قريب يعثرون على رفات الضحايا في مقابر جماعية، وأحدث تلك المشاهد في يوليو الماضي، عندما دفنوا 71 جثة في مقبرة “بوتوكاري” التذكارية شرقي البلاد، بعد أن عُثر على الرفات في مقابر جماعية وتم تحديد هوياتهم حديثًا.

ولعل العثور المتتالي على مزيد من جثث الضحايا، يجعل دمائهم شاهدة على أبشع جريمة إبادة جماعية شهدتها أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، على نحو لم تنج معه القارة العجوز من جريمة العنصرية بالاشتراك والصمت حيال المجزرة.

أصل الحكاية

“سربرنيتشا” مدينة تقع شرق جمهورية البوسنة والهرسك التي أعلنت الاستقلال عن يوغوسلافيا السابقة، وكان للبوسنة دور كبير في محيطها بسبب موقعها الجغرافي المركزي ضمن الاتحاد اليوغوسلافي.

عُرفت هذه الجمهورية بتعدد الأعراق متمثلة بأغلبية البوشناق المسلمين وقد جاوزت نسبتهم الـ 44% من مجمل السكان، ويمثل الصرب الأرثوذكس منهم 31%، أما الكروات الكاثوليك فيمثلون 17%.

وبعد إعلان السيادة الوطنية يوم 15 أكتوبر عام 1991 إثر انهيار الاتحاد السوفييتي، بدأت جمهورية يوغوسلافيا السابقة في التفكك، وفي 29 فبراير 1992 أُجري استفتاء أفضى لصالح الاستقلال، واعترف رسميًّا  بجمهورية البوسنة والهرسك من قبل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية في 6 أبريل 1992.

على إثر ذلك شنت قوات صرب البوسنة، بدعم من الحكومة الصربية بقيادة “سلوبودان ميلوسيفيتش” والجيش الشعبي اليوغوسلافي هجومًا عنيفًا على الجمهورية الوليدة، نجم عنه حملات إبادة ممنهجة، وتطهير عرقي للسكان المسلمين شرق البلاد بالقرب من الحدود مع صربيا.

شهداء مجزرة “سربرنيتشا” في البوسنة

الأمم المتحدة تتواطأ

في أبريل 1993 أعلنت الأمم المتحدة أن سربرنيتشا “منطقة آمنة” تحت حمايتها، ممثلة بكتيبة من قوات حفظ السلام الهولندية، إثر اتفاق مبرم عقب قيام البوسنة بمطالبتها الاستقلال عن يوغوسلافيا.

وتحت ذريعة خضوعها لتسمية “منطقة آمنة” نزعت الأمم المتحدة الأسلحة من سكانها المسلمين الذين كانوا يدافعون بها عن أنفسهم أمام جبروت الجيش الصربي.

وفي 11 يوليو 1995 اجتاحت القوات الصربية المدينة المسلمة فحاول نحو 15 ألف رجل الفرار عبر الغابات المحيطة تجاه المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة، في حين آثر آخرون الالتحاق بالنساء والأطفال والتماس الأمن لدى قاعدة لقوات حفظ السلام الهولندية التابعة للأمم المتحدة.

غير أن الهولنديين اكتفوا بمشاهدة الجنود الصربيين وهم يطوقون نحو ألفي رجل ثم يقتلونهم قبل أن يطاردوا ستة آلاف آخرين في الغابات فيردوهم قتلى هم أيضًا.

وقبل وقوع المجزرة فُرض حصار طويل على المنطقة أفضى إلى مجاعة كارثية وقعت بين عامي 1992 و1995، وقد كان هدف الصرب خلال هذه الفترة تجويع المسلمين حتى الموت.

وأثبتت تقارير مصورة جرائم بشعة يندى لها جبين الإنسانية، ارتكبها الجيش الصربي بحق آلاف النساء والأطفال المسلمين، وصلت إلى الذبح والاغتصاب وبقر بطون الحوامل، وغيرها.

” جرائم الجيش الصربي “

قائمة المجرمين

وتضم قائمة المجرمين الذين تورطوا في الجريمة 3 قادة على وجه التحديد، فضلًا عن العشرات من الضباط.

“سلوبودان ميلوسيفيتش”

كان رئيسًا لصربيا في الفترة من عام 1989 إلى عام 1997 ورئيس جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية من عام 1997 إلى عام 2000.

وفي فبراير 2002 بدأت محاكمته بصفقة سياسية في المحكمة الجنائية الدولية، حيث واجه فيها 66 تهمة تتعلق بارتكاب جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية, ومجازر بسبب دوره في حروب كرواتيا والبوسنة (1991-1995) وكوسوفو (1998-1999)، فضلًا عن مجزرة سربرنيتشا.

وفي مارس 2006، عُثر عليه ميتًا بظروف غامضة في مركز الاعتقال الذي كان محتجزًا به قيد المحاكمة في لاهاي.

 

“راتكو ملاديتش”

عُين قائدا لوحدة عسكرية كانت تتمركز في مدينة “سكوبي” برتبة ملازم وترقى في المناصب القيادية إلى أن وصل إلى قائد لواء، وفي عام 1989 رقي إلى منصب مدير إدارة التدريب في المنطقة العسكرية الثالثة في نفس المدينة، وهي كبرى مدن مقدونيا التي كانت جزءا من الاتحاد اليوغوسلافي السابق.

وفي عام 1991 رقي “ملاديتش” إلى منصب نائب القائد العام للوحدات العسكرية في مدينة بريشتينا في إقليم كوسوفو في فترة الحرب الأهلية بيوغوسلافيا التي تلت وفاة الرئيس جوزيب بروز تيتو.

وفي نفس العام تقلد “ملاديتش” قيادة الفرقة التاسعة في الجيش الشعبي اليوغوسلافي وخاض معها حربا ضد الكروات الذين كانوا قد أعلنوا ما كان يعرف باسم جمهورية كاريينا الصربية.

وبعدها رقي إلى رتبة لواء وشاركت القوات التي تأتمر بقيادته في الحرب ضد الكروات، وتحديدا ما يعرف باسم عملية خط الساحل 91.

رُقي إلى رتبة عماد في مايو 1992، بعد شهر واحد فقط من إعلان جمهورية البوسنة استقلالها وانفصالها عن الاتحاد اليوغوسلافي، حيث قام “ملاديتش” وقواته بمحاصرة العاصمة سراييفو وقام بقصفها عدة مرات بالمدفعية الثقيلة، فضلًا عن تعرض سكانها للقنص العشوائي.

ثُم عين “ملاديتش” قائدا للقوات المسلحة في جمهورية الصرب المستقلة التي صوت البرلمان الصربي على إعلانها في نفس اليوم، وبقي في هذا المنصب حتى عام 1996.

بعدها توارى عن الأنظار وبدأت عملية مطاردته وملاحقته لتقديمه للقضاء الدولي، حيث تواترت الأنباء خلال هذه المرحلة عن مشاهدته داخل صربيا أو في دول مجاورة، كما راجت شائعات كثيرة حول قيامه بإجراء عمليات تجميل لتغيير ملامح وجهه، بالإضافة إلى معلومات غير مؤكدة عن وفاته.

ولم تنجح محاولات اعتقاله -الذي اعتبر واحدا من الشروط الأساسية لانضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي- حتى يوم الخميس 26 مايو 2011، حين اعتقلته وكالة المعلومات الأمنية الصربية (جهاز المخابرات).

 

“رادوفان كاراديتش”

في مارس 2016، قضت المحكمة الجنائية الدولية بسجن الزعيم السابق لصرب البوسنة، “رادوفان كاراديتش”، مدة 40 عامًا.

وأُدين الملقب بـ”سفاح البوسنة”، بجرائم عدة بينها، “ارتكاب إبادة جماعية” و”ارتكاب جرائم ضد الإنسانية” و”انتهاك قوانين الحرب”، من أصل 11 تهمة موجة إليه، أبرزها ارتكاب إبادة جماعية، في سربرنيتشا، واتهمته المحكمة بالتخطيط لتطهير سربرنيتشا من المسلمين البوسنيين.

“كاراديتش” سياسي صربي وطبيب نفسي، وهو أول رئيس لجمهورية صربيا بين (1992-1996)، ومن أبرز الأقوال المنسوبة إليه: “أهل سراييفو سوف لن يتمكنوا من عد أمواتهم، بل على العكس سوف يتمكنوا من عد أحيائهم”.