العدسة – منصور عطية

بوادر حرب باردة باتت تلوح في الأفق بين روسيا من ناحية وأمريكا وأوروبا من ناحية أخرى، على خلفية تسميم العميل الروسي السابق “سيرجي سكريبال” وابنته “يوليا” بغاز أعصاب في مدينة ساليزبري البريطانية.

حتى الآن، كان تبادل طرد الدبلوماسيين بين موسكو وعواصم غربية هو الأثر المباشر للأزمة، لكن ثمة سيناريوهات أخرى قد تسبّب تداعيات أكثر حدة تعيد إلى الذاكرة أحداث الحرب الباردة بين عامي 1947 و1991 والتي انتهت بانهيار وتفكك الاتحاد السوفييتي.

لكن يبقى التساؤل الأبرز متعلقًا بالغرض الرئيسي الذي أشعل هذا التصعيد الغربي الجماعي ضد موسكو، وما أثير بشأن تنامي النفوذ الروسي خاصة في الشرق الأوسط مقابل تقزم واضح لأمريكا وأوروبا.

بداية الأزمة وتطورات متسارعة

بدأت الأزمة، عندما قالت رئيسة الوزراء البريطانية “تيريزا ماي” إنه جرى التعرف على المادة الكيماوية التي استخدمت ضد الأب وعُرف أنها طُوِّرت مع مجموعة من غازات الأعصاب الأخرى في روسيا.

وفي 14 مارس الجاري، قررت الحكومة البريطانية طرد 23 دبلوماسيًا روسيًا بوصفهم “ضباط استخبارات غير مُعلنين”، كما ألغت دعوة لوزير الخارجية الروسي لزيارة لندن، وقالت: إن العائلة المالكة لن تحضر كأس العالم في وقت لاحق من هذا العام كما كان مقررًا.

بدورها، انضمت الولايات المتحدة الأمريكية ونحو 20 دولة أوروبية وكذلك أستراليا وكندا وأوكرانيا إلى بريطانيا في قرار طرد دبلوماسيين روس تجاوز عددم 140 شخصًا حتى الآن، فيما طردت موسكو عددًا مماثلا من الدبلوماسيين البريطانيين والأمريكيين وتعهدت بالرد بالمثل على باقي الدول.

وقررت واشنطن طرد 60 دبلوماسيًا روسيًا مؤكدة أنها أكبر عملية إبعاد “لجواسيس” روس في التاريخ، ويضاف إلى هؤلاء 7 من أعضاء البعثة الروسية في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل.

وأعلن مستشفى في بريطانيا، الخميس، أن حالة “يوليا” الصحية “تتحسن سريعا” وأنها لم تعد في حالة حرجة، وذلك بعد مرور 4 أسابيع على تعرضها مع والدها لهجوم بغاز الأعصاب، بينما يرقد والدها بحالة حرجة.

الشرطة البريطانية، أعلنت الأربعاء، أن “سكريبال” وابنته تعرضا لغاز الأعصاب السام للمرة الأولى في منزلهما بلندن، وأشارت إلى أن حوالي 250 خبيرًا في مكافحة الإرهاب يشاركون في التحقيق الذي يتوقع أن يستمر عدة أشهر.

وكانت الحرب الكلامية والتهديدات بتصعيد اقتصادي للأزمة (نفذت بريطانيا جزءًا منه بتجميد بعض الأرصدة الروسية) متبادلة بين روسيا وبريطانيا، لكنهما اتفقتا فقط على نقل جانب من التحقيق في قضية التسميم إلى منظمة حظر الأسلحة الكيميائية.

سيناريوهات محتملة .. بينها الحرب الباردة

تداعيات الأزمة الحالية وسيناريوهاتها المستقبلية تتركز حول عدة توقعات أدناها التصعيد المحدود، وأقصاها الدخول في مرحلة الحرب الباردة من جديد، فيما يبقى الحوار مطروحًا.

السيناريو الأول، وفق هذا التصور، يشير إلى استمرار ما يصفه مراقبون بالتصعيد المحدود والمحسوب من قبل طرفي الصراع، بتصريحات نارية وتبادل لطرد الدبلوماسيين.

أما السيناريو الثاني، فيقود إلى تصعيد أكبر وإجراءات عقابية سياسيًا واقتصاديًا من جانب بريطانيا وحلفائها بهدف عزل موسكو، ستقابل بلا شك بالمثل من قبل روسيا، وتجدر الإشارة هنا إلى جهود بريطانية تُبذل من أجل إقناع أوروبا بضرورة فرض عقوبات جديدة على روسيا، جنبا إلى جنب مع الدور الأمريكي القوي جدا الساعي لعزلها.

السيناريو الثالث يذهب بالآمال إلى حدوث حوار جاد بين الطرفين يتفقان خلاله على طي صفحة الخلافات، الأمر الذي يقتضي تقديم كل منهما تنازلات للآخر.

أما السيناريو الرابع، وهو الأكثر حدة فيقوم على اندلاع حرب باردة بين روسيا والغرب قوامها سباق تسلح، ومحاولات للإضرار بالاقتصاد، وحرب بالوكالة في مناطق صراع مختلفة.

والحرب الباردة هي مواجهة سياسية وإيديولوجية وأحيانًا عسكرية بشكل غير مباشر، دارت أحداثها خلال 1947-1991 بين أكبر قوتين في العالم بعد الحرب العالمية الثانية هما الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، وكان من مظاهرها انقسام العالم إلى معسكرين: شيوعي يتزعمه الاتحاد السوفييتي وليبرالي تتزعمه الولايات المتحدة.

هيمن التعايش السلمي بين المعسكرين الكبيرين على مسرح العلاقات الدولية بدءًا من مطلع عقد السبعينيات وحتى سقوط الاتحاد السوفييتي كليًا عام 1991، ثم دخل العالم مرحلة جديدة هي عصر الأحادية القطبية بقيادة الولايات المتحدة، ومؤخرًا ينظر إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على أنه الزعيم الروسي الساعي إلى استعادة أمجاد بلاده وتوسيع نفوذها من جديد.

النفوذ الروسي يقلق الغرب

انطلاقًا من بوتين، بات محسومًا أن الصراع المحتدم الآن، والتوجه الغربي الجماعي ضد روسيا، يهدف في المقام الأول إلى مواجهة النفوذ الروسي المتزايد، وطموحات الدب إلى استعادة أمجاد السوفييت.

ولا ينسى الغرب أن روسيا حاولت وتحاول تفكيك الاتحاد الأوروبي خلال السنوات القليلة الماضية عبر دفع الأحزاب اليمينية المتطرفة إلى السلطة في أوروبا، وحققت نتائج كبيرة في دول مثل فرنسا وألمانيا.

كما تحاول أيضا تقويض حلف شمال الأطلسي (الناتو) بشكل أو بآخر، فتحاول جذب تركيا (العضو في الحلف) على المسرح السوري إلى جانبها، وتحاول أيضًا أن تزيد الخلافات بينها وبين الولايات المتحدة.

لم يكن مستغربًا إذن الحديث عن جذور لهذا الصراع، ربما كانت قضية تسميم العميل الروسي أحد تجلياتها، بحيث لا يمكن بحثها بمنأى عن هذه الجذور.

الكاتب “صلاح النشواتي”، رأى في مقال نشره مركز “كاتيخون” للدراسات، بتاريخ 11 ديسمبر الماضي، أن تعاظم الدور الروسي وزيادة ثقل موسكو الدولي يمهد لانزياح الدول الأوروبية الشرقية ودول الشرق الأوسط للفلك الأوراسي، وهذا ما تعتبره بريطانيا مؤشرا سلبيا بالنسبة لاستراتيجيتها القائمة على التوسع والسيطرة.

“أي أن كل تلك الأجزاء التي تعتبرها بريطانيا من منجزاتها الأساسية في العالم تشهد في الوقت الراهن تزايدا للنفوذ والدور الروسي فيها”، بحسب الكاتب.

مجلة “ذي ناشونال إنترست” الأمريكية حذرت مؤخرا من تنامي النفوذ الروسي في الشرق الأوسط، وقالت إن هذا النفوذ الجديد بدأ يتعاظم في المنطقة وعلى المسرح الدولي، وخاصة في ظل تضاؤل النفوذ الأمريكي وتراجعه.

وأشار الكاتب “نيكولاس جفوسديف” في مقال نشرته المجلة، إلى أن تضاؤل الدور الأمريكي في الشرق الأوسط ترك فراغًا في المنطقة وهيأ الظروف لظهور بوتين بوصفه لاعبًا رئيسيًا في الأمن الإقليمي، وخاصة في أعقاب التدخل العسكري الروسي في سوريا.

وأضاف أن أحداث وتداعيات الحرب المستعرة في سوريا منذ سنوات أثبتت أن اليد الروسية أصبحت مرئية في كل مكان بالشرق الأوسط، وأن روسيا ترأس الجهود المبذولة لإيقاف هذه الحرب، وأنها أدرجت نفسها في قضايا المنطقة برمتها.

وأشار إلى الدور الروسي بشأن الصراع بين الأكراد وتركيا، وإلى دورها في الجهود المبذولة بشأن الوضع النهائي لإقليم كردستان في العراق.

وأضاف الكاتب أن روسيا لعبت كذلك دورًا في الحفاظ على “الهلال الشيعي” المتمثل في النفوذ الإيراني في كل من العراق وسوريا، وأنها تشارك في محادثات مباشرة مع السعودية ودول الخليج بشأن كيفية الحفاظ على توازن هشّ للسلطة في المنطقة.

وقال الكاتب: إن لدى مصر وإسرائيل خطوط اتصال خاصة مع الكرملين، وإنهما يريان في بوتين رجل دولة أكثر موثوقية وأنه يفعل ما يقول وأنه يتابع التزاماته.

واستدرك الكاتب بأن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان يشارك هذا التقييم مع بوتين، وأن أردوغان يبدو مستعدا لإقامة محور إستراتيجي جديد مع روسيا فيما يتعلق بالطاقة والأمن الأوراسي والمحافظة على مستقبل الشرق الأوسط.

وأضاف أن موسكو استضافت اجتماعات للفصائل الليبية المختلفة، وأخرى للأحزاب الفلسطينية السياسية، وكذلك لممثلين عن الأكراد وأعضاء في المعارضة السورية، وقال: إن زعماء الشرق الأوسط بدورهم يقومون بزيارات إلى موسكو بشكل منتظم، وذلك لعقد لقاءات أو إجراء محادثات في الكرملين.

وأوضح أن موسكو تسعى من خلال لعبها دورا نشطا في الشرق الأوسط إلى إيجاد مناخ يزدهر فيه الطلب على السلع والخدمات الروسية، بدءًا بالأسلحة ومصانع الطاقة النووية إلى التقنيات الأخرى التي لا ترغب الولايات المتحدة في توفيرها.

وأشار إلى الأدوار الدبلوماسية التي تلعبها روسيا على مستوى المسرح العالمي كما في حالة الأزمة في شبه الجزيرة الكورية وغيرها من القضايا الدولية.