العدسة – معتز أشرف:

تأتي زيارة الكاردينال جان لوي توران بعد سلسلةٍ من اللقاءات التي عقدتها شخصيات سعودية كبيرة مع ممثلين عن طوائف مسيحية أخرى في الأشهر القليلة الماضية، فماذا سيقدِّم سلمان الأب والابن للمسيحيين كي ينسوا جرائم التمييز الديني لآل سعود، خاصةً وأن الكاردينال شنَّ هجومًا حادًّا ضد التمييز الديني، في إشارة لا تخفى على أحد؟!

مملكة الجهالات!

في زيارة جديدة استقبل الملك السعودي سلمان بن عبدالعزيز الأربعاء رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان في دولة الفاتيكان الكاردينال جان لويس توران والوفد المرافق له في زيارة غير مسبوقة لرجل دين مسيحي بارز يأتي من الفاتيكان، ووصفت وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس” الكاردينال بالـ “نيافة”، وهو لقب ديني ويُقصَد به التعظيم والاحترام، كما نشرت صورًا له برَز فيها الصليب الذي يعدّ رمز الديانة المسيحية، في تطور لافتٍ للبعض في الإعلام السعودي الوهابي، لتكون الزيارة امتدادًا جديدًا للصورة العلمانية التي يرسمها الأمير السعودي محمد بن سلمان..

ففي نوفمبر الماضي جذبت الرياض الأنظار إليها عندما استقبل قادتها البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الذي قدم لزيارة السعودية بدعوة من الملك سلمان بن عبدالعزيز، في حدثٍ نادرٍ من نوعه؛ حيث اجتمع خلالها بالعاهل السعودي وولي عهده، وتحدث حينها إلى الجالية اللبنانية في المملكة، وفي شهر مارس الماضي، قال بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية القبطية البابا تواضروس الثاني، إنه سيزور السعودية دون أن يحدِّد موعدًا دقيقًا لتلك الزيارة، التي جاء الحديث عنها بعد أيام من زيارة “محمد بن سلمان” للمقرّ البابوي بكاتدرائية الكنيسة الأرثوذكسية بالقاهرة، في خطوة تعكس التناقض السعودي بين الواقع الصعب للمسيحيين، وبين ما تريد إعلانه للغرب في الزيارات الإعلانية، وفق ما يقول البعض.

وفي هذا السياق جاءت تصريحات الكاردينال جان لوي توران من السعودية، بمغزًى واضح؛ حيث حذر من الجهل والأصوليّة اللّذين يهدّدان العيش المشترك، داعيًا الأديان إلى اللّقاء وتبادل الكلام “وبناء شيء معًا بهدف التّعرّف على الآخر واكتشاف ذواتنا”، مضيفًا أن “التعدد الدينى يشكّل دعوة للتّفكير في إيماننا لأنّ كلّ حوار أصيل بين الأديان يبدأ بإعلان الإيمان، وجميع المؤمنين الّذين يبحثون عن الله، كما جميع أصحاب الإرادة الطّيّبة غير المنتمين إلى أيّ ديانة، يتمتّعون بالكرامة عينها”، فيما حثّ القادة الرّوحيّين على منع الدّيانات من أن تكون في خدمة إيديولوجيا ما وأن يعترفوا أنّ هناك بعض الأشخاص كالإرهابيّين مثلًا، لا يتصرّفون بشكل صحيح، مشدّدًا على أنّ الدّيانة لا تُفرض أبدًا وعلى ضرورة التّعامل بشكل متساوٍ من دون تمييز”.

وفي زيارته لمركز “اعتدال” الحكومي الذي يناهض التطرف، نقلت الوكالة السعودية عن الكاردينال توران عبارات قد تطول السعودية نفسها؛ حيث قال أمام مسؤولي مركز اعتدال “من المهم أن نرى أن لديكم رؤية ورسالة، وأنتم حكماء جدًا بتحليل مسببات التطرف”. وأضاف ” من الواضح أننا جميعًا تجمعنا الإنسانية.. وأعتقد أنه عمليًا لدينا عدوان هما التطرف والجهل، وأنا لا أعتقد بصدام الحضارات، ولكني أؤمن بصدام الجهالات”.

واقع متدهور!

واقع الكراهية والتمييز الديني في السعودية في قمته، وهناك تقديرات عن وصول عدد المسيحيين في السعودية إلى مليون ونصف مليون يغلب عليهم المذهب الكاثوليكي، وفي 2010، ذكرت وكالة رويترز، في تقرير لها، أن عدد المسيحيين يبلغ نحو 3.5 مليون وافد إلى دول “مجلس التعاون الخليجي”، الذي بلغ عدد سكانه عام 2015 نحو 50.4 مليون نسمة، وتحوي السعودية أكبر تجمُّع مسيحي في دول المجلس، إلا أنّه يصعب تحديد التركيبة السكانية من الناحية الدينية بدقة في المملكة العربية السعودية؛ فجميع المواطنين مسلمون من قبل الدولة، ويُعتقد أن هناك 1.5 مليون مسيحي على الأقل يعيش في البلاد، وتذكر مصادر أخرى أن العدد يصل إلى مليونين؛ فيما يبلغ عدد الوافدين من الديانات المختلفة نحو 30% من عدد السكان، كما يُمنع بناء دور العبادة المسيحية على الأراضي السعودية.

وتسمح السعودية للمسيحيين بدخول البلاد بصفتهم عمالًا أجانب لعمل مؤقت، لكنها لا تسمح لهم بممارسة شعائرهم الدينية علنًا، فلا توجد كنائس رسمية في السعودية، وبالرغم من وجود كنيسة أثرية في منطقة “الجبيل”، إلا أنّ الحكومة تمنع المواطنين والأجانب من زيارتها، علاوة على ذلك لا تسمح الحكومة ببناء الكنائس، أو دخول رجال الدين من غير المسلمين إلى البلاد، بغرض القيام بالمراسم الدينية.

ويتشكل المجتمع المسيحي في المملكة العربية السعودية من أكثر من مليون من الروم الكاثوليك، معظمهم من الفلبينيين المغتربين الذين تسمح لهم البلد بالعمل فيها، لكنها لا تمنحهم الجنسية العربية السعودية؛ حيث يوجد نحو 1.2 مليون فلبيني في المملكة العربية السعودية، يشكل المسيحيون منهم حوالي 60% من بين جميع الطوائف، وفقًا لتقرير الحرية الدينية العالمي لعام 2008، كما ورد في التقرير السنوى لعام 2015 للجنة الولايات المتحدة للحرية الدينية الدولية، أنَّ المملكة العربية السعودية لا تزال متفردة للمدى الذي يحدّ من التعبير العلني عن أي دين آخر غير الإسلام، وأن الحكومة تحصن تفسيرها الخاص للإسلام السني على كافة التفسيرات الأخرى وتحظر أية أماكن عامة للعبادة لغير المسلمين في البلاد، وفي تقرير مؤشر حرية المعتقد عام 2014، يستخلص التقرير أن لا حرية دينية أو حرية معتقد في السعودية التي لا تفصل بين الدين والدولة، وفي 9 يوليو 2006، اعتقلت الشرطة اثنين من الإثيوبيين واثنين من قادة الكنيسة الإريتريين في مكان خاص لممارسة العبادة المسيحية في مدينة جدة؛ ليتم ترحيلهم في يوليو من ذات العام.

وكان وزير الخارجية الأمريكي السابق ريكس تيلرسون  قال في أواخر 2017، أن حلفاء للولايات المتحدة منهم السعودية لم يلتزموا بمبادئ الحرية الدينية في 2016، وكشفت  دراسة لمنظمة هيومن رايتس ووتش لبيانات وكتابات رجال الدين والمحاكم والكتب المدرسية السعودية أن مسؤولي ومؤسسات الحكومة السعودية يحرضون على الكراهية أو التمييز ضد المسيحيين بحانب فئات أخرى، وصنّفت “اللجنة الأمريكية للحريات الدينية” السعودية مرارًا منذ 2004 على أنها “بلد يثير قلقًا خاصًا”، وهي أقسى تسمية للدول التي تنتهك الحرية “.

مطالب الكاردينال

في العام 2013 في عز اضطهاد المسيحيين في السعودية، كان للكاردينال جان لويس توران كلمة في مؤتمر تحديات العرب المسيحيين ومن ضمنها التهميش الذاتي مع تشكيل “الأحياء المنعزلة” (الغيتوات) مع التمييز حضاريًا، واجتماعيًا، وسياسيًا، وتهميشًا، وتحديدًا أو منعًا لحرية العبادة والحرية الدينية بصورة عامة، وهجومًا على أماكن العبادة وعلى الشخصيات المسيحية،أو حتى تحريضًا على العنف في الخطب والكتابات والفتاوى التي يصدرها بعض زعماء الدين، وهناك فتوى مؤلمة صدرت أخيرًا تنص على أنه لا يمكن أن يعمل المسلمون في تشييد أو إصلاح الكنائس لأنَّ الكفر يُشهر في أماكن العبادة هذه، في إشارة إلى الفتاوى السعودية الوهابية المعروفة في هذا الصدد.

وحدّد الكاردينال جان لويس توران أولويات ثلاث للعيش المشترك، وهي بوصلة لأفكاره التي قد تكون طرحت في لقاءات السعودية الحالية وتتناغم مع تصريحاته المعلنة، وفق مراقبين، وفي مقدمتهم العيش المشترك “بعضنا مع بعض وليس بعضنا إلى جانب البعض، فإنَّ المسيحيين يعيشون في بلدهم في الأراضي العربية، إنهم سكان هذه المناطق منذ التبشير الأول بالمسيحية”، فضلًا عن استكمال الطريق إلى حوار الأديان، بأن نجعله ذا مصداقية، والاتحاد مسيحيين ومسلمين، في تذكير الجميع أن الدين والعنف لا يتفقان…

فهل يقبل سلمان الأب والابن بهذه الأولويات في إطار تجهيز الابن لسدة العرش، أما أن الزيارات ستستمر في إطار الحملات الدعائية لتيبض صورة الأمير الطائش ودياره التي تمتلأ بالتمييز علي أساس الدين، طبقًا للتفسيرات الوهابية المتطرفة؟! الإجابة قد تكون لصالح الثانية أكثر، بحسب معلومات يتم تداولها بين الحين والآخر؛ حيث كشف رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي في لبنان، النائب وليد جنبلاط، عن معلومات تلقَّاها تفيد بسعي السعودية لتشييد كنيسة جديدة داخل المملكة، من أجل إخراج المملكة من التقوقع والتزمت قائلًا: “يطرح الأمير محمد إجراء شبه ثورة ثقافية تعيد المملكة إلى ما كانت عليه قبل عام 1979، وهذا مهم جدًا لخلق تيار الاعتدال الإسلامي فيها بعيدًا عن التزمت، وانفتاح على جميع الأديان، وزيارة البطريرك الراعي خير مثال، وقد قيل لي إنّ كنيسة قديمة ستُفتح، في انتظار تشييد كنيسة جديدة”، على حد تعبيره.