أحمد مولانا

باحث و كاتب

شيخوخة نظام السيسي

عقب مضي ما يزيد عن 4 سنوات على وقوع الانقلاب العسكري، وإمعان نظام السيسي في التنكيل بمعارضيه،  يتنامى شعور باليأس من التغيير لدى قطاعات متنوعة من مناهضي الانقلاب، مما حدا ببعضهم إلى ترديد أن السيسي سيستمر في الحكم عشرات السنوات مثل مبارك والسادات وعبدالناصر نظرا لاستناده على دعم مطلق من الجيش والشرطة والقضاء فضلا عن الدعم الإقليمي والدولي الواسع لنظامه.

هذا الافتراض رغم وجاهته الشكلية إلا أنه يتبدد عند مقارنة الواقع الحالي بمثيله في العهود السابقة.

فالنظام الناصري لم يكتسب زخمه الأولي بسبب الدعم الأميركي له، إنما اكتسبه من أنه بدأ عهده فتيا على يد شباب من صغار الضباط، فأعطى الفقراء مكتسبات عديدة من قبيل توزيع الأراضي على صغار الفلاحين عقب صدور قوانين الإصلاح الزراعي، والتخفيضات المتتالية الإلزامية لإيجارات الشقق السكنية، والتوسع في دعم القطاع العام وتعيين الموظفين به، فضلا عن تبني خطاب إعلامي يدغدغ  مشاعر الجماهير ويركز على التحرر الوطني ومناهضة الاستعمار.

تلك المكتسبات التي حازتها الجماهير بجوار كاريزما عبدالناصر مكنت النظام من امتلاك شعبية كبيرة غطت على سلبياته الخطيرة مدة طويلة إلى أن انكشفت عورته في حرب 1967 ثم فيما تلاها من صراع على السلطة بين ناصر ورفيقه عامر، والذي انتهى بوفاة عامر الغامضة في مقر إقامته الجبرية، ثم تبعتها بثلاث سنوات وفاة ناصر المفاجئة.

جاء السادات للحكم فطرد الخبراء السوفيت من مصر، واعتمد سياسة التقارب مع أميركا باعتبار أن قواعد اللعبة السياسية في المنطقة بيدها، وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع إسرائيل، وواكب ذلك تبنيه للانفتاح الاقتصادي، وزيادته لرقعة الحريات السياسية، ثم عندما حاول العودة للقمع باعتقاله ما يزيد عن 1500 من الشخصيات العامة في سبتمبر 1981  فضلا عن تطاوله على الشيوخ كشك والمحلاوي وحافظ سلامة دفع حياته ثمنا لذلك في حادث المنصة.

 

ثم خلفه مبارك الذي ترك هامشا محدودا من الحريات للأحزاب السياسية والجماعات الإسلامية يسمح  لها بالمساهمة في العمل العام والمجتمعي بما لا يمثل خطرا على استقرار نظامه، بالتوازي مع تعامله الاستئصالي مع الجماعات التي سعت لتغيير النظام أو الصدام معه مثلما حدث مع الجماعة الإسلامية نهاية القرن الماضي.

وعقب أحداث ١١ سبتمبر اعتبر الأمريكان أن الاستبداد بالمنطقة هو السبب في تغذية مشاعر التطرف، ومن ثم ضغطوا على حلفاءهم لزيادة رقعة الحريات، فحدثت بمصر تعديلات دستورية سمحت بإجراء انتخابات للرئاسة لأول مرة  عام 2005 ، كما فاز أعضاء من جماعة الاخوان ب٨٨ مقعد عام ٢٠٠٥ في انتخابات مجلس النواب وهو عدد غير مسبوق منذ بدء مشاركاتهم بالانتخابات النيابية .

ولكن مع تخفيف حدة الضغوط الأمريكية لتوسيع نطاق الحريات في عهد أوباما بالتوازي مع سعى مبارك لتصعيد نجله (جمال) لواجهة المشهد السياسي، تزايدت وتيرة قمع النظام لمعارضيه وتلاشت هوامش الحريات وتباينت الفوارق الاجتماعية بين طبقة الصفوة وبين عموم المواطنين. وانحصر الجدل نهاية عام 2010 حول ترشح مبارك مجددا للرئاسة في العام التالي أم توريثه الحكم لنجله، ولكن جاءت الأقدار بما لا تشتهي السفن، ووقعت ثورة يناير وأطيح بآل مبارك من الحكم.

ثم تولى د. مرسي منصب الرئاسة لمدة عام فقط، وانقلب عليه العسكر بقيادة السيسي وشنوا حربا شرسة ضد الإسلاميين وحاضنتهم المجتمعية، فقتلوا الآلاف، واعتقلوا مئات الآلاف، وصادروا الأموال، وأغلقوا القنوات الإعلامية، وحظروا المواقع الإخبارية، وسنوا القوانين القمعية، وقصفوا سيناء بالطائرات والمدافع، وبطشوا بكل من يعارضهم بالتوازي مع اتباعهم لسياسات اقتصادية نيوليبرالية تحطم الطبقة الوسطى وتقضي على الفقراء، فضلا عن سعيهم الدؤوب لتحطيم بنية المجتمع إنسانيا ودينيا وفكريا وثقافيا ليخضع لهم بشكل كامل.

هذا الوضع المزري دفع البعض لليأس، إذ لا توجد فئة معارضة تكافئ قوتها قوة نظام السيسي الذي  يحظى بدعم خارجي واسع. ولكن أصحاب هذه الطرح يفوتهم أن القوة والبطش لا يكفيان لوحدهما في حكم الشعوب ، فقد انهار النظام السوفيتي رغم قبضته الحديدية، وانهارت عشرات الأنظمة الديكتاتورية حول العالم دون أن تنفعها قبضتها الأمنية والعسكرية.

إن الحقيقة التي ينبغي ألا تضيع في ظل الأحداث تتمثل في أن نظام يوليو أصيب بالشيخوخة في عهد مبارك، وفقد مشروعيته في عهد السيسي، وصار يدافع عن وجوده في معركته الأخيرة.

فالسيسي جاء للحكم بعد سنتين من  ثورة يناير التي ضخت مفاهيم ومعاني جديدة في حس الأجيال الشابة من قبيل رفض الظلم والاستبداد وقضت على أيقونة (قدسية الجيش وأحقيته بتولي السلطة) . كما أن السيسي بإيغاله في القمع وإغلاقه لهوامش الحريات، وبفشله الاقتصادي المتفاقم، يستجمع مقومات السقوط لا مقومات البقاء.

أما اعتبار الدعم الخارجي الأميركي بمثابة صمام أمان لنظام السيسي فليس صحيحا، فلكي تدعم أميركا شخصا ما لحكم أي دولة لابد أن يمتلك مجموعة من المقومات من أهمها حيازته لحد أدنى من القبول الشعبي وقدرته على إدارة المشهد الداخلي بشكل مناسب يمتص حالات الاحتقان ويحافظ على الاستقرار. فإذا افتقد هذا الشخص تلك المقومات وصار بقاءه أكثر ضررا  تتخلى عنه أميركا  مضطرة حفاظا على مصالحها الاستراتيجية، مثلما تخلت عن الجنرال الباكستاني (برويز مشرف) رغم خدماته اللا محدودة لها في الحرب على الاٍرهاب، وتخلت عن مبارك رغم خدماته الجوهرية في حماية اسرائيل والمصالح الأميركية، وكبح جماح التيار الإسلامي.

كما يجب التنبه إلى أن التغيير في مصر يأتي فجأة، فعبدالناصر مات مقهورا في الخمسين من عمره، والسادات قًًًًُتل وسط حراسه في ذكرى حرب أكتوبر، ومبارك خُلع رغم شدة بطشه والسيسي مثلهم له موعد لن يخلفه.

وعلى من لا ينتبه  لذلك أن يتأمل عهد مبارك جيدا ، فقد نجح نظام مبارك في تكسير عظام الإسلاميين بتوجهاتهم المختلفة، فالتيار السلفي أقصيت معظم رموزه القوية من المشهد، والجماعة الإسلامية تعرضت لضغوط قاسية توجت بالمبادرات التي مثلت في جوهرها استسلاما للنظام مقابل الإفراج عن المعتقلين وايقاف حملات الإعدام والتصفية، وجماعة الإخوان كانت تتعرض باستمرار لضربات إجهاضية مثل القبض على معظم عناصر مجلس شورى الجماعة منتصف التسعينات وسجنهم إثر محاكمات عسكرية ، فضلا عن مصادرة الأموال والقبض على القيادات كما في قضية مليشيات الأزهر، وحتى حزب العمل تعرض للتجميد وأوقفت جريدة الشعب وتعرض كبار صحفييها للسجن ….كل هذا في ظل نظامين إقليمي ودولي متماسكين ، فكانت احتمالية التغيير محدودة بل ربما معدومة …. وبالرغم من كل ذلك حدثت الثورة،  وجرت كثير من المياه في البيئة الراكدة …فاحتمالات التغيير اليوم أكبر مما كانت عليه بالأمس … والمنطقة مازالت تعيش حالة سيولة كبيرة، فالنظام الدولي مضطرب، والنظام الإقليمي يتفكك، والسيسي سلم زمام القيادة السياسية للإمارات لهثا وراء معوناتها المالية، بينما الإمارات تمارس سياسة متغطرسة  تسعى من خلالها لتغيير المعادلات السياسية بالمنطقة وفرض النفوذ واستئصال الإسلاميين، وهو ما يولد هزات عنيفة تعمل على مزيد من خلخلة الاستقرار الإقليمي.

ومن يعجز عن صناعة المستقبل فالحد الأدنى المطلوب منه هو الاستعداد للقادم، لا اليأس من التغيير، كي يستثمر الفرص المستقبلية ولا يضيعها مثلما ضاعت مثيلاتها سابقا. فالزمان يتقارب، والأحداث اليوم صارت أسرع منها بالأمس، وما كان يحدث في عقد صار يحدث في شهر. ومنظومة الحكم العسكري شاخت وتأكلت وفقدت مشروعيتها، فقط تنتظر من يتقدم ليزيحها.

– انظر مذكرات عضو مجلس قيادة الثورة خالد محيي الدين (ألآن اتكلم) وكتاب (لعبة الأمم) لمايلز كوبلاند.

 

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“.