قبل سبعة وعشرين يومًا من إطلاق أول صاروخ من غزة هذا الأسبوع، دخلت مجموعة من ضباط الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى في القدس، وقامت بإخراج المصلين الفلسطينيين بالقوة والعنف، ودخلوا إلى الساحة، ثم قطعوا الكابلات في مكبرات الصوت التي تبث الصلاة للمسلمين عبر أربع مآذن تعود للعصور الوسطى.

 برر المسؤولون الإسرائيليون قطع الكابلات بخوفهم من أن تقوم صلاة المسلمين بالتشويش على الكلمة التي كان يلقيها الرئيس الإسرائيلي عند حائط المبكى، وهو موقع يهودي مقدس يقع عند المسجد الأقصى، إذ وافقت ليلة 13 أبريل توافق أول أيام شهر رمضان، ذو القدسية الخاصة لدى المسلمين، وكذلك اليوم يوافق ذكرى إحدى المناسبات “الإسرائيلية”.

 هذا التصرف الذي صاحبه اقتحام المسجد، بالإضافة إلى عدة تصرفات، تسببوا في انفجار الأحداث في فلسطين، وتكرار العدوان الإسرائيلي على غزة بصورة أعنف من المرات السابقة، مع اضطراب الأوضاع في الداخل الفلسطيني المحتل بين العرب واليهود، وانتفاضة الضفة الغربية وغيرها من مدن فلسطين.

 قال الشيخ عكرمة صبري مفتي القدس تعليقاً على الأحداث: “كانت هذه نقطة التحول… أفعالهم [الإسرائيليين] ستؤدي إلى تدهور الوضع”، وأضاف “بدون شك، كان واضحا لنا أن الشرطة الإسرائيلية تريد تدنيس المسجد الأقصى وشهر رمضان المبارك”.

 أما أفراهام بورج، الرئيس السابق للبرلمان الإسرائيلي، قال إن ذلك كان ثمرة سنوات من الحصار والقيود المفروضة على غزة، وعقود من الاحتلال في الضفة الغربية، وعقود أخرى من التمييز العنصري ضد العرب من قبل القوانين الإسرائيلية النابعة من للمنظمة الصهيونية العالمية.

 وقال: “كل اليورانيوم المخصب كان موجودًا بالفعل… كنت فقط بحاجة إلى مشغل…. وكان الزناد المسجد الأقصى “.

 لم تكن هناك اضطرابات كبيرة في القدس عندما اعترف الرئيس دونالد ترامب بالمدينة كعاصمة لإسرائيل وقيامه بنقل سفارة الولايات المتحدة هناك، لم تكن هناك احتجاجات جماهيرية بعد أن قامت أربع دول عربية بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل وتخليهم شرط حل النزاع الفلسطيني الإسرائيلي قبل الإقدام على خطوة التطبيع.

 أما غزة فقد كانت تكافح للتغلب على موجة من الإصابات بفيروس كورونا، فضلاً عن أزمة البطالة التي ارتفعت نسبتها إلى 50٪ بسبب الحصار الإسرائيلي.

وعلى الصعيد السياسي، كانت معظم الفصائل السياسية الفلسطينية الرئيسية، بما في ذلك حماس، تتطلع إلى الانتخابات التشريعية الفلسطينية الذي كان من المقرر إجراؤها في مايو/أيار، وهي الأولى منذ 15 عاماً، واللافت للنظر أن شعبية حماس كانت قد تضاءلت في غزة حيث تحدث الفلسطينيون بشكل متزايد عن الحاجة إلى إعطاء الأولوية للاقتصاد على الحرب.

 الأمور بدأت في أخذ شكل مختلف في أبريل/نيسان عند اقتحام المسجد الأقصى من الإسرائيليين والاعتداء على المصليين وقطع بث الصلاة، ما اعتبره المسلمون إهانة بالغة وعدم احترام لشعائرهم الدينية.

 ساهم ذلك الحادث في تجديد الإحساس بالهوية الوطنية بين الشباب الفلسطيني الذي قام سلسلة المداهمات الإسرائيلية للأقصى، وقد تزامن ذلك مع الاحتجاج على محنة ست عائلات فلسطينية تواجه خطر الطرد من منازلهم وإعطائها للمستوطنين، وما زاد الأمور اشتعالاً هو اتجاه الحكومة الإسرائيلية للتصعيد واتخاذ إجراءات الهدف منها استرضاء اليمين المتطرف.

 هذه التحولات في الديناميكيات الفلسطينية فاجأت إسرائيل، لقد شعر الإسرائيليون بالرضا عن الذات، وترعرعهم أكثر من عقد من الحكومات اليمينية المتطرفة التي تعاملت مع رغبة الفلسطينيين في إقامة دولة باعتبارها مشكلة يجب احتوائها وليس حلها

 قال عامي أيالون، المدير السابق لوكالة المخابرات الداخلية الإسرائيلية (الشاباك) “علينا أن نستيقظ.. علينا تغيير الطريقة التي نتعامل بها مع كل هذا، بدءًا بمفهوم أن الوضع الراهن مستقر.”

 السلطات الإسرائيلية لم تر سوى تحقيق رغبات اليمين المتطرف، فبعد حادث مكبر الصوت على الفور قررت الشرطة الإسرائيلية إغلاق ساحة شعبية خارج باب العامود، أحد المداخل الرئيسية لمدينة القدس القديمة، حيث كان يجتمع الشباب الفلسطيني عادة في الليل خلال شهر رمضان لشرب الشاي والسمر.

 بالنسبة للفلسطينيين، كان حرمانهم من التجمع عند باب العامود وإغلاقه إهانة أخرى، وأدى ذلك إلى احتجاجات أدت إلى اشتباكات ليلية بين الشرطة وشبان حاولوا استعادة المكان.

 كل هذه الحوادث وغيرها تسببت في جعل الكثير من الفلسطينيين بالشعور بأنهم يُطردون تدريجياً من القدس، خاصة مع القيود المفروضة على تصاريح البناء والتي تجبرهم إما على مغادرة المدينة أو بناء مساكن غير قانونية، والتي تصبح بطبيعة الحال عرضة لأوامر الهدم، لذا فإن قرار منع الفلسطينيين من العيش في فضاء مجتمعي ذو تراث خاص زاد من الشعور بالتمييز الذي شعر به الكثيرون طوال حياتهم.

 قال ماجد القمري، جزار من القدس الشرقية يبلغ من العمر 27 عاماً، “إنهم يحاولون القضاء على وجودنا في المدينة [القدس]…شعرنا بالحاجة إلى الوقوف في وجوههم والتأكيد على أننا هنا.”

 في 21 أبريل / نيسان، بعد أسبوع واحد فقط من مداهمة الشرطة، سار بضع مئات من أعضاء جماعة يهودية يمينية متطرفة، ليهافا، عبر وسط القدس، مرددين “الموت للعرب” وهاجموا المارة الفلسطينيين، تم تصوير مجموعة من اليهود وهم يهاجمون منزل فلسطيني، وآخرون يعتدون على السائقين العرب.

  في 25 أبريل / نيسان، تراجعت الحكومة عن حظر السماح للفلسطينيين بالتجمع خارج باب العامود، ولكن بعد ذلك جاءت مجموعة من التطورات التي ساهمت في تعقيد الأمور بشكل كبير.

 الأول كان الإخلاء الوشيك للعائلات الست من حي الشيخ جراح الفلسطيني في القدس الشرقية، مع صدور قرار قضائي نهائي بشأن قضيتهم في النصف الأول من شهر مايو/أيار.

 قال صلاح دياب، أحد قادة المجتمع المحلي في حي الشيخ جراح، والذي كُسرت ساقه خلال مداهمة للشرطة مؤخرا لمنزله: “ما يحدث من الإسرائيليين في حي الشيخ جراح أو الأقصى أو عند باب العامود هو محاولات لإخراجنا من القدس… إخراجي من الحي الذي أعيش فيه هو مجرد البداية.”

 الشرطة الإسرائيلية قالت إنها كانت ترد على عنف المتظاهرين في الشيخ جراح، لكن مقاطع فيديو وصور أظهرت أنهم [الشرطة] هم من ارتكبوا أعمال عنف.

عندما بدأت الصور تنتشر على الإنترنت، تحول الحي إلى نقطة تجمع للفلسطينيين في كل المناطق والبلدان.

 قالت جيهان بسيسو، وهي شاعرة فلسطينية تعيش في لبنان، إن تجربة العائلات، التي نزحت بالفعل بعد إعلان قيام إسرائيل عام 1948، كانت شيئاً “مس كل فلسطيني في الشتات، حتى لو على بُعد مليون ميل”.

 وسلطت جيهان الضوء على جزء من التمييز العنصري للقوانين الإسرائيلية حيث يسمح القانون الإسرائيلي لليهود باستعادة الأراضي في القدس الشرقية التي كانت مملوكة لهم قبل عام 1948، لكن أحفاد مئات الآلاف من الفلسطينيين الذين فروا من منازلهم في ذلك العام ليس لديهم أي وسيلة قانونية لاستعادة أراضي ومنازل عائلاتهم.

 في 29 أبريل/نيسان ألغى رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الانتخابات الفلسطينية، ليساهم هذا القرار في تأجيج غضب واحتجاج الشعب الفلسطيني الذي كان في حالة غضب بفعل الممارسات الإسرائيلية والانتهاكات المتزايدة.

 في 4 مايو/أيار، قبل ستة أيام من بدء الحرب الحالية، أصدر القائد العسكري لحركة حماس، محمد الضيف، بيانًا علنيًا نادرًا، قال فيه “هذا هو تحذيرنا الأخير… إذا لم يتوقف العدوان على أهلنا في حي الشيخ جراح على الفور، فلن نقف مكتوفي الأيدي”.

 ولكن بعد ذلك جاء التصعيد الأكثر دراماتيكية على الإطلاق: غارة للشرطة على المسجد الأقصى يوم الجمعة، 7 مايو/أيار، حيث اقتحم ضباط شرطة مسلحون بالغاز المسيل للدموع والقنابل الصوتية والرصاص المطاطي حرم المسجد الأقصى بعد الساعة 8 مساءً بقليل، ما تسبب في مئات الإصابات بين المصلين والمتظاهرين الفلسطينيين.

 وبالرغم من أن الحكومة الإسرائيلية سعت بصورة ما إلى تهدئة التوترات، حيث تم تأجيل جلسة المحكمة العليا في قضية الشيخ جراح، كما صدر أمر بمنع اليهود من دخول حرم المسجد الأقصى، إلا أن الشرطة داهمت المسجد مرة أخرى، في ساعة مبكرة من صباح يوم الاثنين العاشر من مايو/أيار، بعد أن خزن فلسطينيون الحجارة تحسبا لوقوع اشتباكات مع الشرطة واليهود اليمينيين المتطرفين الذين كانوا يستعدون لاقتحام المسجد في ذلك اليوم للاحتفال بذكرى احتلال القدس، ليكون هذا الاقتحام هو الثاني خلال ثلاثة أيام، وقد تم إطلاق قنابل الصوت والرصاص المطاطي، في مشاهد تم بثها في جميع أنحاء العالم.

في اللحظة الأخيرة، غيرت الحكومة مسار مسيرة يوم القدس بعيدا عن الحي الإسلامي، بعد تلقي إفادة استخباراتية حول مخاطر التصعيد إذا نفذ اليهود المتطرفون تهديداتهم باقتحام المسجد، لكن جاء هذا القرار متأخراً جداً بعد أن وصل التصعيد إلى مستوى كان يصعب الرجوع منه بمثل هذا القرار “الضئيل”، حيث نفذت حماس تحذيراتها وتم إطلاق الصواريخ يوم الاثنين بعد الساعة 6 مساءً، ليأتي الرد الإسرائيلي أعنف بكثير على المدنيين في قطاع غزة.

  للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا