لا زالت أصداء اللقاء السري المفاجئ الذي جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بنتنياهو قبل حوالي أسبوعين تتردد في كل مكان، وخاصة في الأوساط السعودية المحلية، بما فيها أعضاء العائلة المالكة، الذي أبدى بعضهم رفضاً واضحاً لهذا اللقاء- الذي كان من المفترض أن يبقى سراً لولا أن إسرائيل قامت بتسريبه- كما انتقدوا الدولة العبرية بصورة صريحة.
أحد هؤلاء المنتقدين كان الأمير تركي الفيصل، وهو أمير سعودي بارز من أعضاء العائلة المالكة الحاكمة، الذي انتقد إسرائيل بصورة شديدة اللهجة واصفاً إياها قوة “استعمارية غربية”، متهمها باعتقال وسجن الفلسطينيين في معسكرات اعتقال إسرائيلية وفي ظروف قاسية، مضيفاً أن الإسرائيليين يقومون بـ “اغتيال من يريدون” من الفلسطينيين.
جاءت تصريحات تركي، التي أدلى بها في منتدى “حوار المنامة” الأمني المنعقد في البحرين، بمثابة صفعة لوزير الخارجية الإسرائيلي غابي أشكنازي، الذي تحدث بعد ذلك مباشرة، وحاول تهدئة الأجواء بتعبيره عن أسفه “لأن تركي
كنس الانزعاج بالتعبير عن “الأسف” لأن تركي عبر عن مشاعر وآراء “لا تتناسب مع التغيرات التي تحدث في الشرق الأوسط “.
اللافت للنظر في تصريحات الأمير تركي الفيصل – رئيس المخابرات السعودية السابق- أنها تتناقض تماماً مع التصريحات الأخيرة التي أدلى بها الأمير بندر بن سلطان -مسؤول سعودي سابق رفيع المستوى- حيث هاجم بشدة القيادة الفلسطينية لمعارضتها صفقات التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج، ليكون هذا التناقض دليل واضح على وجود انقسام كبير بين أفراد العائلة المالكة فيما يتعلق بالتعاون مع إسرائيل وتطبيع العلاقات معها، حيث يعبر كل منهما عن مدرسة فكرية مختلفة في هذا الصدد.
إذن ما الذي يحدث في المملكة العربية السعودية؟
ينتمي تركي إلى مدرسة الملك سلمان، ملتزمًا بوجهة النظر السعودية التقليدية -كما عبرت عنها مبادرة السلام العربية التي أطلقتها الرياض عام 2002- بأن التطبيع مع إسرائيل يقوم على إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، مع التوصل إلى حل متفق عليه لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين.
وبصفته الوصي على الأماكن الإسلامية المقدسة، مكة المكرمة والمدينة المنورة، فإن الملك سلمان ليس مهتمًا بأي تحرك دبلوماسي يمكن أن يضعف مكانة المملكة العربية السعودية كقائد للأمة من خلال إثارة غضب أعداد كبيرة من المسلمين، الذين يقومون بتأدية فريضة الحج بالملايين سنوياً، وهو مجال إن تأثر سيؤدي أيضًا إلى تداعيات اقتصادية مأساوية.
في المقابل، فإن ابنه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -الذي يبدو أنه أقل ارتباطًا بمعايير مبادرة السلام العربية- مستعد للتحرك بسرعة لإبرام صفقة التطبيع مع إسرائيل.
لا يزال السعر الذي يطالب به للاعتراف به غير واضح، على الرغم من أنه يريد بالتأكيد إزالة وصمة العار التي لحقت به وببلاده بعد جريمة اغتيال الصحفي جمال خاشقجي، كما يطمح بالتأكيد إلى الحصول على صفقة أسلحة أمريكية كبيرة، متجاوزة صفقة طائرات F-35 وطائرات بدون طيار التي قامت بها الإمارات.
لا ينبغي للصراع السعودي الداخلي بشأن القضية الفلسطينية أن يحجب حقيقة أن التقارب السعودي مع إسرائيل هو استكمال لعملية طويلة بدأت منذ عقود ولأسباب كثيرة، ولم ينجم فقط عن الرغبة المشتركة لدى الجانبين لتكوين تحالف مناهض لإيران التي برزت كقوة مهيمنة في الخليج.
في الواقع، بدأ التحول السعودي تجاه إسرائيل مباشرة بعد حرب عام 1967، عندما اعترفت ضمنيًا بإسرائيل داخل حدود عام 1967.
في السبعينيات، حاول ولي العهد (والملك لاحقًا) فهد مرتين على الأقل التواصل مع إسرائيل، لكن تم رفض مبعوثيه، وكان السعوديون وقتها يطمحون في شراء أسلحة متطورة من الولايات المتحدة، مثل الطائرات المقاتلة من طراز F-16، وكان الهدف من تواصلهم هو طمأنة إسرائيل بأن التكنولوجيا العسكرية الخاصة بهم لن تشكل تهديدًا للدولة اليهودية.
وفي عام 1981، أصبح فهد أول زعيم عربي يقترح مبادرة سلام لحل الصراع العربي الإسرائيلي، ما اعتبر حينها أنها تشكل
اعترافًا سعوديًا رائدًا بإسرائيل، التي بدورها رفضت هذه المبادرة على الفور.
بعد حوالي 20 عامًا، وتحديداً في فبراير/شباط 2002، في ذروة الانتفاضة الفلسطينية، أطلق ولي العهد (والملك لاحقًا) عبد الله مبادرة سلام ثانية، وللأسف، قابلتها إسرائيل -على الصعيد الرسمي- بالرفض أيضاً، إلا أن بعض السياسيين البارزين (ايهود اولمرت وشمعون بيريز وآخرون) وافقوا “سراً” على هذه المبادرة، لكن دون جدوى.
حفز ظهور إيران كتهديد عسكري ونووي في الخليج محاولة أخرى من قبل المملكة للبحث عن طرق تواصل مع إسرائيل، ومع ذلك، فقد تطلب الأمر حرب لبنان الثانية (2006) لتسريع التعاون وراء الكواليس وبصورة غير معلنة.
كزعيم للعالم الإسلامي السني، نظرت المملكة العربية السعودية بقلق إلى القادة الشيعة الإيرانيين الذين سعوا للهيمنة الإقليمية باستخدام وكلاء مختلفين، مثل حزب الله في لبنان والنظام الشيعي المنشأ حديثًا في العراق، بعد الغزو الأمريكي عام 2003.
التقى رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أولمرت، برفقة رئيس الموساد مئير داغان، الأمير بندر بن سلطان في عام 2006، كان هذا بمثابة بداية تعاون إسرائيلي سعودي سري، حيث نتج عنه قيام داغان بزيارة سرية عام 2010 إلى المملكة العربية السعودية للاجتماع مع نظرائه.
ومع ذلك، لم يقم السعوديون علاقات رسمية مع إسرائيل على حساب العلاقات مع الفلسطينيين، الذين ظلوا يؤكدون على دعمهم في كافة المناسبات.
الصراع داخل البيت الملكي بشأن القضية الفلسطينية يعني أن قطار التطبيع الإسرائيلي لن يتوقف عند الرياض، على الأقل في الفترة الحالية، إذ يريد السعوديون الانتظار لمعرفة موقف إدارة بايدن فيما يتعلق بالاتفاق النووي الإيراني قبل المضي قدماً في اتخاذ أي خطوات نحو إسرائيل، وهذا يعني أن الاتصالات الإسرائيلية السعودية ستظل في الغالب خلف أبواب مغلقة، وقد أكد ذلك تصريحات تركي الفيصل.
الأمير تركي الفيصل، شن هجوماً عنيفاً على إسرائيل وعلى عمليات التطبيع التي وصفها قائلاً “لا يمكنك معالجة جرح مفتوح بالمسكنات؛ لا يمكن لاتفاقات إبراهيم أن تنجح إلا إذا تم إحياء مبادرة السلام العربية”.
وأخيراً، لكي يتم تتويج مساع المملكة العربية السعودية وإسرائيل نحو التقارب، يجب أن تكون هناك مبادرة سلام خليجية – إسرائيلية – أمريكية مشتركة تضمن أن يوافق عليها كل من الفصائل الملكية السعودية والجزء الأكبر من العالم الإسلامي، وهي مبادرة من شأنها أن تكون بمثابة نقطة انطلاق لحوار بين الدولة العبرية والفلسطينيين، وبالتالي بين إسرائيل والمملكة العربية السعودية.
السؤال الآن هو ما إذا كانت الأطراف مستعدة لمثل هذه المبادرة؟
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا