تورط سفارة المغرب في مدريد
التشهير بأشخاص ونشر الأخبار الكاذبة عنهم هو انتهاك خطير وجريمة كبرى يعاقب عليها عدد كبير من القوانين حول العالم، لا يوجد اختلاف حول هذا، بل ويمكن تمييز هذه الأخبار بسهولة والدفع بكذبها. تظهر المشكلة حين يتم نشر تلك الأكاذيب من عدد كبير من المصادر المختلفة والمعروفة باستقلاليتها -ظاهرياً، هنا يكاد يكون من المستحيل تحديد مصدر الكذبة ويصعب على من يتم تشويهه محو هذه الشائعات والأخبار الزائفة، ربما في أوقات قليلة يتمكن من أن يظهر أنها كاذبة، لكن الأكيد أنها ستظل منتشرة، وربما تلتصق به لفترة من الزمان خاصة حين يتم تزييف أدلة للتدليل على مصداقيتهم.
في بعض الأحيان، تكون الكذبة تتعلق بأمر تافه، لكن حجم الترويج لها يكسبها زخماً غير محدود، لتنجح في النهاية حملات التشهير بغض النظر عن حجم الكذبة، خاصة لو أن المصادر التي تقف ورائها تروج لنفسها على أنها من كبار المدافعين عن حرية القلم واستقلاله، في عبارة أخرى: منظمات غير حكومية.
يتناول هذا المقال واقعة شهيرة حول واحدة من أشهر الكذبات التي تم الترويج لها على نطاق واسع، تحديداً في 19 يوليو/تموز 2019، حين نشر الصحفي راؤول ريدوندو مقالاً ضد قطر على الصفحات الإلكترونية لـ “أتالايار”، أكبر وأشهر مدونة إسبانية متخصصة في المعلومات المستقلة عن شبه الجزيرة العربية والمغرب العربي والشرق الأوسط، واعتمد في مصادره على الصحيفة الألمانية الشهيرة “die Ziet”.
مضمون القصة باختصار: ريدوندو يجادل بأن جمعية خيرية قطرية (بإذن صريح من حكومتها) تقدم تمويلاً عسكرياً لحزب الله في لبنان.
وبحسب ريدوندو، فإن لدى المجلة الألمانية أدلة على تورط عميل سري يُدعى جيسون جي في تجارة أسلحة غير مشروعة بين الدوحة وبيروت، والذي تعهد إليه بعدم إفشاء وثائقه السرية في هذا الصدد. بعد أن التقى جي بأحد أعضاء الحكومة القطرية في بروكسل، حصل على 10000 يورو شهريًا لأكثر من عام ورفض في النهاية بيع أرشيفه إلى حكومة الدوحة مقابل 750 ألف يورو، وهو الأرشيف الذي قال جيسون جي إنه يحتوي على دليل يثبت تورط قطر المباشر في خرق الحظر المفروض على إيران.
“أتالايار”- لغز محير
“أتالايار” – المجلة الإسبانية الشهيرة، المدعومة رسمياً من السفارة المغربية في مدريد، تأسست على يد الصحفي المستقل خافيير فرنانديز أريبا، الذي يمتلك 100٪ من أسهم وكالة
Norte-Sur Media & Comunicacion SL Madrid ، وهو ذاته نائب الرئيس السابق لجمعية APE Asociacion de Periodistas Europeos ( الشهيرة، التي يتم رعايتها – إلى جانب العائلة المالكة الإسبانية من قبل شركات النفط ريبسول وإبيردرولا ، وشركة كوكا كولا ، ووزارة الدفاع الإسبانية، ومصرفا BBVA وسانتاندير، وعملاق الاتصالات السلكية واللاسلكية Telefonic، كل هذه العوامل تجعل من ” أتالايار” منصة قوية على الانترنت ليقينها أنها مدعومة من عمالقة القوة السياسية والمالية والصناعية في إسبانيا.
اللافت للنظر، أنه على الرغم من أن المجلة ذات حضور قوي، لكنها -بخلاف الصحف الأخرى- لا تقوم بنشر صور أو سير ذاتية أو معلومات اتصال لكثير من المحررين لديها، وراؤول ريدوندو واحد من هؤلاء المجهولين، لهذا، من المستحيل تحديد هويته الحقيقية، لكن توجهاته كان يمكن تحديدها بسهولة.
لأكثر من عام، لم يتوقف ريدوندو عن النشر يومياً، وكانت مقالاته مسخرة لتشويه قطر وتركيا والنيل من حلفائهم، وفي المقابل تمجيد المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والأحزاب اليمينية المتطرفة داخل الاتحاد الأوروبي، ليتضح بسهولة أن مواقفه تتوافق مع مواقف فريق التحرير والرعاة الرسميين: أي الموقف السياسي للمغرب الذي تدعمه “أتالايار” رسمياً.
السؤال الآن: لماذا تضخ حكومة الرباط هذه الأموال لمجلة إلكترونية لتشويه سمعة قطر؟ الأمر مثير للريبة، فالمغرب حاول بعناية في الماضي الحفاظ على مسافة متساوية واضحة بين المنافسين في الحرب الباردة التي اندلعت في الخليج العربي، والتي على إثرها قامت السعودية والإمارات والبحرين بمقاطعة قطر، كما أن قطر تُعتبر أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين لحكومة الرباط، وسبق وقدمت قرضاً بقيمة 2 مليار دولار لدعم الاقتصاد المغربي، وتبرعت بمبلغ 1.25 مليار دولار كمساعدات مالية، وفي المقابل، لم يبخل المغرب على قطر بالمساعدة إبان الأزمة الخليجية التي تسببت في فرض حظر على الدوحة في يونيو/حزيران 2017، بل إن قطر أيدت علناً استضافة المغرب لكأس العالم 2026 – وهو ما لم تفعله الإمارات والسعودية- بل إن العلاقات المغربية السعودية يشوبها بعض الاضطراب بعد سحب الملك محمد السادس جيش بلاده من حرب اليمن -لأسباب إنسانية… فما السر وراء هذا التمويل المغربي لدعم أفكار معادية لقطر ومتفقة مع الأجندة الإماراتية والسعودية.
علاقات سرية بالمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات
في فبراير/شباط 2019، أعلن بعض قادة حزب العدالة والتنمية – الحزب الحاكم في الرباط – الذين إبعادهم عن الحزب إثر نزاعات حزبية داخلية، أنه سيتم تمويل الحزب بأموال من قطر وتركيا والمملكة العربية السعودية، وهي التصريحات التي أثارت زلزالاً لم ينته إلا عندما قام رئيس الوزراء سعد الدين العثماني بالنفي علناً وجود أي صلة بين الحزب وبين وقطر أو بين الحزب والحزب الحاكم في تركيا، في حين لم ينف عن وجود أي علاقة تربط العدالة والتنمية المغربي بالسعودية، وهو أمر لم يكن غريباً إذ أن محمد لويزي، أحد القادة التاريخيين لحزب العدالة والتنمية المعروف بانتقاده الشديد لقطر.
نعود الآن للكذبة موضوع المقال، وهو التشهير بقطر اعتمادا على مصدر الكذبة الأصلي في “دي زايت” الألمانية. ضربت القصة هيئة تحرير المجلة الألمانية لأن جيسون جي كان قد التقى بمايكل إيناكير في عام 2017، وإيناكير هو صحفي سابق عمل في شركة العلاقات العامة الشهيرة: WMP ، لعدة سنوات، والتي كان “جي” يقوم بتغطية اجتماعاتها مع ضباط المخابرات الألمانية.
تم الحديث عن أن قطر أرسلت مبعوثاً دفع ملايين الدولارات للحصول على ملف أراد “جي” بيعه، وأن WMP وقعت صفقة مع عميلين: شركة “جي” وأخرى مسجلة في الدومينيكان (لن يتم الإفصاح عن اسمها)، كي تتبنى حملات تشويه قطر.
عندما تم اكتشاف هذه الفضيحة، اضطرت WMP إلى قطع العلاقات مع عميلها الرئيسي: حكومة المملكة العربية السعودية، لتنشر صحيفة “شتيرن” الأسبوعية في 22 يوليو/تموز قصة مختلفة تماماً، والتي أوضحت أن الكذبة هي جزء من حملة تشويه نظمها شخص ما (ربما الحكومة السعودية) للإضرار بصورة قطر الدولية.
لم تستطع “شتيرن” التعرف على هوية جيسون جي، لكنها كشفت على الأقل عن هوية الشخص الذي دبر عملية التشهير بأكملها: جاسم محمد، مدير المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، وهو مركز غامض ذو مقر واحد فقط في ألمانيا، له موقع رسمي باللغة العربية، أضيف له لاحقاً ترجمات بالإنجليزية والألمانية.
جاسم محمد – الذي لا يعرف أحد الدولة التي يقيم فيها- هو خبير بارع في مجال الأمن والتجسس، نشأ في ليبيا (تعتقد “شتيرن” أنه عراقي الأصل) وهو الآن منخرط بشكل كامل في المفاوضات بشأن التوازنات السياسية والعسكرية في برقة وطرابلس.
في أوروبا، وُجد اسمه على بوابة “Die Referenz” التابعة لمركز CEMO Centre d’Etudes du Moyen Orient SAS Paris ، وهو أهم مجموعة دعاية دبلوماسية ضد قطر في أوروبا.
وبحسب “شتيرن”، فإن جاسم محمد هو سياسي مقرب من إدموند شتويبر، رئيس حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي البافاري اليميني، وبعض قادة الصناعة الألمان الذين من الواضح أنهم يدافعون عن الموقف الفرنسي في ليبيا، ووفقاً لـ “شتيرن” كذلك فإن جاسم محمد مقرباً من مارك دومفريد، الذي يقال إن له دور كبير في الدعم السري السعودي للطائفة الدينية للقائد الديني سون ميونغ مون.
تقدم “أتالايار” مزيداً من التأكيد على هذا الأمر، حيث نجد أن المجلة وفي مقال بقلم المحرر Henar Hernandez، الموظف الشاب الذي تخرج في أواخر عام 2018 وأصبح منذ ذلك الحين خبيرًا في الموضوعات الليبية والتركية نيابة عن صحيفة خافيير فرنانديز أريبا، قام في فبراير/شباط 2020 بنقل قصة مصدرها الوحيد تليفزيون “الآن الإماراتي” أن تركيا وقطر والإخوان المسلمين ينشطون (معًا) في ليبيا من خلال تمويل الجماعات العسكرية المتمردة وتفكيك مصانع الأدوية من أجل إحضارهم إلى تركيا؛ بالإضافة إلى ذلك يقومون بالتمويل السري لحكومة السراج المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
حاول ذلك المقال الترويج لأن حكومة سراج هي حكومة ضعيفة، رغم اعتراف الأمم المتحدة بها، وتلجأ لمصادر تمويل سرية للمقاومة من تركيا وقطر، على عكس حفتر وتابعيه، الذين تطلق عليهم الثوار، يتم تمويلهم علناً ودون إخفاء من قبل الإمارات والسعودية ومصر، بالسلاح والمال، مع المبادرات للوصول لاتفاق لتهدئة الأوضاع في ليبيا.
أغرب ما في هذا المقال، هو أن إسبانيا تدعم دائماً بشكل رسمي حكومة الوفاق الوطني بقيادة فايز السراج، فلصالح من ونيابة عن أي جهة أطلق خافيير فرنانديز أريبا ومحرريه الحملة الإعلامية المعارضة التي نتساءل ما رأي شركات النفط الإسبانية مثل ريبسول، أو الرعاة مثل كوكاكولا، في هذا الخصوص!
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا