منصور عطية

ربما توقع المستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات اعتقاله، لكن ليس بهذه السرعة بعد ساعات فقط من كشفه امتلاك الفريق سامي عنان، رئيس أركان الجيش الأسبق، وثائق تميط اللثام عن حقائق ما حدث بمصر في الفترة التالية لثورة 25 يناير 2011.

لم تتوقف توابع الزلزال الذي أحدثه “جنينة” عند حدود اعتقاله، بل تكشفت المزيد من التفاصيل بشأن الأدلة التي يمتلكها “عنان” وتفضي إلى إدانة العديد من قيادات ورموز النظام الحالي، وفق التسريبات التي نقلتها تقارير إعلامية.

بالصوت والصورة

التقارير قالت: إن “مصادر عسكرية ساءها الصراع المتصاعد بين أجنحة داخل القوات المسلحة، وعلى وجه الخصوص بين مجموعة الرئيس عبدالفتاح السيسي والمخابرات الحربية، وبين رئيس الأركان السابق وأنصاره داخل القوات المسلحة”.

هذا الاستياء أسفر عن تسريب معلومات جديدة بشأن طبيعة الوثائق التي يملكها الفريق “عنان”، حيث أشار التسريب إلى أن ما تحدث عنه “جنينة” لم يكن وثائق بالمعنى الحرفي، ولكنها عبارة عن مجموعة شرائط فيديو مصورة مسجلة من قلب غرفة القيادة العامة للقوات المسلحة.

ومن المتعارف عليه أن كافة اجتماعات قيادة القوات المسلحة في مصر، يجري تسجيلها صوتًا وصورة، وكان “عنان” بحكم موقعه حينها، كرئيس أركان للجيش، له حق الولوج إلى تلك الفيديوهات، بحسب التقارير.

ووفقًا للتسريب ذاته، فقد احتفظ “عنان” لنفسه بنسخة منتقاة من تلك الفيديوهات، تحمل مشادات ومشاحنات بين أعضاء المجلس، كما تشمل أيضًا أحاديث عن كثير من أمورهم المالية.

وكان المشير محمد حسين طنطاوي، وزير الدفاع الأسبق، هو القاسم المشترك في كل تلك المقاطع، وكثير منها يظهر فيها بصوته وهو يتحدث عن استثماراتهم وأنشطة مالية تتعلق بأعضاء المجلس العسكري، ويشير التسريب إلى أن الشق السياسي في تلك الأشرطة يشمل واقعة ماسبيرو بشكل أساسي.

من ناحية أخرى، نقلت التقارير عن مصدر عسكري، رفض الإفصاح عن اسمه لحساسية منصبه، أن زيارة وزير الخارجية الأمريكي “ريكس تيلرسون” لمصر يومي الأحد والاثنين، 11 و12 فبراير الجاري، كانت تتضمن “سعيه للصلح بين الطرفين، الفريق سامي عنان من جهة، والسيسي وقيادات الجيش من جهة أخرى”.

المصدر أكد أن المشكلة الرئيسية التي تعوق عملية الصلح، هي أن كلا الطرفين “رافض الالتقاء في المنتصف”، بينما “عنان” متمسك برأيه، وطلب “ترضية كبيرة” لا يستطيع الطرف الآخر الموافقة عليها.

صراع الأجنحة

ولعل هذه التسريبات، إن صحت، فهي تؤكد معلومات متداولة وتثير علامات استفهام كثيرة، وتكشف تفاصيل ظلت مجهولة أو مشكوكًا في صحتها.

بداية، فإن التسريبات تتحدث عن صراعات بين أجنحة متنازعة داخل الجيش، أحدها يقوده السيسي، والآخر يميل إلى طرف الفريق سامي عنان، وهي الأحاديث المتواترة، والتي جرى تناولها على مدار السنوات الماضية، وتجلت على أرض الواقع بمجموعة من الشواهد.

تلك الشواهد تمثلت في إقالة عدد من قيادات الجيش، وصلت إلى حد الإطاحة بالفريق محمود حجازي من رئاسة الأركان، رغم علاقة النسب التي تربطه بالسيسي، وكذلك إقالة خالد فوزي من قيادة المخابرات العامة.

صحيفة “لوموند” الفرنسية، نشرت قبل أيام تقريرا قالت فيه: إن “قادة الجيش المصري بدءوا عرض خلافاتهم بشكل علني غيرِ مسبوق، وهو ما يُشير إلى هشاشة سلطة الرئيس عبدالفتاح السيسي، وحدّة الصراعات من أجل السلطة”.

وكشف الباحث السياسي الفرنسي جان-بيار فيليو عما قال إنها “توترات غير مسبوقة ضد السيسي، قبيل انتخابات الرئاسة المقررة الشهر المقبل”، مشيرا إلى أنّ المسؤولين في الجيش المصري ليسوا كتلة واحدة خلف الرئيس المرشح الأبرز للانتخابات المقبلة.

اعتقال “عنان”، ومن قبله إجبار “شفيق” على الانسحاب من السابق الرئاسي، دفعت الكاتب إلى استنتاج، مفاده أن السيسي بدا “أقل أريحية” تجاه الشخصيات العسكرية الرفيعة، وأن الانتخابات الرئاسية “أصبحت رهانا مهما للسيسي ليتعامل بصرامة تجاه الذين يكبرونه سنًّا بالمؤسسة العسكرية مثل “عنان” و”شفيق””.

الجيش بيد أمريكا!

ما كشفته التسريبات من دور أمريكي لعبه وزير الخارجية في محاولة الصلح بين طرفي النزاع العسكريين بمصر، يثير التساؤلات بشأن الدور الأمريكي النافذ في أدق تفاصيل الجيش المصري والعلاقات الخاصة بين قادته، فما الذي يدفع برجل دبلوماسي إلى هذه الدرجة للتدخل؟.

محاولة الإجابة على تلك التساؤلات ربما تصطدم بما هو أبعد من ذلك، وتفاصيل أخرى تمتد إلى العقيدة العسكرية للجيش المصري وتسليحه، والهيمنة الأمريكية عليه، تحديدا منذ التوقيع على اتفاقية السلام مع إسرائيل.

السفير الإسرائيلي السابق في القاهرة “إسحاق ليفانون” كشف عن أن الولايات المتحدة طلبت من مصر رسميًّا “تغيير العقيدة العسكرية التقليدية التي تميز الجيش المصري الآن، بعقيدة تناسب أكثر الحرب على الإرهاب”.

التوجه الأمريكي تمت ترجمته بشكل فعال عام 2012، في أعقاب تعيين الفريق أول (حينها) عبدالفتاح السيسي وزيرًا للدفاع، بقرار من الرئيس الأسبق الذي أطاح به الأول لاحقًا في يوليو 2013.

السعي الحثيث للولايات المتحدة، كشفته مصادر أمريكية في أبريل 2015، حيث قالت: إن “تفاهمات جرت مع قيادة الجيش المصري بعد تعيين السيسي وزيرًا للدفاع، تتعلق بإعادة هيكلته وتحديثه وتغيير عقيدته القتالية”.

مركز واشنطن للدراسات، نقل عن مسؤولين بوزارة الدفاع الأمريكية قولهم إن الهيكلة تعني تقليص أعداد القوات، ونوعية أسلحتها، وتطوير مهامها، لتناسب المجالات الجديدة التي حددت لتعمل فيها، ولم يتوقف التدخل الأمريكي عند حدود تحديد نوعيات الأسلحة والتدريب المقدم للقوات المصرية، بل تعداه إلى اتفاقيات تكشف السيادة المصرية أمام أمريكا.

فبعد أن كانت مصر ترفض -على مدار عقود- توقيع اتفاقية cismoa، فقد وقعتها بعهد السيسي، وتلك الاتفاقية اختصارًا تسمح للقوات الأمريكية بتسهيلات مرور برية وجوية وبحرية إلى مواقع عملياتها ارتكازًا، وعبر الأراضي المصرية، وربط عملياتي بين الجيشين المصري والأمريكي، ما يعني انكشافًا كاملًا للسيادة المصرية أمام أمريكا.

الفائدة الأمريكية من وراء تلك العلاقة، شرحها القائد الأسبق للقيادة المركزية للجيش الأمريكي في الشرق الأوسط، أنطوني زيني، أواخر أبريل 2013، حيث قال: “إنه تغيير شامل في المفاهيم والعقيدة والتسليح، إنهم لا يدركون أية فوائد نجنيها من وراء علاقتنا بالجيش المصري..”.

وتابع: “علام حصلنا من وراء ذلك؟ حرب الخليج، الصومال، القدرة علي القتال المشترك بناء على العقيدة العسكرية نفسها، مكان للتدرب يتميز بمساحة جوية وبحرية وجوية متجاورة تمكننا من العمل على مستوى كنا بحاجة للتدرب عليه، لقد قدم المصريون ذلك لنا”.

تساؤلات مشروعة

لكن في مقابل التسليم بصحة ما نقلته التسريبات عن مصادر عسكرية، فإن ثمة تساؤلات تخلق حالة من الشك والريبة تجاه ما تم نقله.

التسريبات تحدثت عن فضائح كشفتها المحادثات بين أعضاء المجلس العسكري، وتفاصيل بشأن استثماراتهم المالية، فهل يعقل أن يتحدث قادة بهذا المستوى عن تلك الأمور الحساسة في قلب اجتماعات يعرفون مسبقا أنها مسجلة بالصوت والصورة؟!.

ألم يخش هؤلاء- بالنظر إلى حالة الصراع بين القادة – أن يستخدم أحدهم هذه التسجيلات ضد الآخرين في وقتٍ ما تتعارض خلاله المصالح؟ وقبل هذا وذاك، من هو المسموح له باقتناء هذه التسجيلات أو نسخ منها، وأين يتم حفظها؟.

هذا التساؤل يقود إلى آخر، وهو كيف استمر الفريق سامي عنان في الاحتفاظ بنسخة التسجيلات، حتى بعد مغادرته منصب رئيس الأركان في أغسطس 2012؟ وكيف سمح له طنطاوي والسيسي من بعده – بفرضية خلافه معهما– باقتناء التسجيلات من الأساس، ثم الاحتفاظ بها بعد ذلك؟ أم أن الأمر ينطوي على حيل نفذها “عنان”، استطاع بها وربما استعانة برجاله الاحتفاظ بالتسجيلات؟.

ويبقى باب التساؤلات والتكهنات مفتوحًا على مصراعيه، وربما يحمل قابل الأيام بتطوراتها المتسارعة إجابات شافية أو مزيدًا من علامات الاستفهام.