وكأنه حرث في البحر، انتهى إليه نضال حقوقي استمر لعدة أجيال، في سبيل إلغاء المحاكم الاستثنائية وقانون الطوارئ، فالقرار الذي أصدره الرئيس عبد الفتاح السيسي، بإعادة فرض حالة الطوارئ على جميع أنحاء الجمهورية لمدة 3 أشهر ابتداء من الجمعة 13 أكتوبر الجاري، فتح الباب على مصراعيه أمام الحديث عن المحاكم الاستثنائية في ظل حالة الطوارئ.
لاقى هذا الحديث رواجًا، لتزامن القرار مع قرار رئيس الوزراء، المفوض من السيسي في صلاحيات الطوارئ، بتوسيع صلاحيات محكمة أمن الدولة طوارئ لتتضمن إلى جانب الفصل في الجرائم المرتبطة بقانون الطوارئ، سلطة الفصل في جرائم أخرى بقانون العقوبات وغيرها من القوانين.
هذه الجرائم التي توسع فيها القرار شملت: التجمهر، جرائم الترويع المنصوص عليها في قانون العقوبات “البلطجة”، تعطيل المواصلات، الإضراب، جرائم التموين والتسعيرة الجبرية، الجرائم المنصوص عليها في قانون الأسلحة والذخائر، جرائم الاعتداء على حرمة أماكن دور العبادة، جرائم التظاهر، جرائم الاعتداء على حرية العمل وتخريب المنشآت، الجرائم الواردة بقانون مكافحة الإرهاب.
خطوة مكملة
الخطوة تأتي مكملة للقانون الذي أصدره السيسي، في 27 أكتوبر 2014، برقم 136 لعام 2014 والذي وسع سلطات المحاكم العسكرية، ومنحها اختصاص النظر في الجرائم المرتكبة في الأملاك العامة، بما في ذلك الأبراج والمحطات الكهربائية، وخطوط أنابيب الغاز، والطرقات، والجسور، وسواها من المنشآت العامة غير المحددة.
وناضلت الحركة الحقوقية المصرية، منذ تأسيسها في ثمانينيات القرن الماضي من أجل إلغاء حالة الطورئ التي ظلت مفروضة طيلة 30 عامًا وما صاحبها من محاكم استثنائية، وتعرض منتسبيها لهجمات شرسة خلال عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك، لكن ظلت العلاقة مرنة تسمح للمنظمات الحقوقية بهامش من الحركة يواجه به مبارك انتقادات الغرب لانتهاكات حقوق الإنسان في البلاد.
وبعد ثورة 25 يناير 2011 ظن الجميع بإلغاء حالة الطوارئ أنهم بدأوا يجنون ثمار نضالهم الطويل، لكن سرعان ما استيقظوا على قضية التمويل الأجنبي التي استلغتها دولة ما بعد 3 يوليو 2013 في منع العشرات من الحقوقيين من السفر أو التصرف في أموالهم.
هذه الهجمة تزامنت مع ترد غير مسبوق لحالة حقوق الإنسان، وما شملته من إعادة لفرض حالة الطورئ ومحاكم أمن الدولة، وتوسيع اختصاصات المحاكم العسكرية، لتذهب كل الجهود أدراج الرياح.
“شيزوفرينيا” مصر
وعند البحث حول الجرائم التي تُحال بموجب القرار الجديد إلى محاكم أمن الدولة طوارئ، كانت هناك مفارقة جديرة بالاهتمام.
الإضراب يعد في قانون الطوارئ جريمة يعاقب عليها القانون، ويمثل بموجب قرار رئيس الوزراء مرتكبها أمام محكمة أمن الدولة طوارئ التي تعد أحكامها نهائية وغير قابلة للطعن بأي طريق، وتخضع فقط لسلطة الحاكم العسكري (رئيس الجمهورية) في تخفيفها أو إلغاءها أو استبدالها أو الأمر بإعادة المحاكمة أمام دائرة أخرى.
اللافت أن حكمًا قضائيًا صدر من محكمة أمن الدولة العليا طوارئ في وقت سابق أجاز الإضراب كحق من حقوق العمل في الاتفاقيات الدولية التي وقعت عليها مصر وأصحت جزءًا من تشريعاتها.
المستشار محمد أمين الرافعي، قضى ببراءة جميع العمال المتهمين في القضية المعروفة باسم “إضراب عمال السكة الحديد” عام 1986، واتهم فيها 37 عاملًا بتعطيل سير قطارات السكك الحديدية عمدًا والإضرار العمدى بأموال ومصالح هيئة السكة الحديد واستعمال القوة والعنف والتهديد مع الموظفين العموميين.
واعتبرت المحكمة أن البند “د” من المادة 8 من الاتفاقية الدولية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هى قاطعة الدلالة بأن على الدولة المنضمة لهذه الاتفاقية أن تلتزم بضمان الحق في الإضراب، وأنه صار معترفًا به كحق مشروع من حيث المبدأ، فلا يجوز العصف به كليًا أو تجريمه على الإطلاق.
وأوضح الحكم أن هناك تضاربًا بين الاتفاقية والمادة 124 من قانون العقوبات المتعلقة بتجريم الإضراب، مما يوجب بحث أيهما الأجدر بالتطبيق، لا سيما وأن كليهما صادر من السلطة صاحبة السيادة فى الدولة.
واعتبر “الرافعي” أن تصديق مصر على الاتفاقية ونشرها بالجريدة الرسمية كقانون داخلي في أبريل 1982 بعد صدور مادة قانون العقوبات المشار إليها، فإنها تكون قد ألغتها ضمنيًا (الاتفاقية ألغت المادة).
تاريخ المحاكم الاستثنائية
بدأت فكرة المحاكم الاستثنائية في مصر مع الاحتلال الإنجليزي فيما يُعرف بالمحاكم المختلطة، ويعد حكم محكمة دنشواي الذي قضى بإعدام 4 مصريين أشهر أحكام هذه المحاكم.
بالإضافة إلى ذلك فقد عمد المندوب السامي البريطاني إلى إنشاء ما يعرف بمحاكم الأخطاط، وهي محاكم تتشكل من الأعيان ورجال الإدارة ولا تتقيد بضوابط المحاكمات التي توجد في القوانين العادية.
وركزت هذه المحاكم عمومًا، على المسائل الجنائية بنظر القضايا الصغيرة وإصدار أحكام غير قابلة للطعن، وفي سنة 1912 تم إنشاء 200 من محاكم الأخطاط التي تستخدم إجراءات مبسطة وقضاة غير محترفين.
وضمن المحاكم الاستثنائية أيضًا، محكمة الغدر، التي أنشئت بالمرسوم بقانون رقم 344 لسنة 1952، ومحكمة الثورة المنشأة بمقتضى الأمر الصادر من مجلس قيادة الثورة في 16 سبتمبر 1953.
وتعد محكمة أمن الدولة العليا أول محكمة استثنائية ينص عليها الدستور، فقد نصت المادة 171 من دستور 1971 على أنه “ينظم القانون ترتيب محاكم أمن الدولة ويبين اختصاصاتها والشروط الواجب توافرها فيمن يتولون القضاء فيها، وبموجب ذلك فقد تم إصدار قانون رقم 105 لسنة 1980م بإنشاء محاكم أمن الدولة”، إلا أن تلك المادة اثلغيت في أول دستور بعد الثورة عام 2012، وكذلك دستور 2014 المعمول به حاليًا.
وبهذا ارتبط تشكيل تلك المحاكم بفرض حالة الطوارئ، التي تدخل شهرها السابع، وجددها السيسي وسط اتهامات بالتلاعب بالدستور.
أما القضاء العسكري، فقد نشأ بقانون 25 لسنة 1966 الذي نص على “الإدارة العامة للقضاء العسكري هي إحدى إدارات القيادة العليا للقوات المسلحة، ويتبع هذه الإدارة نيابة عسكرية ومحاكم عسكرية وفروع أخرى حسب قوانين وأنظمة القوات المسلحة”.
ورغم أن الأصل في القضاء العسكري محاكمة العسكريين إلا أن مبارك استخدم القضاء العسكري ضد خصومه، خاصة قيادات جماعة الإخوان المسلمين الذين أُحيل المئات منهم لتلك المحاكم على مدار سنوات طويلة، ولم يروا النور إلا باندلاع ثورة 25 يناير.
وشهدت الفترة التالية للإطاحة بالرئيس الأسبق محمد مرسي توسعًا في محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وأبرز الأدلة على ذلك تقرير مجموعة “لا للمحاكمات العسكرية للمدنيين” الذي قال إن نحو 3 آلاف مواطن تمت محاكمتهم أمام القضاء العسكري في الفترة ما بين أكتوبر 2014، ومارس 2015.
وكذلك تقرير منظمة “هيومن رايتس ووتش” العالمية، الذي كشف تعرض (7420) مدنيًا مصريًا لمحاكمات عسكرية منذ أكتوبر 2014، وحتى أبريل 2016.
اضف تعليقا