لأكثر من قرن من الزمان، واجه السعي إلى تسوية النزاع بين اليهود والعرب طريقا مسدودا تلو الآخر.
وتحدى العداء المتبادل بين الإسرائيليين والفلسطينيين المسارات المختلفة التي اتبعتها “عمليات السلام” المتعاقبة، التي فشلت في تعزيز تسوية راسخة.
وانتهى المطاف بتلك المقترحات، بما في ذلك الخطط التي طرحتها سلسلة من إدارات البيت الأبيض، أن أصبحت مجرد تاريخ، وهو المصير الذي يبدو أن الخطة التي تحكم العلاقات الإسرائيلية الفلسطينية حاليا، المعروفة باسم “اتفاقات أوسلو لعام 1993” تتجه إليه.
وعلى مدى عقود، تصورت معظم مبادرات السلام إطارا لـ”الأرض مقابل السلام”؛ حيث تبادل (إسرائيل) الأراضي التي تم الاستيلاء عليها عام 1967 وبعده مع جيرانها العرب مقابل معاهدات سلام.
وكان الاتفاق الأشهر مع مصر عام 1979، لكنه تعثر الوصول لاتفاق مماثل مع الفلسطينيين، وأدت السياسة الفلسطينية المنقسمة، والحكومات الإسرائيلية غير المهتمة بشكل متزايد، إلى تقويض شعبية مبدأ “الأرض مقابل السلام”، واليوم، يبدو أنه لم يعد هناك عودة لذلك المبدأ.
ومع تصاعد القوة الديموغرافية والسياسية للمستوطنين والقوميين في (إسرائيل)، لن يكون لدى الإسرائيليين سبب وجيه للتخلي عن الأرض التي تم الاستيلاء عليها، خاصة أن التنازلات الدبلوماسية لصالح السلطات الفلسطينية تعطي ثمارا أقل.
أما الفلسطينيون، فمن جانبهم، فإنهم يعانون من الانقسام أكثر من أي وقت مضى، حيث لا تزال “حماس” في غزة ملتزمة أيديولوجيا بتدمير (إسرائيل)، ولكنها معزولة في قطاع معطل اقتصاديا.
ولا تزال حركة فتح في الضفة الغربية ملتزمة تقنيا باتفاق “أوسلو”، الذي أصبح الآن غير صالح عمليا.
ونظرا لأن أولويات أخرى قد حلت محل القضية الفلسطينية لدى بعض الدول التي دافعت عن القضية طوال عقود، وبالنظر إلى الواقع الاقتصادي والسياسي الذي تسبب في إبعاد دول أخرى، ظهر مسار جديد يحبذ حل الدولة الواحدة، ما يغير 70 عاما من الجهود الدولية لإنشاء دولتين.
والآن جاء دور الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب”، الذي تأخذ إدارته الآن دورها في حل التحدي الذي فشل أمامه الكثير من سابقيه.
وفي هذا الأسبوع، اجتمع مندوبون من دول الخليج العربية وأصحاب المصالح ورجال الأعمال في البحرين للتعهد بالدعم الاقتصاد الفلسطيني، وهو حدث يمثل الخطوة الأولى من خطة البيت الأبيض لتهدئة النزاع المستمر منذ عقود بين اليهود والعرب في الشرق.
وعلى الرغم من أنه من غير المرجح أن يسفر المؤتمر عن تقدم كبير في تسوية النزاع، لكنه يمثل خطوة على طريق أكثر وضوحا لمستقبل “فلسطين” و(إسرائيل)، وهو طريق يبدو أنه يسير حل الدولة الواحدة، وإن كان حلا غير مكتمل وغير مستقر، فهو مليء بالعواقب الاقتصادية والأمنية والسياسية للإسرائيليين والفلسطينيين ومعظم المنطقة.
ومع استمرار التنازل عن الحلول الوسط، لا تزال صورة خطة “الدولة الواحدة” الناشئة غير مكتملة، ويبدو أنها لا تجعل أي طرف من الأطراف سعيدا تماما.
وتدعو الجوانب الاقتصادية للخطة، التي تم الكشف عنها عشية المؤتمر، إلى خفض الحواجز التجارية بين المناطق الفلسطينية والدول الخارجية، بالإضافة إلى توفير المزيد من الأموال للتعليم، وتحسين المعابر الحدودية، وتنفيذ خطة لزيادة دخل السياحة، من بين أمور أخرى اقتصادية مركزية.
لكنها لا تشمل عنصرا سياسيا، فهي لم تتكلم عن حل الدولة الواحدة، الذي يفضله بعض الإسرائيليين والأمريكيين على سبيل المثال، حيث تسيطر (إسرائيل) على الضفة الغربية بالكامل، وبالطبع لم تتحدث الخطة عن صيغة الدولة التي يفضلها الفلسطينيون، حيث يستعيدون الأراضي التي تسيطر عليها (إسرائيل) بأكملها.
لكن في الوقت الحالي، يبدو أن الخطة من شأنها أن تترك السيطرة على جزء كبير من الضفة الغربية في المستقبل لـ(إسرائيل)، من خلال سلسلة ثابتة من الإجراءات، مع ترك بعض الجيوب الفلسطينية، التي لا تكفي لتشكيل دولة، لتدافع عن نفسها.
العودة للتاريخ
وبطريقة ما، يمتلك حل الدولة الواحدة بعدا تاريخيا، ونص وعد “بلفور” سيئ السمعة الذي صدر عام 1917 على إقامة وطن قومي للشعب اليهودي يتقاسمه مع السكان الأصليين العرب في فلسطين.
وفي هذا الصدد كتب اللورد “بلفور” عام 1917: “تؤيد حكومة صاحب الجلالة إنشاء وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل قصارى جهدها لتسهيل تحقيق هذا الهدف، ومن المفهوم بوضوح أنه لن يتم القيام بأي شيء من شأنه أن يمس الحقوق المدنية والدينية للمجتمعات غير اليهودية الموجودة في فلسطين”.
وفي ذلك الوقت، كانت خطة “بلفور” تمثل مخططا طموحا غير مكتمل لدولة مبنية على رماد الإمبراطورية العثمانية، وبالمثل، تم وضع خطة “ترامب” للسلام التي تمثل طموحا غير مكتمل لتأسيس دولة على أنقاض عملية “أوسلو” للسلام عام 1993، وهي آخر عملية دبلوماسية ناجحة لحل النزاع.
ويعترف حتى بعض الزعماء العرب باحتمال حل الدولة الواحدة، كما ورد في بيان “أنور قرقاش”، وزير خارجية الإمارات العربية المتحدة، الذي قال في مارس/آذار: “أعتقد أن النقاش خلال 15 عاما سيكون حول المساواة في الحقوق في دولة واحدة”.
ويعكس هذا الشعور الإقليمي تحولا جيوسياسيا عن حل الدولتين في كل من الشرق الأوسط والعالم.
وفي وقت من الأوقات، كان الالتزام بهدف إقامة دولة فلسطينية منفصلة بمثابة لبنة شرعية أساسية للعديد من القادة العرب، وكانت (إسرائيل) بمثابة عامل تشتيت لانتباه الشعوب عن إخفاقات الدول العربية أو نكساتها الاستراتيجية، لكن بعد عقود من الزمن، فقدت الرسائل التي تشيطن (إسرائيل) قدرتها على تهدئة مواطني العديد من الدول العربية، خاصة هؤلاء الأصغر سنا.
واليوم، تحولت بعض هذه الدول إلى الداخل واضعة تنميتها وازدهارها أولوية قبل طموحات الدولة الفلسطينية.
وأصبح المتعصبون الآخرون لحل الدولتين مثل مصر والأردن مقيدين بالمعاهدات مع (إسرائيل)، ويعتمدون على الولايات المتحدة للحصول على مساعدات اقتصادية وأمنية، ما يجعلهم مترددين في اتخاذ موقف مستقل.
وفي حين تظهر الدول العربية في الخليج العربي في كثير من الأحيان دعمها الخطابي لحل الدولتين، فإنها تتوق أيضا إلى التجارة مع (إسرائيل)، أحد أكثر الاقتصادات ديناميكية في المنطقة.
علاوة على ذلك، تمثل الكراهية المتبادلة تجاه إيران، وهو موقف مشترك بين السعوديين والإماراتيين والبحرينيين والإسرائيليين، عامل تقارب غير مسبوق.
أما بعض الدول التي لا تزال معادية لحل الدولة الواحدة، مثل لبنان وسوريا، فليست في وضع يسمح لها بالدفاع عن القضية الفلسطينية، والبعض الآخر، مثل تركيا وإيران، لا يستطيع تقديم شيء.
وعلى الرغم من أن وكلاء إيران قد يشنون حربا على (إسرائيل)، لكنهم لا يملكون القوة ولا الدعم الكافي للوفاء بالوعود التي قطعها أمثال القومي العربي “جمال عبدالناصر”، رئيس مصر من 1952 إلى 1970، حين وعد بـ”إلقاء الإسرائيليين في البحر”.
الخطة الجديدة
وفي ظل إدارة “ترامب”، بدأت الولايات المتحدة في إخماد الكثير من التقدم الدبلوماسي الذي أحرزته الإدارات السابقة، واختارت تشجيع الجهود الاستيطانية الإسرائيلية.
وكانت العلاقة الوثيقة بين “ترامب” ورئيس الوزراء الإسرائيلي “بنيامين نتنياهو” هي التي تقود الاستراتيجية الأمريكية، وكذلك الترابط الأيديولوجي الحالي بين الحليفين، حيث ينظر كلا منهما إلى إيران على أنها أكبر تهديد للاستقرار الإقليمي والوجود الإسرائيلي.
لكن هذه المواءمة من غير المرجح أن تدوم مع نهاية رئاسة “ترامب” في ظل الاستياء الداخلي الواضح في واشنطن من سياسة إدارته تجاه (إسرائيل).
لكن في الوقت الحالي، على الأقل، سوف تدفع تلك السياسات الزخم نحو حل الدولة الواحدة غير المستقر وغير المكتمل.
ومن غير المرجح أن يوحد حل الدولة الواحدة الناشئ حدود الدولة القديمة بالكامل تحت علم (إسرائيل) بشكل منفرد، وبدلا من ذلك، من المحتمل بشكل متزايد أن تسفر الخطة عن حل جزئي، حيث تقوم (إسرائيل) بضم مستوطنات يهودية طال انتظارها في الضفة الغربية ووادي نهر الأردن، وكلاهما يشكلان جزءا كبيرا مما تسميه اتفاقات “أوسلو” بـ”المنطقة ج”، وهي المناطق التي تحتفظ فيها (إسرائيل) بالسيطرة الأمنية، ولكنها تخضع للسيادة الفلسطينية في نهاية المطاف.
وسوف تجعل مثل هذه الخروقات في الضفة الغربية الدولة الفلسطينية المستقبلية غير قابلة للوجود، لأن المناطق الخاضعة للسيطرة الفلسطينية ستظل معزولة عن طرق التجارة، التي ستكون مقطوعة تحت السيطرة الإسرائيلية، ما يعني أنه سيكون من المستحيل عمليا لأي حكومة فلسطينية أن تحكم.
كما سيترك ذلك غزة، التي تحكمها “حماس”، موقعا مضطربا تسعى (إسرائيل) لإلقاء مسؤوليته على مصر وقطر والدول المجاورة، التي ترى قيمة سياسية في رعاية غزة، وكذلك على المجتمع الدولي.
وسوف تحكم سياسة كل من (إسرائيل) والولايات المتحدة في النهاية نطاق حل الدولة الواحدة.
وتواجه (إسرائيل) انتخابات أخرى في سبتمبر/أيلول، ويعتمد الفائز على دعم القوميين، الذين يفضل الكثير منهم ضم جزئي للضفة الغربية على الأقل. ويجب على الأمريكيين، بقيادة “جاريد كوشنر”، صهر “ترامب” ومستشاره، أن يأخذوا بعين الاعتبار الانتخابات الرئاسية العام المقبل، واحتمال ألا يفوز “ترامب” بفترة ولاية ثانية.
وبصرف النظر عن مدى وسرعة سير العملية، ستخلق حقائق الدولة الواحدة تحولا جوهريا في التوازنات التي بنتها عمليات السلام السابقة.
وسيواجه الإسرائيليون على نحو متزايد احتمال ضم الأرض والشعب معا، وبالضرورة، في حين تضم (إسرائيل) المزيد من الأراضي، ستضطر حكومتها إلى اتخاذ خيار صعب بين جعل الفلسطينين الذين يعيشون في هذه الأراضي مواطنين إسرائيليين، والمخاطرة بإغضاب القوميين والمتطرفين الإسرائيليين الذين يدافعون عن الأغلبية الديموغرافية اليهودية في البلاد، أو الإبقاء عليهم عديمي الجنسية بشكل دائم والتعرض لانتقادات المجتمع الدولي.
وسوف يفكر القادة الإسرائيليون فيما إذا كان الاحتلال العسكري لهذه الأراضي هو وسيلة مستدامة، أم أنهم في الحقيقة يهدرون المزيد من الأموال التي يمكن أن تستخدم في دفع تكاليف البنية التحتية والتعليم والإسكان.
وسيتعين على الساسة في (إسرائيل) إيجاد شركاء محليين يدعمون عملية الضم؛ مثل المتطرفين اليمينيين في حركة “أوتزما يهوديت” أو “القوة اليهودية”.
وبالنسبة للفلسطينيين، فسوف يجبرهم اتجاه الدولة الواحدة على تقبل الفشل المحتمل لمشروعهم الوطني لإقامة دولة فلسطينية على حدود عام 1967 الذي سعوا إليه على مدار عقود من خلال الحرب والدبلوماسية على حد سواء. لكن الانقسامات العميقة في الضفة الغربية ستجعل هذا الأمر مستحيلا تقريبا، تاركة الفلسطينيين في مواجه إخفاقات قادتهم ووعود قوميتهم غير المحققة.
وفي هذا الوضع المريع، سيتحول الكثير من الفلسطينيين إلى خيارات عنيفة، بينما سيركز آخرون على اقتراح “قرقاش”، وينادون بالمساواة في الحقوق داخل (إسرائيل).
ما وراء الدولة الواحدة
وخارج الضفة الغربية وقطاع غزة، لن تتمكن بلدان مثل الأردن ولبنان وسوريا، من التشبث بحلم عودة اللاجئين الفلسطينيين، الذين ظلوا تحت رعايتهم لوقت طويل، إلى الدولة القديمة ذات يوم.
وقد تحولت مخيمات اللاجئين في تلك البلدان إلى عقود اجتماعية دائمة – لكنها هشة- مدعومة بالمساعدات الدولية.
وتفرض هذه الدول على الفلسطينيين الذين يعيشون هناك وضع اللاجئين، على الرغم من أن الكثير منهم لا يعرفون أرضا سوى بلدانهم المضيفة.
وسوف يجبرهم التطور الأكبر لحل الدولة الواحدة، مع ضغط الحكومات المضيفة، على مواجهة وضعهم غير المحدد، وسوف يدفع هذا الوضع النازحين الفلسطينيين أيضا إلى مزيد من الاندماج في الأقمشة الاجتماعية والسياسية في البلدان التي يتم اعتبارهم فيها الآن ضيوفا ظاهريا، ما قد يؤدي إلى تفاقم الاضطرابات، وبالتأكيد تغيير البنى السياسية لهذه الدول.
ومع تطور هذا الاتجاه، يمكن يتغير الرأي العالمي تدريجيا، وقد يكون الشرق الأوسط حينها أقل اهتماما بالإجابة على السؤال حول مصير دولة فلسطين.
ولكن في أوروبا والولايات المتحدة، لا تزال هناك قوى قوية تستثمر رصيدها السياسي في حل الدولتين، ويمكنهم حتى الآن الحصول على القوة والتأثير الكافي لتغيير علاقات بلدانهم مع (إسرائيل) التي يتصورها “ترامب”.
وسوف تتغير القواعد الأوسع للمجتمع الدولي بالضرورة، ومن المرجح أن تصبح القوة العسكرية والاحتلال هما الحاكمان في نهاية المطاف.
وسيتم تقويض القواعد التي تعاقب على استخدام القوة لتغيير الحدود مرة أخرى، وسوف ينتقل العالم بعيدا عن القواعد الموضوعة بعد الحرب العالمية الثانية لمنع التصعيد الإقليمي وتقليل فرص نشوب نزاعات كبيرة.
وبينما ينظر المؤرخون إلى الوراء في أوائل القرن الحادي والعشرين، فقد يرون أن حل الدولة الواحدة هو مجرد وجه واحد لاتجاه أوسع نطاقا تآكل فيه النظام العالمي الدولي القائم على المؤسسات، الذي نشأ من رحم الحروب العظمى في القرن العشرين.
اضف تعليقا