يقف أغلب جيلنا متشككا حيال أي صراع في المنطقة والعالم، ويرى كل الأطراف فيها لا تستحق الرهان، ويجتهد في استدعاء ما يجعل كل طرف كالآخر، فهو يعلم أن ضريبة دعم طرف على حساب آخر ستكون غالية، ويعلم أيضا أن لاهذه المرة سهلة للغاية.

لكن قبل سنوات الربيع العربي، كانت ضريبة تبني مواقف واضحة متحيزة حيال أي حدث تبدو كبيرة وغالية، كانت كلمة لا في وجه نظام حاكم أو ظاهرة اجتماعية تتطلب شجاعة فائقة، وكانت القدرة على بناء رؤية مميِزة تدعم طرفا معلوما في معادلة، أمرا يتطلب وعيا وإقداما كبيرا.

لم يتخلّف جيلنا عن التفاعل مع الأحداث بشكل طبيعي، فانقسمنا أبناء الربيع العربيإلى دعم كتل صلبة معروفة، إسلامية وعلمانية، وأصبح من السهل أن تصنف اتجاه أي شاب ثوري فور زيارة صفحته الخاصة بأي من مواقع التواصل.

كانت الفاجعة الأكبر حين لم نجنِ من تلك المراهنات سوى دفع ضريبة مواقف أصحابها، مواقفهم التي لم نكن جزءا من تشكيلها؛ حتى أصبحت خياراتنا بالأمس عبئا يحاول كلٌ منا أن يخلعه عن نفسه في كل مناسبة كيلا يعيّر بها.

أورثت تلك التجربة عند أغلب نخبة جيلنا خوفا من المراهنة على أحد من جديد، أصبح صعبا على أكثرنا أن يثق بطرف معادلة ليس مطلعا على كافة كواليس تشكيل قراراه.. هذا أمر إيجابي وعظيم، لكن التمادي فيه يحوّله من حاسة إلى حساسية.

إن ما وصلنا إليه الآن لا يختلف حقيقة عن الجيل العجوز الذي ندعي الثورة على قيمه، نجتهد في كل صراع كي نجعل الحياد موقف الأصحاء المترفعين عن أن يكونوا ضمن قطيع، وأننا نضع أنفسنا فوق الصراعات نفسها، نقف في زاوية حكم الراية بالحياد والتشكك.

إن النأي بالنفس عن كل صراع ما هو إلا تراجع عن غاية الربيع العربي وثورات شبابه، لذا فإن علينا أن نتحلى بالشجاعة التي تتطلب وعيا كافيا كي نقول نعم حين تكون في موقف الشجاعة، ولا حين تكون في الموقف ذاته، فالشجاعة ليست أبدا في التزام موقف لا يتغير، والثبات شيء يختلف عن الجمود.

(الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولات تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة“)