لطالما كانت مشكلة المخدرات معضلة أمام العديد من الدول، وهو ما دفع بعضها إلى التعامل بمنتهى القسوة سواء مع المدمنين أو التجار والمروجين، وربما قد ساعدت هذه القسوة في الحد من انتشار الظاهرة بتلك البلاد، وربما كانت هذه الصرامة في دول أخرى في القوانين فقط، في حين أن البعض الآخر التجأ إلى مواجهات أخرى وتوفير مراكز العلاج المتخصصة، وفي بلدان أخرى، وخاصة دول العالم الثالث، ربما افتقرت حتى لوجود مراكز لعلاج المدمنين.. ولكن رغم المحاولات.. فإن هذه المشكلة قد استوحشت في السنوات الأخيرة وزادت نسبة مدمني المخدرات في ظل وجود وسائل التوعية والتحذيرات التي طالما تبثها وسائل الإعلام.

وفي ظل هذه الجهود الدولية الفاشلة في الأغلب يأتي طبيب “مدمن سابق” ليتمكن بمفرده من معالجة 80% من المدمنين الذين يترددون على عيادته في قرغيزستان.

فقد تعاطى الطبيب “جنبك نزارالييف” الهيروين في بلده قرغيزستان، وذهب إلى كولومبيا ليتعاطى هناك الكوكايين، وسافر إلى أكثر من 40 دولة ليحصل فيها على المخدرات بسعر زهيد، ولكن بعد كل هذه المعاناة، لم يعد الاستمرار محتملا؛ فقرر التوقف والبدء من نقطة جديدة يتخلص فيها من هذا الاستعباد.

ويؤكد “علييف” ذلك الطبيب الذي بلغ الـ 42 من عمره، أن بإمكان أي مدمن، مهما كانت حالته شديدة، أن يثق به؛ فهو من واقع خبرته الشخصية “كمدمن متعافي” يعلم كيف يعالج المدمنين، بالإضافة إلى كونه قد أعد خلطة دوائية خاصة به، عبارة عن مزيج من عدد لا يقل عن 100 نوع من الأدوية، تخلص المدمن من السموم في المرحلة الأولى “مرحلة الانسحاب”.

وهناك في تلك البلد الجبلية الفقيرة التي جعلها القدر ممرا لنقل مخدرات الأفغان الرخيصة إلى روسيا، وكذلك إلى دول أخرى في أوروبا وآسيا الوسطى، تقع تلك العيادة الصغيرة في “بشكك” عاصمة قرغيزستان، ورغم أنها عيادة صغيرة لا تتسع سوى لـ 35 مريضا فقط، فقد تحولت لبصلة للمدمنين الراغبين في التعافي من مختلف الدول، فيصطف أمام عيادته لتلقي العلاج مرضى من روسيا وقازاخستان وجورجيا، ومهاجرين من الاتحاد السوفييتي السابق إلى الولايات المتحدة، وألمانيا وإسرائيل وقبرص.

ولم يكن “علييف” هو الطبيب الوحيد أو الأول الذي توصل إلى تركيبة دوائية أطلق عليها المتعافُون من مرضاه “خلطة سحرية”، للتخلص من الأعراض الأولى للانسحاب على مستوى الاتحاد السوفييتي السابق عام 1991، فقد أقيمت هناك العديد من المراكز الخاصة لعلاج الإدمان، إلا أنه من حقق شهرة واسعة لنجاحه بعلاج المدمنين بنسبة كبيرة تتخطى الـ 80%.

ويقول “علييف”: “لقد تخلصت من كابوس الإدمان الآن، وقد مر علىَّ أكثر من ثلاث سنوات لم أتناول أي مخدر أو كحوليات أو حتى السجائر”، ويرى أنه من المهم إعادة دمج المدمن المتعافي في الحياة الاجتماعية، لإعادة بث احترامه لذاته، والإعلاء من مستوى طموحه، حيث إن تعافي الإنسان من الإدمان يخلق منه شخصًا جديدًا يعود بعد عملية تطهير.

ويشير إلى أنه قد عالج ما يزيد عن 15 ألف مدمن، و80 % منهم لم يعودوا إلى الإدمان مرة أخرى خلال الثلاث السنوات الأولى للعلاج.. ولكن إن كانت هذه النسبة حقيقية، فقد يكون هذا الطبيب قد قام بطفرة في عالم علاج الإدمان، حيث إن نسبة المتعافين في العالم بكل سبل العلاج لا ينجح منها إلا حالة من كل خمس حالات، وذكر أن الحكومة الأمريكية سعت لمعرفة ودراسة أساليبه في العلاج، بعد أن عرضت عليه منحة قدرها مليون دولار، وكان ذلك في العام 1995.

وربما قد يصيبك الاندهاش وأنت ترى مشهد هذين الرجلين اللذين يقفان بغرفة معتمة بالعيادة، يقفان تحت مصباحين شديدي الإضاءة، ويرتديان ملابس بيضاء، وقد شد جسمهما إلى الخلف، وترتجف أذرعهما من شدة الألم، ويتعرضان لنوبة شديدة من التوتر، ويظهر في هذا المشهد الطبيب “علييف” وهو يحوم حولهما – وهما في حالة تشبه الإغماء أو الغياب عن الوعي ولكنهما ليسا كذلك – ويردد جملة على مسامعها: ” أنتما من بني البشر، وعليكما الافتخار بذلك، وليس هناك قوة على وجه الأرض بمقدورها أن تعيدكما إلى تعاطي هذه القذارة مرة أخرى، أنتما تمتلكان من القوة والشجاعة ما يجعلكما قادرين على ذلك، الآن سيتبدل ماضيكما الذي لوثته المخدرات لحياة جديدة”، ويظل يكرر تلك العبارة وهو يصفق بيديه أثناء دورانه، ويطرق الأرض بحذائه في حركة يبدو منها وكأنه يحاول حفر تلك الكلمات بأعماق عقليهما، حتى يسقط المرضى من الإرهاق والتعب فوق مراتب ناعمة، ويطلق على هذا الإجراء “العلاج بإجهاد الطاقة”، وهي آخر مرحلة علاجية في الأسابيع الأولى.

وبعد هذه المرحلة تهدأ الأعصاب، ويخف التوتر، ويسترخي المرضى، ويتأهبون لعودتهم لمنازلهم بعد فترة قصيرة، بعد أن تكون صفحة الإدمان قد انطوت من حياتهم .

وقد انطلق د. “علييف” إلى نقطة أبعد من مجرد معالجة المدمنين في قرغيزستان، حيث أسس في عام 2001، حركة لمكافحة الإدمان، تحت عنوان “عقل بلا مخدرات”، وبدأ مشروع دولي  MayaPlanet، وكان الهدف منه هو توصيل رسالة للعالم للوقاية من الإدمان، وكشف الستار عن حياة مدمني المخدرات، وإفساح المجال للبشر جميعا، بسماع شهادات المدمنين المتعافين، سواء كان ذلك منهم أنفسهم أو من أسرهم، حتى تتهاوى تلك الخزعبلات التي تنتشر عن المخدرات على المستوى العالمي، ولكي يشجع الشباب على مستوى العالم على ممارسة الحياة الصحية، واختير رئيس البلاد عسكر أقاييف، كرئيس شرفي للحركة، بعد أن تحمس لها، كما أصبح  كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة، أول عضو شرفي فيها في العام التالي على تأسيسها عام 2002.

وفي 2 فبراير عام 2012، تحولت الحركة إلى رابطة عالمية تحت نفس الاسم، وقد استجابت الرابطة لمبادرة الإدارة الروسية لمكافحة المخدرات، ودعت الخبراء من دول العالم أجمع لسماع آرائهم حول هذا الأمر، وعقد مؤتمر في 25 أبريل 2012، حضره أكثر من 200 ألف مراقب، وقد أرسلت النتائج المترتبة على هذا المؤتمر إلى السلطات المختصة .

كما نظم مؤتمر آخر في 26 يونيو، شارك فيه كبار الزعماء السياسيين و الدينيين وكذلك المثقفين، الذين كتبوا بيانًا موجهًا إلى شباب العالم، وخاصة مدمني المخدرات، تحت عنوان “نظرة جديدة في مكافحة المخدرات والأساليب المبتكرة للوقاية منه”، وكان من بين هؤلاء  الدالاي لاما الرابع عشر، وجابرييل جارسيا ماركيز، ورئيس وزراء أستراليا جوليا جيلارد، والسياسية الروسية فالنتينا ماتفيينكو، واتخذ هذا اليوم يوما عالميا لمكافحة المخدرات، وكان أكبر مؤتمر تابعه 850 ألف شخص عبر الإنترنت، كما حضره 72 شخصية عالمية من الرياضيين والسياسيين والخبراء.

وبرغم كل هذا النجاح، فإن الانتقادات ظلت توجه إليه، ويقول د. “علييف”: “لا أسمع الانتقادات التي توجه إليَ صراحة، ولكن اسمي واسم عيادتي من الأشياء غير المحببة هنا”، وربما عبر التساؤل الذي عرضه أحد ضباط الشرطة السبب وراء هذا الانتقاد، حيث قال: ” لماذا يعالج د.”علييف” الأثرياء الأجانب فقط، ولا يلتفت إلى مواطني قرغيزستان الفقراء” .

ويرر د. “علييف” ذلك بأن متوسط تكلفة العلاج تبلغ نحو 4500 دولار، في حين أن الواقع القاسي في قرغيزستان يجعل متوسط دخل الفرد نادرًا ما يصل إلى 50 دولارًا شهريًّا، في حين قد تتكلف جرعة الهيروين الأفغاني المهرب من طاجيكستان المجاورة دولارين أو أقل من ذلك، في دولة يصل عدد سكانها إلى 5 ملايين نسمة، ويصل عدد مدمني المخدرات فيها إلى ثمانين ألفًا و70% منهم يدمنون الهيروين، وهذا الإحصاء غير ثابت، حيث إن العدد في تزايد مستمر.