ثمة غموض كبير يكتنف مصير التطبيع بين المغرب وإسرائيل، فيبدو أن طابع المقايضة الذي حكم هذا المسار، منذ توقيع اتفاق الرباط، جعل العلاقة محكومة بكثير من الحذر، على الرغم من التضخيم الإعلامي الذي رافق الاتفاقات التي أبرمت بين الطرفين.
فالرباط دخلت هذا المسار، بتعهد أمريكي، بطيّ ملف الصحراء بشكل نهائي، وسلطة الاحتلال الإسرائيلي هي الأخرى أبدت كثيرًا من التحمس للمضي في هذا المسار، وتعهدت بأن تقوم بدور كبير عبر اللوبي اليهودي في واشنطن من أجل الضغط على إدارة جو بايدن بالخروج من الضبابية والتردد في الموقف من النزاع حول الصحراء. ولذلك، لم يحصل تقدم كبير في مسار التطبيع، بسبب منطق المقايضة التي التزمته الرباط، فسقّفت حجم تقدمها في هذا المسار، بجدية واشنطن وتل أبيب في الوفاء بالتزاماتهما تجاهها.
في البدء، وبعيد الإعلان عن اتفاق الرباط للتطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، تم توقيع أربع اتفاقيات في المجال الاقتصادي والسياحي والتجاري، الأولى، الإعفاء من إجراءات التأشيرة بالنسبة لحاملي الجوازات الدبلوماسية وجوازات الخدمة، وتعلقت الثانية بمذكرة تفاهم في مجال الطيران المدني، فيما شملت الثالثة مذكرة تفاهم حول الابتكار وتطوير الموارد المائية. أما الرابعة، فكانت في المالية والاستثمار، وتخص إنعاش العلاقات الاقتصادية بين البلدين من خلال التجارة والاستثمار، والتفاوض بهدف تجنب الازدواج الضريبي واتفاقية إنعاش وحماية الاستثمارات واتفاقية المساعدة الجمركية.
من الناحية العملية، لم يتقدم المسار كثيرًا، ولاحظ المراقبون أن الرباط حذرة، ولا تريد التوغل في التطبيع، فمضت في خطوات جد محدودة في المجال السياحي، واتجهت نحو استثمار هذه العلاقة لتطوير خبرتها الأمنية والعسكرية، فضلاً عن إحداث اختراق مهم في ملف الصحراء، وعلقت أي تقدم جدي في مسار التطبيع، بخطوات مماثلة من قبل واشنطن وتل أبيب، لمساعدة المغرب على إنهاء النزاع حول الصحراء.
الجانب الإسرائيلي سجل ملاحظاته بشأن تردد الرباط، وبطئها في التقدم في التطبيع، وتبنى تصنيفًا يجعل المغرب في خانة مختلفة عن خانة الإمارات في تعاطيها مع التطبيع، معتبرًا أن منهج الرباط هو الأخذ أولًا، ثم العطاء، في حين تريد إسرائيل عطاءً تكتسب به شرعية الانفكاك من الحصار والعزلة، وتتخير بعدها أي شيء يمكن أن تعطيه دون أن تربك مصالحها الاستراتيجية في المنطقة.
والحاصل أن تل أبيب مُنيت بخيبة أمل كبيرة، فلم تجد سفيرها المرتقب في الرباط (ديفيد غوفرين الذين يشغل مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي) ضمن قائمة السفراء الذين اعتمدهم الملك محمد السادس مؤخرًا، بعد أن كان يلوح في أكثر من مناسبة بقرب اعتماد السفارة الإسرائيلية في شهر ديسمبر، وفي ذلك إشارة سياسية من الرباط بأن الاتفاق الذي أبرمته مع تل أبيب برعاية أمريكية، يتضمن التزامات واضحة من الأطراف الثلاثة، وأنها لن تقف مكتوفة اليد، وهي ترى الموقف الإسرائيلي، يلعب لعبة “الحياد” في النزاع حول الصحراء، وأنه يلتزم بالمسار الأممي لحل القضية، مسايرة للموقف الأمريكي الذي يترنح بين الالتزام باعتراف الإدارة السابقة بمغربية الصحراء، وبين استثمار ورقة النزاع للضغط على الرباط، وتمطيط الصراع، وإبقائه ورقة للابتزاز السياسي.
الرباط، التي كانت تمشي الخطى في مجال التطبيع بشكل حذر ومحدود، سجلت تباطؤ الإدارة الأمريكية في الوفاء بالتزاماتها، واستثمار “الديمقراطيين” في الازدواجية والغموض، كما سجلت برود تل أبيب في هذا الملف، وعدم قيامها بأي جهد بتحريك اللوبي اليهودي في واشنطن للضغط على إدارة جو بايدن لتنفيذ التزامات واشنطن وتعهداتها في اتفاق الرباط.
تل أبيب كانت تريد مسارًا سريعًا في التطبيع، وكانت تترقب زيارة الملك محمد السادس إليها، أو على الأقل، كانت تنتظر زيارات مكثفة للوزراء المغاربة، لتثمين الاتفاقات وتوسيع أفقها، فطال انتظارها، حتى أصبحت تترقب مجرد خطوة صغيرة مثل اعتماد سفيرها في الرباط.
الشيء الوحيد الذي حصل في مسار التطبيع بعد زيارة وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لبيد، ويحمل دلالة سياسية، هو زيارة وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس للرباط، لكن المراقبين الإسرائيليين، بل وحتى الأمريكيين، يرون أن هذه الزيارة، تخدم الأجندة المغربية أكثر، حتى وإن بدت من الناحية الرمزية خادمة للإسرائيليين، بحكم صفة المسؤول الزائر للمغرب، فالرباط تضع عينها على تطوير امتلاك نظم دفاعية جد متطورة، تعينها على تطوير قدراتها في حماية المنشآت الحيوية والحساسة، والمدنية والعسكرية، فقد اقتنت مؤخرًا من إسرائيل نظام SKYLOCK المضاد للطائرات بدون طيار، الذي تصنعه شركة Skylock Systems، وحصلت على طائرات مسيرة إسرائيلية، عززت بها ترسانتها العسكرية في مواجهات تحرشات “جبهة البوليساريو” الانفصالية، ولإحداث تفوق عسكري مع غريمتها الجزائر.
الولايات المتحدة الأمريكية تنظر بقلق شديد إلى استثمار المغرب الذكي لاعترافها بسيادته على الصحراء في تطوير موقعه الاستراتيجي كفاعل إقليمي، وفي خوض معارك دبلوماسية قوية مع الكبار، لاسيما في أوروبا، إذ نجح في الضغط على ألمانيا لتغيير موقفها من النزاع حول الصحراء.
ولا يزال مستمرًا أيضًا في ممارسة كثير من الضغوط على مدريد من أجل إجبارها هي الأخرى على تغيير موقفها، كما استثمر ذلك في إدارة صراعه الإقليمي مع الجزائر، وقد قوّى من تموقعه الاستراتيجي، وعزز قدراته الأمنية والعسكرية، دون أن يتوغل في التطبيع ولا أن يقدم على خطوات مطمئنة لتل أبيب، مع الإبقاء دائمًا على خط الرجعة مفتوحًا في أي لحظة.
موقف مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي من النزاع حول الصحراء أغضب كثيرًا الرباط، لاسيما وأنه صرفه إعلاميًا في وكالة رسمية إسبانية، في لحظة توتر بين الرباط ومدريد. ويتداخل في مصدر انزعاج الرباط منه الجانب الشكلي بالجانب السياسي.
شكليًا، فقد انزعجت الرباط من جهتين، أولهما، أن مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي، حاور الوكالة بصفته سفيرًا لإسرائيل في الرباط، وهو ما يتناقض مع الأعراف الدبلوماسية، وبشكل خاص اتفاقية فيينا، إذ يفرض البروتوكول عدم إثبات هذه الصفة حتى يحصل الاعتماد، وهو ما لم يحصل بعد. وثانيهما، أن مدير مكتب الاتصال الإسرائيلي تجنب أكثر من مرة الحديث إلى وسائل إعلام مغربية في موضوع الصحراء، وفضل أن يقدم تصريحه لوكالة أنباء إسبانية، معروف ولاؤها إلى جهات تعادي الموقف المغربي من قضية الصحراء.
الجانب السياسي في الموضوع يأخذ أربعة أبعاد أساسية، أولها يتعلق بالمرجعية التي انطلق منها غوفرين في تحديد مواقفه، فالرجل لم يستحضر بالمطلق اتفاق الرباط والتزامات الدول الثلاث المتضمنة فيه، فقد ظل يتحدث عن علاقات ثنائية بين البلدين، دون أن يشير إلى هذه المرجعية، وذلك حتى يبرر تنصل بلاده من التزاماتها تجاه قضية الصحراء.
أما البعد الثاني، فيرتبط بموقفه من الصحراء، فبدلًا من أن ينحاز للالتزامات التي وقعت عليها بلاده في اتفاق الرباط، والتي تنص صراحة بسيادة المغرب على صحرائه، تحدث بلغة هي أقرب إلى لغة إسبانيا المترددة، التي تطرح فكرة الحوار بين الأطراف لإيجاد حل سلمي ينهي الصراع، دون أي إشارة إلى سيادة المغرب على صحرائه ولا حتى إلى مبادرته للحكم الذاتي وكونه تشكل الإطار الصحيح للحل النهائي للصراع.
البعد الثالث في هذا الجانب، يتعلق بمحاولته إعفاء الولايات المتحدة الأمريكية من التزامها تجاه المغرب، مع أن الاتفاق الثلاثي يتضمن التزاماً لتل أبيب وواشنطن بسيادة المغرب على الصحراء.
والبعد الرابع هو رفضه التعليق على اتهامات المغرب باستخدام البرنامج الإسرائيلي للتجسس “بيغاسوس”، وهو ما ترك مساحات واسعة من الشكوك حول خلفيات هذا الموقف، وهل تتطلب الشراكة، وضع المغرب في فوهة الاتهامات، أم تجريد خصومه من الأسلحة التي يستعملونها لتشويه صورته وضرب مصالحه العليا.
من السابق لأوانه -بناءً على هذه المؤشرات- الحديث عن نهاية مسار التطبيع، لكن، من المؤكد أن منهجية الرباط، لن تكون محل قبول سواء من قبل تل أبيب، ولا من قبل واشنطن، خاصة وأن تقييم الحصيلة يؤكد مراكمة المغرب للمكاسب، وحسن استثماره لاتفاق التطبيع الموقع بالرباط، حتى بدون وفاء تل أبيب وواشنطن بالتزاماتهما.
كما أن المغرب لن يتردد في أي لحظة في إدخال مزيد من البرودة في هذا المسار، إن رأى إصرارًا أمريكيًا وإسرائيليًا على منهجية الأخذ دون عطاء. لكن في المقابل، ثمة تخوف أمريكي إسرائيلي من حدوث نكوص من قبل الرباط، إذ يمكن أن يحكم هذا التغير في الموقف، بتبخر مسار تطبيعي كامل، راهن عليه الاحتلال الإسرائيلي كثيرًا لتلميع صورته وتحقيق اختراقات مهمة في المنطقة العربية.
اضف تعليقا