يُقترن دائماً مصطلح الدولة مع مصطلح المؤسسات، وقد تنتفي صفة الدولة عند سقوط مؤسساتها، وفي مصر السيسي هُمشت المؤسسات لدرجة أنها أصبحت مجرد أداة في يد النظام العسكري، يستخدمها لترسيخ أركانه وفرض مزيد من السيطرة على كل مجالات الحياة في البلاد.

في قضية مقتل الخبير الاقتصادي أيمن هدهود، فقد فقدت كل مؤسسات الدولة المصرية هويتها أمام الحادثة، وسُخرت لتخفي الجريمة بدأً من الأجهزة الأمنية الجاني الأول والمتهم الرئيسي مروراً بأعضاء الجريمة “النيابة والقضاء”، وحتى المشتركين في واقعة القتل من الطب الشرعي، وإدارة مشفى الأمراض النفسية التابعة لوزارة الصحة.

أُطلق عليه ريجيني المصري للتشابه الكبير بين ما حدث معه وما حدث مع الشاب الإيطالي الذي قتل على يد الأمن المصري، وألقيت جثته على أطراف العاصمة المصرية القاهرة، لكن ما اختلف في قضية هدهود، هو تضارب البيانات التابعة لجهات حكومية لتكشف لنا عن جريمة مكتملة الأركان، فكيف تواطأت كل مؤسسات الدولة لتخفي الجريمة ولينجو القاتل؟!.

قصة هدهود..وتناقض البيانات

يوم الخميس الماضي بتاريخ 23 يونيو/ حزيران أيدت محكمة جنايات القاهرة الجديدة، قرار نيابة مدينة نصر ثان بإغلاق التحقيقات في القضية 733 لسنة 2022 المعلقة بوفاة الباحث الإقتصادي أيمن هدهود، وكذلك قضت برفض الدعوى المقامة ضد مستشفى العباسية للصحة النفسية.

بالرجوع للوراء قليلاً، وبالتحديد في فبراير/شباط من العام الجاري، تم القبض على أيمن هدهود الباحث الاقتصادي، الذي أتم دراسته بالجامعة الأمريكية، وقد عرفت أسرته بطريقة غير مباشرة باحتجازه بإحدى مقرات الأمن الوطني بالقاهرة.

ومنذ ذلك الحين ظل مصير هدهود مجهولاً، حتى علمت أسرته بنبأ وفاته أيضاً بطريقة غير رسمية في مستشفى للأمراض العصبية والنفسية بعد شهر من اختفائه.

يروي عمر هدهود شقيق أيمن أنه عندما تم استدعاؤه لاستلام جثمان أخيه، أنه رأي كسور في الجمجمة وكذلك بعض علامات التعذيب على جسد الضحية، وبشكل تلقائي حاول تصوير الجثة لتكون دليل على ذلك لكن سلطات المشفى قاموا بمنعه و أجبروه على إزالة الصور التي التقاطها.

أما من جهة قوات الأمن فقد نفت أقسام الشرطة وجود أيمن لديها وأصدرت بيان “بعد إعلان الوفاة” أنها قامت باحتجازه قبل الوفاة بأربعة أيام بسبب مزاعم إتيانه بتصرفات غير مسؤولة ومن ثم تم إيداعه في مستشفى الأمراض النفسية.

وهنا حدث تضارب بين بياني الشرطة التي أقرت باحتجاز الضحية، بعدما نفت ذلك، وحتى وإن كانت محقة فلم تتخذ الإجراءات الواجب تطبيقها في تلك الحالة من السماح لأهل هدهود بزيارته والسماح له بلقاء محاميه بل اكتشف أهله وفاته في المشفى دون أن يخبرهم أحد بمصيره.

تواطؤ مكتمل الأركان 

قال البيان الصادر من وزارة الشرطة أنه تم القبض على المواطن أيمن هدهود “1 مارس” قبل وفاته بأربعة أيام “5 مارس/آذار” أي أنه ظل محتجر لديهم طبقاً لتلك الرواية 4 أيام كاملة، ولم تبلغ الشرطة ذويه بوجوده لديهم.

قال الأمن الوطني المصري أنه تم القبض علي أيمن بسبب أعمال غير متزنة، بعد أن قام حارس عقار بإبلاغهم أن الضحية حاول أن يقتحمه وهو يهذي باسم أحدى السيدات والتي هي صاحبة هذا العقار.

التضارب في ذلك التصريح لا يخفى على عاقل، حيث أن الشرطة ليس لديها محضر بتلك الواقعة ولم تذكر اسم تلك السيدة وهي مجهولة حتى الآن في القضية، إضافة لذلك فما علاقة الأمن الوطني بتلك الحادثة؟!.. فمن المعروف أن الأمن الوطني له علاقة بجرائم أمن الدولة وقضايا الإرهاب ولا دخل له بمثل هذه الوقائع.

التضارب الماضي يدل على جريمة تحاول أن تخفيها الشرطة بعدما ظهرت للعامة عن طريق مواقع التواصل الاجتماعي، وقد  تواطأ الاعلام المصري كعادته في نشر تداعيات تلك الجريمة.

أما من ناحية القضاء الذي أصدر حكماً بحفظ القضية كمثيلتها، فقد انتدب قاضياً واحداً للنظر في ملابسات القضية التي حاولت اخفائها النيابة العامة، وفي مثل تلك القضايا لا ينتدب قاضياً بل أكثر ولكن كل الأمور كانت تسير في نصابها من أجل حفظ القضية.

الطب الشرعي أيد الوفاة بتاريخ مغلوط وهو 11 إبريل أي بعد الوفاة بأكثر من شهر على وفاته، وهذا دليل على محاولة إخفاء الجريمة أيضاً، بل تضاربت التقارير حول وفاته بسبب فيروس كورونا، وبين وفاته بأزمة قلبية.

أما من جهة مشفى العباسية التابع لوزارة الصحة المصرية، فقد أصدر تصريح بدفن هدهود في مدافن الصدقة قبل وصول أهله إليه، وهنا يطرح سؤال إذا كان هذا الشخص معلوم وغير مجهول فلماذا يخرج مثل ذلك التصريح الذي يخرج دائما للمجهولين؟!.

الخلاصة أن الجريمة مكتملة الشرطة قامت بالقتل، ولم تحقق النيابة في القضية بالشكل المطلوب، وتغاضت عن آثار التعذيب، ولم ينتدب القضاء غير قاضياً واحداً من أجل إغلاق القضية وحفظها، ولم يكشف الطب الشرعي عن حقيقة سبب الوفاة التي قال عنها أخيه، ولم تبلغ المستشفى أهل الضحية وحاولت إخفاء الجريمة بسرعة دفن هدهود، ولم يتحدث الإعلام عن كل هذه الملابسات.. هنا تواطأ القضاء والإعلام والطب الشرعي والنيابة والمشفى ووزارة الصحة.. هنا أخفى الجميع الجريمة.. هنا مصر العسكر!.

 

اقرأ أيضاً : صور جديدة تكذب رواية النيابة المصرية تظهر آثار التعذيب على جثمان “هدهود”