العدسة – منصور عطية:

مِحَن تتلوها مِحَن يتعرض لها مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في العاصمة السورية دمشق، فلم يكتفِ النظام بما يعانيه على مدار سنوات منذ اندلاع الثورة في 2011، حتى قرّر قبل أيام أن يمحوه من الوجود.

اليرموك، أكبر المخيمات الفلسطينية، والملقب بـ”عاصمة الشتات”، كان يعيش فيه نحو 170 ألف شخص، من فلسطينيين وسوريين، قبل أن تجبر الحرب غالبيتهم على مغادرته، ابتداءً من عام 2012.

اليوم، وبعد سيطرته على الغوطة الشرقية، أبرز معاقل المعارضة قرب دمشق لسنوات، أطلق النظام السوري حملة عسكرية هي الأعنف على المخيم، العملية العسكرية تتضمن، إلى جانب اليرموك، كلًا من الحجر الأسود والقدم والتضامن، وهي الأحياء التي يتواجد فيها تنظيم الدولة “داعش”، لكنها تأوي مدنيين لم يتمكنو من المغادرة بسبب الحصار.

ويقول المرصد السوري لحقوق الإنسان إن عمليات جيش النظام السوري تُدار بدعم من مستشارين روس، وبمشاركة مئات العناصر الفلسطينية الموالية لدمشق، وهي نفسها العناصر التي شاركت بحصار المخيم.

كما يقول المرصد إن عشرات قتلوا من الطرفين خلال المعارك، التي بدأت الخميس الماضي، ولا تزال مستمرة إلى الآن، وأدى القصف المتواصل إلى تدمير نحو 90 % من أبنيته وفق مصادر محلية، نقلت أيضًا أنه تم تدمير مستشفى فلسطين بصورة كاملة، وهو المستشفى الوحيد الذي كان يقدم الخدمات الطبية الطارئة إلى أهالي المخيم.

وكشفت تقارير إعلامية، أنّ أبرز الفصائل الفلسطينية التي تقاتل مع قوات النظام في المعارك الدائرة بمخيم اليرموك، هي: ميليشيات “القيادة العامة” بقيادة أحمد جبريل، إضافة إلى ميليشيات “فتح الانتفاضة”، و”فلسطين حرة”، و”لواء القدس”.

رمز اللاإنسانية

يمتد اليرموك على مساحة 3 كيلومترات مربعة، وتطور على مدى عقود ليصبح منطقة سكنية بكثافة عالية، وأحد أهم المناطق التجارية في سوريا، على رغم ذلك، احتفظ بتسمية “مخيم” على الدوام.

وبعد أن كان يأوي عشرات الآلاف، بقي فيه اليوم حوالي ستة آلاف شخص، بحسب تقديرات الأمم المتحدة، فيما تتحدث عن فرار 140 ألف فلسطيني وآلاف السوريين.

في سبتمبر 2012، شهد المخيم معارك بين فصائل معارضة وقوات النظام، وانقسمت المجموعات الفلسطينية بينهما. ونهاية العام نفسه، قصف النظام السوري المخيم جويًا، ما أدّى إلى موجة نزوح ضخمة.

إثر تلك، سيطرت فصائل معارضة على المخيم، وفرضت قوات النظام وحلفاؤه حصارًا عليه، أدَّى إلى أزمة إنسانية حادة طالت آلاف المتبقين فيه، وجرى تداول صور وتقارير حول أطفال يأكلون الورق وعائلات تعيش على أكل الحيوانات، فضلًا عن تفشي مرض التيفوئيد.

وفي يناير 2014، انتشرت صورة نشرتها الأمم المتحدة، تظهر حشودا كبيرة تخرج سيرًا على الأقدام بين الأبنية المدمرة بانتظار الحصول على المساعدات، ولا تزال تعتبر من أكثر الصور تعبيرًا عن مآسي المدنيين في النزاع.

وتعليقًا على الصورة، آنذاك، قال “كريس غانيس”، المتحدث باسم وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين، “أونروا”: “اليرموك كلمة جديدة تضاف إلى قاموس لا إنسانية الإنسان تجاه أخيه (الإنسان)”.

وفي 2015 هاجم داعش المخيم، وطرد الفصائل المعارضة وأحكم سيطرته على الجزء الأكبر منه، فيما سيطرت هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقا) على أجزاء أخرى، وأدّى ذلك إلى موجة نزوح جديدة، وفر السكان بشكل أساسي إلى بلدات قريبة في جنوب دمشق، منها يلدا وببيلا.

وأبدت المنظمة الدولية في بيان الأسبوع الماضي “قلقها الشديد إزاء مصير المدنيين”، مع استمرار “القصف وإطلاق قذائف الهاون والاشتباكات العنيفة داخل المخيم وفي محيطه”، كما نشرت بيانًا جاء فيه: “الوضع الإنساني في اليرموك صعب جدًا منذ فترة طويلة ولا يزال يتدهور سريعًا”.

قضية اللاجئين وصفقة القرن

وربما يتعدى الهدف من تدمير مخيم اليرموك مجرد السيطرة عليه وطرد تنظيم “داعش” و”جبهة النصرة” منه، فهو يُوصف بـ”عاصمة الشتات الفلسطيني”، ويشكل جزءًا مهمًا من الذاكرة والتاريخ الفلسطينيين، ولطالما كان رمزًا لقضية اللاجئين التي يستهدف الاحتلال الإسرائيلي تصفيتها، ضمن مخطط صفقة القرن.

اللاجئون، القدس، المستوطنات، الدولة.. 4 أبعاد رئيسية شكلت ما يسمى قضايا الحل النهائي وهي تلك القضايا المعلقة للمرحلة النهائية من مراحل التفاوض الفلسطيني الإسرائيلي التي بدأت منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 مرورًا بأوسلو 1993 ولا تزال مستمرة حتى الآن.

وبما أنّ مسألة إعلان قيام دولة فلسطينية حاليًا أصبحت سرابا، وثبتت المستوطنات جذورها الخبيثة ضاربة عرض الحائط بكل القرارات الدولية، واعترفت الولايات المتحدة بأن القدس عاصمة موحدة لإسرائيل، بدت قضية اللاجئيين هي العقبة الحالية أمام مخطط صفقة القرن الهادف لتصفية القضية الفلسطينية من أساسها.

من هذا المنطلق، يرى كثيرون أن الهدف الرئيس من حملة النظام السوري الحالية ضد مخيم اليرموك يأتي في سياق محاولة فرض واقع جديد بالقوة تُمحى فيه قضية اللاجئين وحق العودة من الوجود، باعتباره الرمز الأبرز في هذا الشأن.

كما تتزامن العملية العسكرية تلك مع مسيرات العودة الكبرى التي يخوض بها الفلسطينيون في قطاع غزة معركة أخرى يتشبثون خلالها بأرضهم.

“إنهم يبتكرون طرقًا جديدة وحيوية لانتفاضة من نوع آخر، واستراتيجية تهدف إلى تسخين الحدود لإلغاء صفقة القرن والتعكير على سياسة التقارب بين الدول العربية وإسرائيل”.. هكذا علق الخبير الإسرائيلي في شؤون الإعلام والأمن “يوني بن مناحيم” على مسيرات العودة.

إسرائيل ومن ورائها أمريكا تبدو مُصِرّة على تنفيذ الصفقة وتعبر عن ذلك مرارًا وتكرارًا، ففي مارس قالت للسفيرة الأمريكية في الأمم المتحدة “نيكي هايلي” إنّ “اقتراح خطة السلام بين إسرائيل والفلسطينيين اكتمل تقريبا”.

وفي فبراير أبلغ مبعوث الرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط “جيسون جرينبلات” قناصل دول أوروبية معتمدين في القدس، بأنّ صفقة القرن “في مراحلها الأخيرة”، ونقلت تقارير إعلامية عن أحد المشاركين في اللقاء -دون ذكر اسمه- أن “جرينبلات” في معرض حديثه عن صفقة القرن أكد للمسؤولين الأوروبيين أنّ “الطبخة على النار ولم يبقَ سوى إضافة القليل من الملح والبهارات”، على حد تعبيره.

الحديث عن صفقة القرن يعود إلى عام 2010، حين أنهى مستشار الأمن القومى الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط “جيورا أيلاند”، عرض المشروع المقترح لتسوية الصراع مع الفلسطينيين في إطار دراسة أعدها لصالح مركز “بيجين-السادات” للدراسات الاستراتيجية، بعنوان: “البدائل الإقليمية لفكرة دولتين لشعبين”.

الدراسة التي نشرت تفاصيلها تقارير إعلامية في حينه، تقوم على اقتطاع 720 كيلومترًا مربعًا من شمال سيناء للدولة الفلسطينية المقترحة تبدأ من الحدود المصرية مع غزة، وحتى حدود مدينة العريش، على أن تحصل مصر على مساحة مماثلة داخل صحراء النقب الواقعة تحت سيطرة الاحتلال الإسرائيلي، بينما تخلو الضفة الغربية بالكامل للاحتلال.

تاريخ اليرموك

تذكر المصادر الفلسطينية أن المخيم أنشئ بين سنوات 1954 و1957 حيث قامت الهيئة العامة للاجئين الفلسطينيين التابعة لوزارة الداخلية باستئجار الأرض التي كانت في ملكية آل الحكيم، ووزعتها على اللاجئين.

ترجع جذور جل السكان إلى منطقة الجليل والمدن الساحلية بالأرض المحتلة، ومنطقة بحيرة طبرية وسهل الحولة وحيفا وعكا والناصرة وصفد، إلى جانب اللد والرملة والخليل والقدس المحتلة، وقد أطلق السكان على عدد من أحياء وحارات المخيم أسماء مناطق فلسطينية.

شكلت عام 1964 بلدية لإدارة شؤون المخيم، وتقديم الخدمات الضرورية للاجئين بتنسيق مع الأونروا والهيئات الرسمية السورية المعنية.

وفشلت كل الجهود التي بذلت لتحييد المخيم عن الصراع الدائر في سوريا منذ اندلاع الثورة في مارس 2011.

وزاد الحصار المتواصل الذي فرضه نظام الأسد من معاناة أهل المخيم، حيث قتل الجوع كثيرين وخاصة من الأطفال، كما انتشرت الأمراض المرتبطة بسوء التغذية داخل المخيم، إلى جانب ارتفاع كبير في أسعار المواد الأساسية.

ودفع القصف المتواصل للمخيم عشرات الآلاف للنزوح إلى المناطق المجاورة هربًا من القتل.

اعتمد سكان المخيم على الأعمال التجارية البسيطة والمتوسطة؛ حيث انتشرت المحلات التجارية والمطاعم والمعاهد التعليمية والحافلات الصغيرة وسيارات الأجرة. وعانى السكان لعقود طويلة من البطالة والفقر، إلى جانب ضعف الخدمة الطبية.