العدسة – جلال إدريس
لم يكن يتخيل أحد أن يصل الفُجر في الخصومة السياسية إلى حد التفريق بين الأزواج، لكن هذا ماقامت به بالفعل دول الحصار العربي في أزمتها مع دولة قطر، إذ أحكمت كل من السعودية والبحرين والإمارات ومصر، حصارها على قطر برًّا وبحرًا وجوًّا، وفرقت من خلاله بين الأسر والعائلات، ومنعت الزيارات وقطعت الأرحام بحجة قطع العلاقات.
ومنذ عام تقريبًا، فرضت حكومات المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة ومصر قيودًا شديدة على العلاقات مع قطر كجزء من النزاع السياسي، حيث تم في غضون 24 ساعة، الرحلات إلى أجل غير مسمى، وأغلقت الحدود مع تفاقم النزاع إلى حد “أزمة”، ما أضرّ بحياة العديد من الأشخاص الذين يعيشون في هذه البلدان.
أما بالنسبة للآلاف من العائلات والأفراد، فلم تعد الحياة كما كانت عليه من قبل؛ ففي منطقة يتألف فيها النسيج الاجتماعي من الزواج والعلاقات عبر جميع البلدان، تمزقت العائلات من الجنسيات المختلطة، واضطر الطلاب إلى وقف تعليمهم، وفقد آخرون وظائفهم، ومنع حُجاج قطر من الوصول إلى مكة والمدينة بالمملكة العربية السعودية، وقد تأثر العمال المهاجرون أيضًا، وغالبيتهم من ذوي الدخول المنخفضة، بشكل سلبي، بارتفاع أسعار المواد الغذائية نتيجة للأزمة السياسية.
وبحسب تقرير لـ”منظمة العفو الدولية”، فإنه وبعد مرور عام، لم يتحسن الوضع، ولا يزال سكان المنطقة يواجهون مستقبلًا مجهولًا؛ ولا تزال العائلات تنتظر لمّ شملها بأحبائها، ولا يزال الأطفال ينتظرون عودة آبائهم إلى منازلهم بانتظام، لا يزال الطلاب ينتظرون مواصلة تعليمهم؛ ولا يزال الحجاج في انتظار الوصول إلى مكة والمدينة.
فيما كشفت السلطات القطرية في إحصائيات رسمية لها، أن ما يقرب من 8 آلاف سعودي، وأكثر من 750 إماراتيًّا و2300 بحريني يعيشون فوق أراضيها، ينعمون بحقوقهم كافة.
حكاية زوجة قطرية وزوج بحريني
وتعد الحكايات والقصص الأسرية التي تضررت وتفرقت بسبب الحصار الخليجي على قطر، كثيرة ومتنوعة، غير أن “منظمة العفو الدولية” سلطت في تقرير لها الضوء على قصة “سناء – الاسم المستعار” الذي اختارته للحديث عن قصة “زوجة قطرية” فرض عليها الحصار أن يفرق بينها وبين زوجها ظلمًا وقهرًا.
ولا تعد قصة “سناء” -وهي معلمة قطرية متزوجة من رجل بحريني، ولديها طفلان (18 و10)، وكلاهما من ذوي الاحتياجات الخاصة- سوى واحدة من العديد من العائلات التي تضررت من هذا الوضع.
وتقول “سناء”: عندما تزوجت منذ 23 عامًا، كنت أرغب في حياة عائلية يسودها الاستقرار والهدوء، فقد وقعت في حب زوجي لأنه كان لطيفًا ومليئًا بالحب والحنان، ولم يكن هناك فرق بيننا على أساس أنني قطرية، فشعبنا شعب واحد.
وتابعت: لقد استقر بنا الأمر في البحرين؛ لأن هذا هو المكان الذي كان يعمل فيه، وقمنا بتكوين أسرة جميلة معًا، ورزقت بطفليّ بعد ثماني سنوات، وكلاهما من ذوي الاحتياجات الخاصة، فحالتهما لديها تحدياتها، لكنني أستطعت أنا وزوجي تجاوز ذلك معًا، فنحن نحبهما ونهتم بهما، ونحرص على أن يعيشا حياة آمنة ومستقرة.
وتضيف وبعد الاضطرابات التي شهدتها البحرين في 2011، كان علينا اتخاذ قرار صعب، لذلك قررت أن أذهب معهما إلى قطر، بينما بقي زوجي في البحرين، حيث كان يعمل هناك، وهذا ما فعلناه في عام 2012، فمنذ ذلك الحين، عشت أنا وأولادي في قطر، وفي كل أسبوع، كان زوجي يأتي في رحلة طويلة عن طريق البر (حوالي 100 ميل) لرؤيتنا، فكان ذلك أرخص بكثير من تذاكر الطائرة، التي لا يمكننا تحملها.
5 يونيو.. بداية الفراق
وبحسب “سناء” فقد اعتاد أطفالها على أسلوب معين – وهذا الأسلوب مهم للغاية بالنسبة لهم – فقد كبرا على رؤية والدهما في المنزل في نهاية كل أسبوع، فكانا (وما زالا) متعلقين به للغاية، إلا أنهم في 5 يونيو 2017، استيقظوا مثل ملايين المواطنين العرب في الخليج، على أخبار اندلاع أزمة الخليج، كان الأمر مفاجئًا وغير متوقع.
وتضيف: “لم نكن نعتقد بالتأكيد أنه سيغير حياتنا، ولكن بينما كان الواقع اليومي للحصار يضربنا، أصبحت حياتنا أشد صعوبة، وأُغلقت الحدود ولم يعد زوجي يقوم برحلات عن طريق البر، فكانت الطائرات خياره الوحيد، ولم تكن حتى الرحلات القصيرة، فعليه الآن أن يسافر لساعات طويلة عبر الكويت للوصول إلى الدوحة – وهي رحلة تستغرق 12 ساعة، وهي أغلى ثمنًا مما كانت عليه في الأصل، وهذا يعني أنه يمكنه زيارتنا مرة واحدة فقط كل أربعة أو ستة أسابيع”.
وتقول: (أصبح الطفلان يفتقدان والدهما، فهما يسألانني دائمًا عنه، لذلك أقوم أحيانًا بإجراء مكالمات عن طريق الفيديو حتى يتمكنا من رؤيته، لكن هذا لا يكفي، ويعتصر قلبي ألمًا عندما يحاول ابني البالغ من العمر 10 سنوات استعراض ألعابه التي يلعب بها في مكالمة الفيديو مع أبيه، فهو لا يعي تمامًا المشكلة، وفي بعض الأحيان يجلس أمام باب الحمام ظنًّا منه أن والده في الداخل، وسيخرج ليعانقه).
وتضيف: (لقد عشت في البحرين 17 عامًا، وكنت أعمل معلمة هناك، فالبحرين كانت موطنًا لي، لكنني أشعر الآن أنني شخص غير مرغوب فيه هناك بعد الآن، فكل قرار يُتخذ يخيفني أكثر، ولا أفهم لماذا أحتاج إلى تأشيرة الآن، أشعر بأنني شخص غريب في مكان اعتبرته يومًا ما بمثابة بلدي، لقد اضطررت إلى التأقلم على غياب زوجي لفترات طويلة، أحاول أن أشغل الأولاد بكل ما يمكن أن يسعدهما عبر أخذهما إلى الشاطئ أو الحدائق أو اللعب حتى ينسيا، فينجح هذا الأسلوب لفترة قصيرة، إلى أن يعودا بالسؤال مرة أخرى عن والدهما).
مأساة في رمضان
وجسدت شهادة مواطنين من دول الخليج عن معاناتهم في رمضان بسبب تشتت أسرهم وتفرق عائلاتهم، الواقع المأساوي الذي تحياه المئات من الأسر الخليجية جراء تعنت دول الحصار وأنظمتها الحاكمة التي لم تلق بالًا لانعكاسات قراراتها على شعوبها ومجتمعاتها.
الشهادات التي أوردتها المنظمات الحقوقية وبعض وسائل الإعلام تطرقت إلى فقدان هذه الأسر الشعور بهذا الشهر الكريم، في ظل تشتت أفرادها ما بين دولة وأخرى، فهذا مهندس قطري يقيم مع عائلته في الإمارات منذ أكثر من 10 سنوات، وبسبب الأزمة الأخيرة، مُنع من دخول دبي، كذلك منعت زوجته من الذهاب إليه، إلا حين تتنازل عن جنسيتها أولًا.
أما أبناؤه فيحلمون الجنسية القطرية تبعًا لأبيهم، وما كان عليهم إلا مغادرة دبي، لتبقى الزوجة وحيدة في بلدها وأبنائها وزوجها في بلد آخر، ليأتي رمضان وكل في مكانه، فلا الرجل قادر على الذهاب لمرافقة زوجته، ولا الزوجة قادرة على قضاء رمضان مع أبنائها وزوجها.
وذاك شاب سعودي يعمل في الدوحة مدرسًا بإحدى الجامعات، متزوج من قطرية، رفض الانصياع لقرار بلاده مغادرة قطر بداية اندلاع الأزمة، وآثر الحياة مع زوجته متمسكًا بوظيفته، اليوم والدته مريضة، ويود الذهاب للاطئمنان عليها في رمضان، خاصة بعد استغاثتها له أن يأتي لزيارتها.
وهنا يجد السعودي نفسه في مأزق حقيقي، فكيف يأتي رمضان دون أن يقبل يد والدته، ويتحسس تراب أقدمها بِرًّا بها وتوددًا إليها، إلا أنه في الوقت ذاته يخشى السفر، فلا يقدر على العودة، إذ من المحتمل أن يتم منعه من سلطات بلاده، خاصة بعد تصميميه على البقاء هناك ضاربًا بقرار المغادرة عرض الحائط، وهنا يقول: “إذا عدت إلى موطني، لن أستطيع رؤية زوجتي، وإذا بقيت هنا، لن أستطيع رؤية أمي”.
قد مر عام منذ فرض الحصار، وحياة العديد من الناس تواجه مستقبلًا مجهولًا، فقد أثر ذلك على نفسيتنا، فيضطر طفلاي للعيش بدون والدهما، من الصعب عليهما أن يفهما، فمتى ستسنح الفرصة أن يروه؟ أنا لا أعرف.
آمل أن تنتهي هذه الأزمة بالسرعة التي بدأت بها، لكن في الوقت الحالي كل يوم يمر وأطفالي لا يريان والدهما، ويؤثر ذلك عليهما بشكل سيء، لقد حرمت الأزمة أولادي من وجود والدهما الذي هما في أمس الحاجة إليه.
وليس لدي سوى طلب واحد: تسهيل انتقال العائلات عبر البلدان حتى يمكننا رؤية بعضنا البعض، فأنا متعبة حقًا، لقد تركت وحدي لرعاية طفليّ، ولديهما احتياجات خاصة تتطلب رعاية إضافية، لا أستطيع أن أفعل ذلك بنفسي، وأحتاج لزوجي بجانبي، فطفلاي في أمس الحاجة إلى وجود والدهما بجوارهما.
دعوة للم شمل الأسر
من جانبها، دعت منظمة العفو الدولية جميع الدول المشاركة في الأزمة إلى ضمان ألا تؤدي أعمالها إلى انتهاكات لحقوق الإنسان.
وحملت “العفو الدولية” كلًّا من الرياض وأبوظبي والمنامة مسؤولية تفكك الأسر الخليجية وتشتتها وفقدانها روح الترابط، وهو ما اتضح بصورة أكثر مأساوية في رمضان، حيث كل في مكانه، لا لقاءات أسرية، ولا اجتماعات عائلية، ولا تبادل زيارات، فقط كل يطمئن على الآخر عبر جواله، وكأن الجميع بات في سجن كبير وإن لم تحكمه الأسوار الحديدية، وهو ما دفع المنظمة إلى التحذير من أن أوضاع العائلات الخليجية المختلطة باتت “في خطر”.
وتواصِل دعوة المملكة العربية السعودية والبحرين والإمارات العربية المتحدة إلى رفع جميع القيود التعسفية المفروضة على حرية تنقل المواطنين والمقيمين الخليجيين، بما في ذلك حق المواطنين القطريين والأجانب المقيمين في قطر في الوصول إلى أماكن الشعائر المقدسة في المملكة العربية السعودية.
وينبغي على السلطات القطرية أن تسمح للنساء القطريات بنقل جنسيتهن لأطفالهن تلقائيًّا، وعدم السماح لهن فقط بتمرير الحق في الإقامة الدائمة لهم؛ كما يجب أن تتخذ خطوات للتخفيف من آثار ارتفاع الأسعار التي تسببها الأزمة على الحقوق في مستوى معيشي لائق، بما في ذلك الحصول على الغذاء الكافي
اضف تعليقا