“حماس تحمي إسرائيل.. ليس جدارا عنصريا.. خرافة اللوبي الصهيوني.. على الدوحة أن ترفع الراية البيضاء”..

العبارات السابقة ليست مقتطفات من خطاب لرئيس الوزراء بدولة الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، أو أحد مناصريه، بل هي عناوين مقالات نشرها الكاتب الصحفي، عبدالرحمن الراشد، معبرا عن تاريخ طويل من خدمة أجندة اللوبي الإعلامي التابع لمصالح السعودية والإمارات.

انتقل الراشد إلى بلاط صاحبة الجلالة من بوابة السينما، حيث تخصصت دراسته في أمريكا بالثمانينيات، ليتولي بعد ذلك مكتب جريدة الجزيرة السعودية في واشنطن، ويصبح بعد سنوات نائباً لرئيس تحرير المجلة السعودية الأسبوعية، الصادرة من لندن.

وبعدها أصبح الراشد رئيسا لتحرير المجلة، حتى عُيّن رئيساً لتحرير جريدة الشرق الأوسط اللندنية عام 1998، واستقال منها في عام 2003، ليصبح مديراً لقناة العربية.

عبدالرحمن الراشد

وحيثما يذكر اسم “المجلة” تذكر الشركة المالكة لها (المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق) التي تعد الذراع الأول للوبي الإعلامي السعودي في الغرب، وطالما لعبت دور “المفرخة” التي تنتج “كوادر” هذا اللوبي، وهو ما تناوله (العدسة) في تقريرها السابق عن الكاتب الصحفي، عبد العزيز الخميس.

عبدالعزيز الخميس

لكن محطة عمل الراشد بقناة العربية مثلت نقلة نوعية في مسار حياته المهنية، ومسار اللوبي السعودي أيضا، إذ ظل موجها لدفة القناة لنحو 10 سنوات كاملة، إلى أن قدم استقالته منها في نوفمبر 2014.

في هذه السنوات العشر، انتهجت “العربية”، التي تأسست كمنافس لقناة الجزيرة القطرية بالدرجة الأولى، خطة إعلامية منحازة لفريق السلطة في الاقتتال الداخلي, الذي نشب بين المعارضة والأكثرية إبان أزمة تشكيل الحكومة اللبنانية.

انحياز سافر

لعب السفير السعودي السابق لدى الولايات المتحدة، بندر بن سلطان،  دورا كبيرا في رسم معالم الخطة، باعتباره قائد اللوبي السعودي في نسخته السابقة، قبل إعادة تنظيمه ومؤسسته مع صعود ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان، على سلم السلطة بالرياض (طالع تقرير العدسة).

طلب الأمير بندر من المشرفين على “العربية” الامتناع عن إجراء أية مقابلة مع قوى المعارضة اللبنانية، وحصر اللقاءات التلفزيونية بشأن تطورات أحداث لبنان فقط مع تيار الموالاة ورموزهم والمحللين السياسيين اللبنانيين والسعوديين والمصريين والكويتيين.

وبدت تغطية القناة حينها وكأنها نسخة من قناة المستقبل التابعة للتيار الذي يقوده “سعد الحريري”، المدعوم من السعودية.

انحيازات “العربية” ظلت على المقاس السعودي على مدى السنوات العشر، فما جرى في سوريا ثورة ضد استبداد نظام الأسد، أما ما جرى في مصر فهو انتفاضة “خريف عربي” لم تجن مصر منها سوى الخراب، حسبما أوردت تغطيات القناة.

الأمر ذاته عبرت عنه سياسة القناة إزاء الملف الفلسطيني،  وهو ما عبر عنه الراشد في مقالاته التي كتبها في صحيفة الشرق الأوسط، ومنها مقال: “حماس تحمي إسرائيل“، الذي هاجم فيه الحكومة الفلسطينية التي قادتها الحركة في 27 نوفمبر 2006, واصفا إياها بالنفاق السياسي, وزاعما أنها -وليس إسرائيل- من يتحمل المسؤولية عن القتل والدمار الذي يحدث للفلسطينيين.

وفي مقال آخر رفض الراشد وصف جدار الفصل الإسرائيلي بالضفة بالتمييز العنصري ضد الفلسطينيين, “لأن إسرائيل تستطيع أن تفند دعوى تهمة العنصرية بالتذكير أن أكثر من مليون من مواطنيها في داخل إسرائيل هم فلسطينيون, ويعيشون معها نصف قرن, ويحملون هوياتها” على حد زعمه.

وفيما يتعلق بالشأن المصري، خصص الراشد العديد من مقالاته للهجوم على جماعة الإخوان المسلمين، وتأييد الإطاحة عسكريا بأول رئيس مدني منتخب في تاريخ مصر (محمد مرسي)، والدفاع عن زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي، خاصة بعد التأثير السلبي الذي تركته إذاعة تسريبات مدير مكتبه (عباس كامل) على علاقته ببعض دوائر صناعة القرار بالسعودية، حيث خرج عدد من الإعلاميين السعوديين مهاجما الرئيس المصري الذي يبحث عن “الرز”، في إشارة إلى فائض الثروة المالية الكبير لدى المملكة.

كتب الراشد: “أين هي المشكلة عندما يقول المصريون إن الخليجيين يملكون كنزا من المال “زي الرز”؟ فهذا صحيح أولا، وثانيا في الخليج يكتب الكلام ذاته ويقال كل يوم دون حرج، وكذلك ما قيل إنها تسريبات عن عزم الفريق عبد الفتاح السيسي تولي الرئاسة، أيضا لم تكن سرا ولا مفاجأة”.

ومن هنا انتشر بين متابعي القناة، عبر مواقع التواصل، وصفها بلفظ “العبرية” بدل “العربية”، في تعبير صريح عن اتهامها بالانحياز للاحتلال الإسرائيلي.

شهادة الخطيب

الإعلامي المعروف، مهند الخطيب, الذي استقال من العربية لرفضه هذه الانحيازات، ذكر في شهادته أن الراشد أصدر قراراً بمنع نشر أخبار المقاومة العراقية, وصور الضحايا العراقيين الذين تقتلهم القوات الأمريكية, بدعوى أن ذلك من شأنه تقوية التيار الإرهابي المتطرف.

مهند الخطيب

وأضاف الخطيب : “العالم العربي والإسلامي بكامله يُسمي قتلى فلسطين من الأبرياء “شهداء” إلا أن العربية تسميهم “قتلى”, مساوية في ذلك بين قتلى فلسطين والعدو الإسرائيلي, فالقناة تسير وفق أجندة خفية, وأصبحت تنطق باللسان الأمريكي, ومن يضع خططها وإستراتيجيتها هو عبد الرحمن الراشد فقط, وأما العاملون جميعاً من معدين ومقدمين وغيرهم، فلا يستطيعون تمرير أي شيء دون موافقته على ذلك”.

لكن طوال السنوات العشر، لم تكن العلاقة التي تربط الراشد بقيادة اللوبي السعودي علاقة الموظف برؤسائه، بل لعب هو شخصيا دور “اللوبي” في كثير من الأحيان لدفع السلطة السعودية باتجاه الانحيازات الليبرالية التي طالما ناصرها بشدة، ولذا فإن كثيرا من المراقبين يضعونه ضمن تصنيف اللوبي الإماراتي بالإعلام العربي أيضا، في مقاربة تفسيرية لهكذا سلوك.

ويدعم هذه القراءة تلك السلسلة الوثائقية “عبد الله” التي أنتجها الراشد عبر شركته الخاصة (ORTV) متضمنة خمس حلقات عن حياة الملك السعودي الراحل، عبد الله بن عبد العزيز.

خصص الراشد الجزأين، الأول والثاني، لسياسة الملك عبد الله الخارجية، والجزأين، الثالث والرابع، لسياسته الداخلية، خاصة الإصلاحات السياسية والاجتماعية الحاصلة والمتوقعة في عهده، فيما خصص الجزء الأخير لحياة الملك الشخصية.

فيديو:

http://www.dailymotion.com/video/x2h6qf9

لكن عرض السلسة عبر شاشة “العربية” توقف بعد الحلقة الأولى، ما فسره الراشد حينها بأنه ناتج عن “خلافات داخلية” آملا أن يتم استئناف عرضه لاحقا، فيما قال موظفون بالقناة: إن وقف عرض الفيلم جاء بناء على أوامر مباشرة من الأسرة السعودية المالكة.

ويعتقد مراقبون أن الجزأين الثالث والرابع تحديدا، هما سر إيقاف الفيلم، حيث يعبر عن انحيازات الملك الليبرالية، والتي ارتأت أطرافا بالأسرة المالكة أن عرضها سيمثل استفزازا للتيار الاجتماعي السائد بالسعودية.

وأيا ما كان سبب وقف العرض، فالمؤكد أن ما جرى يعطي مؤشرا على أن الفيلم لم يخضع لأسلوب الرقابة التقليدي السابق على عملية الإنتاج، كما جرت العادة بالسعودية، ما يعني أن الراشد يلعب أحيانا دور “اللوبي داخل اللوبي” على غرار “بن فلانجان”، الذي كان أحد أهم عوامل توجيه السياسة الخارجية السعودية باتجاه تطوير العلاقة مع إدارة الرئيس الأمريكي الحالي، دونالد ترامب، (طالع تقرير العدسة)، ولهذا يصنف العديد من المراقبين الراشد باعتباره “عميد اللوبي الإعلامي” المدعوم من السعودية والإمارات.

ثَم مؤشر آخر لوقف عرض الفيلم، وهو أن الراشد بات محسوبا على الطاقم المحسوب على فريق الملك عبد الله، صاحب الانحياز الليبرالي، وهو ما سيكون له أثره السلبي على استمراره بقناة العربية لاحقا.

السلسلة الوثائقية 

ففي الخامس من سبتمبر 2014، توقف الراشد عن كتابة مقاله الأسبوعي في صحيفة الشرق الأوسط دون إبداء الأسباب، ثم ما لبث أن قدم استقالته من إدارة القناة بشكل مفاجئ.

في الـ 16 من سبتمبر، ذكر مالك “العربية”، رجل الأعمال السعودي، الشيخ “وليد بن إبراهيم آل إبراهيم”، في بيان صحفي، نشره على موقع القناة الإلكتروني، أن الراشد اختار الاستقالة “رغبة منه في تحمل مسؤولية بعض الأخطاء التي ظهرت على الشاشة” دون أن يذكر ذلك المحتوى الذي يمثل هذه الأخطاء.

قيل حينها: إن العربية عرضت حلقة مثيرة لبرنامج “الإسلام والغرب” حملت إساءة بالغة لدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الذي مثل تحالفه مع محمد بن سعود ميثاق التأسيس للدولة السعودية.

لكن هذا التبرير لم يكن مستساغا لدى العديد من متابعي الشأن السعودي، إذ اعتادت وسائل الإعلام المحسوبة على الليبراليين في السعودية توجيه مثل هذه الاتهامات للتيار الوهابي “بسماحية” كاملة من الأسرة المالكة.

ولذا كان التفسير السياسي لتخلي الراشد عن موقعه في هذا الوقت هو الأقرب للتصور بحسب مراقبين؛ حيث تزامنت “استقالته” مع عملية “إحلال” لطاقم فريق الحكم الجديد بالمملكة، بدلا من هؤلاء المحسوبين على عهد الملك عبد الله، في ذات الوقت الذي شهد صعود رجل المملكة الأول فيما بعد، ولي العهد الحالي، الأمير محمد بن سلمان.

واستنادا لهذه المعطيات كان تفسير الهجوم الذي شنه الراشد على الحكومة اليمنية لرفضها مبادرة المبعوث الأممي، إسماعيل ولد الشيخ أحمد، واصفا إياها بـ “المقبولة” رغم تبني المملكة العربية السعودية موقفا رافضا لها آنذاك، ومن هنا كان تصنيف الراشد ضمن إطار اللوبي الإماراتي أقرب للواقع، بحسب مراقبين.

إسماعيل ولد الشيخ

ويدعم هذه القراءة إيقاف السلطات الكويتية لتوزيع صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، داخل أراضيها، في أغسطس الماضي، بسبب مقال للراشد، اتهم فيه الكويت بالتحول إلى ساحة إعلامية لقطر، تزامنا مع حملة مماثلة شنها الإعلام الإماراتي.

وأيا ما كان التصنيف، فإن الراشد لم يتوقف عن دعم المسار السعودي الرسمي يوما، خاصة مع تنامي العلاقة بين ولي العهد في كل من الرياض وأبو ظبي إلى مستوى التحالف فيما بعد، وتقارب فعاليات وأهداف اللوبي الإعلامي لكل منهما في الغرب إلى حد التطابق، حتى بات اللوبي السعودي أشبه بفرع لشبكة نظيره الإماراتي، التي يقودها سفير أبو ظبي لدى واشنطن، يوسف العتيبة.

وفي هذا السياق، وجه الكاتب السعودي تهديدا صريحا لدولة قطر بأن تلقى مصير المعتصمين المغدورين بميدان “رابعة العدوية” في مصر، إذا لم ترفع “الراية البيضاء” إزاء حملة الحصار التي تواجهها حاليا.

كما تبنى الراشد موقفا مؤيدا لحملة الاعتقالات الواسعة التي شنها فريق الحكم السعودي الجديد بالمملكة على خلفية سياسية، شملت المئات من الدعاة والأكاديميين والقضاة، إضافة إلى زملائه من الصحفيين والإعلاميين، ما أثار سجالا بينه وبين الكاتب الصحفي، جمال خاشقجي، حيث اتهمه الراشد بالالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين، على خلفية رفضه لها.

ومع تطوير الحملة لتشمل المئات من الأمراء والوزراء وكبار رجال الأعمال فيما بعد، بات الشيخ “الإبراهيم” أحد هؤلاء المحتجزين في فندق “ريتز كارلتون” بالرياض، دون أن يكتب الراشد كلمة واحدة عن الرجل الذي عمل معه لعشر سنوات كاملة.

بل إن الراشد واصل “التزامه” التاريخي في آخر مقالاته، محتفيا بإضافة السعودية ومصر والإمارات والبحرين لاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، الذي يرأسه الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي، إلى قائمتها للإرهاب