منصور عطية

رغم أن السياسة متغيرة ولا ثابت فيها، إلا أن مواقف الدول وسياساتها في الأزمات والأحداث الكبرى هي التي تحدد وجهتها في رسم علاقاتها مع الدول المختلفة سواء بالتحالف أو المعاداة أو الحياد.

الأزمة الخليجية التي يمر عامها الأول بعد أيام، تظل الشاهد الأبرز على تلك المقولة، فربما يجدر القول بأنها رسمت خريطة جديدة للتحالفات في المنطقة، وأثرت على سياسات ومواقف قوى كبرى، وجاوزت ارتداداتها حدودها الجغرافية إلى بلدان وقارات أخرى.

وفي ظل تلك الخريطة، برزت مواقف بعض الدول العربية التي رفضت منذ اللحظة الأولى لحصار قطر الميل إلى أحد الطرفين، أو بتعبير أدق تجنبت التصريح بحقيقة موقفها من الأزمة، ولهذا كان موقفها الرسمي هو الحياد.

وعلى مدار العام المنصرم، كان الشد والجذب هو السمة المميزة لعلاقات كل من السودان والأردن والمغرب بطرفي الأزمة، فمنهم من صالح دول الحصار بعد توترات، ومنهم من ضرب عرض الحائط بما أملته، ومنهم من رضح لابتزازها.

في التقرير التالي يستعرض (العدسة) موجزا لتطور المراحل التي مرت بها الدول الثلاث في علاقاتها بطرفي الأزمة الخليجية.

السودان.. مصالحة إجبارية

أحدث إرهاصات هذه المعادلة فيما يخص السودان، كان تصريحات وزير الدفاع السوداني الفريق أول ركن عوض محمد أحمد بن عوف، والذي جدد فيه إصرار حكومة بلاده على إبقاء جنودها باليمن ضمن التحالف العربي بقيادة السعودية.

وقال للصحفيين- بعد لقاء مع السفير السعودي بالخرطوم جعفر معلا- إن مشاركة القوات المسلحة السودانية في اليمن “واجب والتزام أخلاقي”.

وكان الرئيس السواني عمر البشير أكد خلال لقائه الفريق طيار علي بن عبد الله العايش مساعد وزير الدفاع السعودي الأربعاء الماضي، أن الاختلالات في الوضع الاقتصادي لن تثني بلده عن لعب دوره العربي في استرداد الشرعية في اليمن، باعتبار أن مواقف السودان المبدئية المعلنة هي الدفاع عن أرض الحرمين، والالتزام بالأهداف النبيلة التي دعت إلى مشاركته في عاصفة الحزم.

بدوره نقل المبعوث إلى الخرطوم ثناء المملكة على المشاركة السودانية “المخلصة” في عاصفة الحزم، والأدوار البطولية التي تؤديها القوات السودانية التي أسهمت في الانتصارات والتقدم الذي حققته قوات الحزم في اليمن.

جاء هذا بعد أيام من إعلان وزير الدولة بوزارة الدفاع السودانية، علي محمد سالم، شروع الخرطوم في إعادة تقييم مشاركة قواتها بالتحالف، إثر ارتفاع أصوات سودانية وعبر البرلمان تنادي بإعادة القوات من اليمن بعدما فقدت عقيدة وجودها وخسارة مجموعة من الجنود في مواجهتها مع الحوثيين.

وكانت صحيفة “أخبار اليوم” كشفت في وقت سابق -نقلا عن مصادر “مطلعة” عن بروز اتجاه قوي لدى قيادة الدولة لسحب القوات من حرب اليمن، يضاف له تنامي المطالب الشعبية والنيابية للقيام بهذه الخطوة، وذلك في ظل فقدان عدد من عناصر تلك القوات في الحرب ضد الحوثيين.

التحرك السوداني بقرار الإبقاء على قوات حرب اليمن، ربما جاء في سياق تطورات موقف الخرطوم من الأزمة الخليجية، فهي من ناحية تعاني بشدة جراء أزمة اقتصادية طاحنة، كما أنها ربما تسعى لمصالحة الرياض بعد الاتهامات الضمنية الموجهة لها بالميل لمعسكر قطر، من خلال تنامي العلاقات مع حليفة الدوحة الأولى تركيا، ومع قطر ذاتها.

منذ بداية الأزمة الخليجية حاول السودان الحفاظ على علاقة متوازنة بطرفيها، بإعلانه أنه على الحياد ورغبته في التوسط لحلها دون انحياز لطرف دون الآخر.

دول الحصار يبدو أنها استقبلت هذا الحياد بمثابة الانحياز لقطر، لكن الخرطوم لم تقطع شعرة معاوية وعززت تواجدها العسكري الكبير في التحالف العربي باليمن إلى جوار الرياض وأبو ظبي، كما وجهت الشكر رسميًا إليهما نظير ما بذلتاه من جهود دبلوماسية أفضت إلى رفع العقوبات الاقتصادية الأمريكية عليها في أكتوبر الماضي.

ورغم هذا الجهد السوداني الذي رفض أيضًا التضحية بالحليف القطري، ربما لا يختلف اثنان على أن العلاقات ليست على ما يرام مقارنة بوضعها في حال أيد السودان قرارات دول الحصار ضد قطر، تصريحًا أو حتى تلميحًا، عل العكس بل بادر لتوثيق علاقته بقطر على حساب الإمارات، وهو ما  ظهر جليًا في نفي تأجير ميناء بورتسودان لهيئة موانئ دبي، رغم تقدمها للحصول على امتياز تطويره وتشغيله.

ومما زاد طين التوتر بلة بين السودان من جانب والسعودية والإمارات من جانب آخر أن تركيا دخلت على الخط بتقارب تاريخي مع الخرطوم، توجته زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ديسمبر الماضي، وما شهدته من اتفاقات ضخمة وتنازل سوداني عن جزيرة سواكن الاستراتيجية في البحر الأحمر لأنقرة.

ربما لو كانت دولة أخرى غير تركيا هي من تقاربت مع السودان لم يكن الأمر ليعني حكام الرياض وأبو ظبي، لكنها أنقرة التي تناصبها العاصمتان الخليجيتان العداء، بعد موقفها الداعم بقوة كبيرة لقطر في الأزمة الخليجية.

النفوذ التركي والقطري في أي مكان بالعالم يبدو موجهًا في المقام الأول إلى هاتين الدولتين، نظرًا لما بينهما وبين أنقرة والدوحة من عداء سياسي غير مسبوق أفرزته الأزمة الخليجية والدعم التركي اللامحدود لقطر فيها.

الأردن.. طلاق بالثلاثة

وربما تبقى الحالة الأردنية فريدة إلى حد كبير وسط الدول العربية التي بدا عليها الحياد في الأزمة الخليجية، فبعد إجراءات اتخذتها عمان ضد الدوحة في بداية الأمر، كان التقارب هو السمة المميزة على مدار العام المنصرم.

فهذا الأردن الذي استهل قرارات حصار قطر بتخفيض مستوى العلاقات الدبلوماسية دون قطعها، وإغلاق مكتب فضائية الجزيرة بالعاصمة عمّان.

إلا أن نغمة التقارب وصلت ذروتها أواخر أبريل الماضي، بزيارة هي الأولى من نوعها لوزير أردني إلى قطر منذ اندلاع الأزمة الخليجية، حيث التقى وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأردني “عادل الطويس” في العاصمة القطرية الدوحة بالطلبة القطريين الراغبين في الالتحاق بالجامعات الأردنية، مؤكدا أن المملكة الأردنية تسعى لاستقطاب المزيد منهم، ولتبادل علمي وأكاديمي مع مؤسسات التعليم العالي في قطر.

وفي مارس الماضي وقع 45 نائبا في مجلس النواب الأردني (أكثر من نصفه) مذكرة نيابية تطالب بعودة سفير بلادهم إلى الدوحة.

بعدها بأيام توصلت شركة طيران الملكية الأردنية، والخطوط الجوية القطرية، إلى اتفاق يتم بموجبه توسيع اتفاقية “الرمز المشترك” القائمة بين الناقلتين، والتي بموجبها سيتمكن المسافرون من الوصول إلى “دكا” عاصمة بنجلادش مرورًا بالدوحة.

وفي 11 من الشهر نفسه، استقبلت غرفة تجارة وصناعة قطر وفدا اقتصاديا أردنيا برئاسة رئيس غرفة تجارة الأردن ورئيس اتحاد الغرف العربية، نائل الكباريتي، وناقش الطرفان السبل الكفيلة بتعزيز الاستثمارات المتبادلة، وإمكانية إقامة مشروعات مشتركة.

لكن الحقيقة أن محاولات الأردن كسر جمود العلاقات مع الدوحة، بدأت مبكرا جدا، ففي 7 ديسمبر الماضي، تواصل العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني هاتفيا مع أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني بشأن قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الاعتراف بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل.

وفي 14 من نفس الشهر هنأ العاهل الأردني الأمير تميم بالعيد الوطني لاستقلال بلاده، وقالت وكالة الأنباء الأردنية “بترا” حينها إن الملك عبد الله قدم “أحر التهاني باسم شعب المملكة وحكومتها متمنيا للأمير تميم موفور الصحة والعافية وللشعب القطري مزيدا من التقدم والازدهار”.

وعلى الرغم من السعي الأردني الواضح لتطبيق سياسة مسك العصا من المنتصف، إلا أن التقارب الذي تنتهجه تجاه قطر يؤشر إلى رغبة عمّان في ممارسة الكيد السياسي ضد دول الحصار، فضلا عن الغضب الذي تشعر به حيال ما مارسته كل من السعودية والإمارات ضدها.

الموقف الأردني الرسمي والشعبي الرافض في البداية لقرار اعتبار القدس عاصمة للاحتلال الإسرائيلي، أسفر عن ضغوط تعرض لها الأردن أجبرته على الاعتراف رسميا بالقرار الأمريكي، ففي أواخر يناير الماضي اعتبر العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني أن جزءا من الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها بلاده يعود إلى الضغط المطبق عليها بسبب مواقفها السياسية، وقال إن “رسائل وصلتنا مفادها امشوا معنا في موضوع القدس ونحن نخفف عنكم”.

فبعد القرار الذي أصدره العاهل الأردني بإحالة كل من: أخويه الأمير فيصل بن الحسين والأمير علي بن الحسين بالإضافة إلى الأمير طلال بن محمد، إلى التقاعد من الخدمة في القوات المسلحة، نقلت صحيفة “ذا تايمز أوف إسرائيل” العبرية عن مصادر، قولها إن الأجهزة الاستخباراتية الأردنية رصدت اتصالات بين شقيقي الملك عبدالله وابن عمه مع مسؤولين في السعودية والإمارات لتنفيذ انقلاب ضد الملك، مشيرة إلى أن الأمراء الثلاثة تم وضعهم حاليًا تحت الإقامة الجبرية.

وقال موقع “بريتبارت نيوز” الأمريكي إن الأمراء الثلاثة، “كان يتآمرون مع قادة سعوديين لتنفيذ انقلاب ضد الملك عبد الله”، كما أشار إلى أن ولي العهد السعودي محمد بن سلمان سعى للضغط على الملك عبدالله لتجنب حضوره اجتماع منظمة التعاون الإسلامي بشأن القدس في مدينة “اسطنبول”.

صحيفة “هآرتس” العبرية، قالت إن العلاقات الأردنية السعودية يشوبها الكثير من التوتر، بسبب سياسات وإجراءات ولي العهد السعودي، الذي يسعى إلى تجريد المملكة الهاشمية من الهيكل الحاكم لها.

وأوضحت في تقرير لها أن مسؤولا أردنيا، لم يكشف عن هويته، اشتكى في نوفمبر الماضي من طريقة تعامل ولي العهد السعودي مع الأردنيين والسلطة الفلسطينية، وأشارت إلى أنه يتعامل معهم كأنهم “خدم وهو السيد الذي عليهم أن يتبعوا ما يأمر به فقط، وهو ما رفضته الأردن بصورة قاطعة”.

من جانبه، نقل موقع “ديبكا” الاستخباراتي الإسرائيلي، عن مصادر عربية تأكيده أن الملك عبد الله أثار غضب القادة السعوديين والإماراتيين بإقامته علاقات وثيقة مع تركيا وقطر.

ووصل الصدع إلى ذروته باعتقال الملياردير الأردني الفلسطيني، صبيح المصري، وطالب الأمير محمد بن سلمان والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي من العاهل الأردني ان ينفصل عن الحلف التركي القطري مقابل الإفراج عن المصري، الذي شكلت عملية احتجازه ضربة قوية للاقتصاد الأردني، قبل أن يفرج عنه لاحقًا.

المغرب.. رضوخ للابتزاز

الضغط السعودي المستمر على المغرب بسبب موقفها من الأزمة الخليجية.. كان هو المتهم الأول في محاولة تفسير قرار الرباط أوائل مايو قطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران، تحت لافتة دعم حزب الله اللبناني لجبهة البوليساريو التي تنازع الرباط على إقليم الصحراء الغربية.

وبقدر ما كان توقيت القرار المغربي مريبا كانت ردود الأفعال الصادرة من دول حصار قطر مريبة هي الأخرى من حيث سرعتها، إلى الحد الذي بدت فيه وكأنها كانت جاهزة مسبقا وأن تلك الدول كانت على علم بالقرار وتوقيت إعلانه.

السعودية أعربت عن دعمها للمغرب في قطع علاقاته الدبلوماسية مع إيران، وأكدت وقوفها إلى جانب المغرب “في كل ما يهدده”.

ونقلت وكالة الأنباء السعودية الرسمية “واس” عن مصدر مسؤول في وزارة الخارجية قوله، إن “المملكة العربية السعودية تقف إلى جانب المملكة المغربية الشقيقة في كل ما يهدد أمنها واستقرارها ووحدتها الترابية”.

وفي أول تعليق، غرد وزير الخارجية البحريني، خالد بن أحمد، عبر حسابه على تويتر: “نقف مع المغرب في كل موجب كما يقف معنا دائما”.

من جانبه، قال أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتية: “نقف مع المغرب في حرصها على قضاياها الوطنية وضد التدخلات الإيرانية في شؤونها الداخلية”، وأضاف في تغريدة على تويتر: “سياستنا وتوجهنا الداعم للمغرب، إرث تاريخي راسخ، أسس له الشيخ زايد والملك الحسن، رحمهما الله، وموقفنا ثابت في السراء والضراء”.

هذا الترحيب من جانب دول الحصار يضع العديد من علامات الاستفهام حول علاقتها ومن ثم الأزمة الخليجية بالقرار المغربي.

المغرب أعلن موقفه من الأزمة الخليجية بعد اندلاعها بنحو أسبوع كامل، معلنا الوقوف على الحياد وعدم الانحياز إلى طرف دون الآخر، ودعا في بيانه لضبط النفس والتحلي بالحكمة، مشددا على تفضيل المملكة المغربية لحياد بنّاء “لا يمكن أن يضعها في خانة الملاحظة السلبية لمنزلق مقلق بين دول شقيقة”.

بطبيعة الحال، فإن دول حصار قطر التي تتمتع بعلاقات قوية مع الرباط (مثل كون المغرب هي وجهة العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز السنوية لقضاء عطلته الصيفية)، اعتبرت هذا الحياد انحيازا للدوحة، الأمر الذي ترتب عليه توترات شابت تلك العلاقات على مدار العام المنصرم.

الربط بين كل تلك الأمور المتشابكة (ردود الأفعال لدول الحصار، موقف المغرب من الأزمة) فضلا عن اتهام حزب الله في بيانه السابق، يشير إلى ترجيح احتمالية أن يكون المغرب الواقع تحت وطأة أزمة اقتصادية طاحنة رضخ لضغوط سعودية في هذا الشأن.

ورغم أن الرياض أعلنت في أوقات سابقة عن دعم المغرب في قضية النزاع مع جبهة البوليساريو، إلا أن المعادلة الجديدة ربما تضمنت نوعا من المقايضة، ففي مقابل القرار المغربي بقطع العلاقات، سوف تحظى الربط بدعم اقتصادي كبير من دول الحصار، فضلا عن مساندة سياسية قوية في قضية الصحراء الغربية سواء ضد البوليساريو أو حتى الجزائر.

ووفق هذا التصور، فإن المغرب يبدو أنه اختار بشكل صريح للغاية الاصطفاف بجانب معسكر الحصار، وربما نرى في الفترة القادمة تطورات أخرى في الموقف المغربي بما يتماهى مع هذا المعسكر.

وليس ببعيد عن ذلك الأزمة التي فجرها تركي آل الشيخ رئيس هيئة الشباب والرياضة السعودية والمستشار بالديوان الملكي، قبل أكثر من شهر، بشأن عدم دعم بلاده لملف استضافة المغرب لكأس العالم 2026.

وكتب آل الشيخ: “لم يطلب أحد أن ندعمه في ملف 2026، وفي حال طُلب منا سنبحث عن مصلحة المملكة العربية السعودية، واللون الرمادي لم يعد مقبولا لدينا”.

وأضاف، في تغريدة أخرى اعتبرت انتقادا سعوديا لموقف المغرب الحيادي من الأزمة الخليجية: “هناك من أخطأ البوصلة، إذا أردت الدعم فعرين الأسود في الرياض هو مكان الدعم، ما تقوم به هو إضاعة للوقت، دع “الدويلة” تنفعك…! رساله من الخليج إلى المحيط”.