حين يسقط أي بلد في دوامة الاعتداء والعدوان، يتصدر من بين أبنائه المخلصين عدد لا بأس به من المناضلين من كل الاتجاهات، سواء الميدانية والعسكرية والاجتماعية وحتى السياسية والدولية، وبالطبع، الساحة الأدبية، حيث تقوم الأقلام في الصحف والمجلات بما تقوم به الرصاصات في الميادين والساحات.

 

وأمام هذا الدور المهم والفاعل للأدباء والكتاب في حسم المعارك الثقافية وإقرار حقوق الشعوب ونشرها بين الأمم البشرية في أقصى بقاع الأرض، بما يمثل غطاءً شرعيا للعمليات الميدانية والعسكرية والاستراتيجية، كان من البديهي أن تولي أجهزة الاستخبارات والتصفيات العسكرية أولوية قصوى للقضاء على أي صوت أدبي متصدر يدافع عن الحق في المعسكر الخصم.

 

وإذا كنا نتحدث هنا عن أجهزة الاستخبارات التي تعتمد على منهجيات وتحركات مدروسة، فإن الأمر يصبح تعقيدا حين نتحدث عن عصابات متطفلة سارقة للأرض، وهو الحال الذي بليت به فلسطين بعد احتلالها من العصابات الصهيونية والتي لم تبق ولم تذر طريقة ساقطة لانتزاع حق الشعب الفلسطيني صاحب الأرض والحق والتاريخ من أرضه، مستغلة في ذلك تواطؤ العالم الغربي ودعمه المطلق.

 

وفي مثل هذا اليوم قبل 49 عاما، وبالتحديد في الثامن من تموز/يوليو عام 1972، انفجرت سيارة في منطقة الحازمية قرب العاصمة اللبنانية بيروت، لتعلن وسائل الإعلام الدولية عن “مقتل” الأديب الفلسطيني غسان كنفاني وبرفقته ابنة شقيقته فايزة، لميس حسين نجم والبالغة من العمر حينئذٍ 17 عامًا.

 

كنفاني، السياسي والصحفي والروائي والقاص والكاتب المسرحي، ولد في عكا في التاسع من نيسان/أبريل عام 1936، واضطر لمغادرة فلسطين مع أحداث النكبة في عام 1948، والتي شهدت ترحيل ملايين الفلسطينيين قسرا عن أرضهم، ليجد غسان نفسه محمولا مع عائلته إلى لبنان ومنها إلى سوريا حيث مستقره الأطول.

 

ويحكي غسان كنفاني عن تلك الرحلة التي تركت أثرها القوي في وجدانه، فيقول إنه رحل من يافا إلى عكا، حيث كانت يقيم جد أمه، وهناك عاش غسان فترة عصيبة مع عائلته حتى جاء يوم الخامس والعشرين من أبريل/نيسان عام 1948، حيث حدث “الهجوم الكبير” على عكا من قِبل العصابات الصهيونية، لتلجأ العائلة مع 7 عائلات أخرى في 29 أبريل/نيسان عام 1948 إلى منطقة صيدا اللبنانية، ثم الصالحية وصولا إلى منطقة “المية مية”، إلى أن استقر بهم المقام عند أقرب قرية للعودة إلى فلسطين، وهي قرية الغازية الواقعة في أقصى جنوب لبنان.

 

ولكن جرت الرياح بما لم تشته السفن، وعادت العاصابات الصهيونية للهجوم مجددا على الحدود الفلسطينية اللبنانية، لتنقل عائلة غسان مجددا -وبعيدا هذه المرة جدا عن حدود بلاده- وبالتحديد في الثامن من حزيران/يونيو عام 1948، إلى العاصمة السورية دمشق، ومنها إلى منطقة الزبداني السورية.

 

ولم يدم مقام عائلة غسان في منطقة الزبداني السورية طويلا، فعادوا للعاصمة السورية دمشف في التاسع عشر من أكتوبر /تشرين الأول من عام 1948، وأقاموا في حي الميدان الشهير في العاصمة السورية حتى عام 1952، قبل أن ينتقلوا لحي الشويكة جنوب العاصمة حتى عام 1956، ومنه انتقلوا لمقرهم الأخير في سوريا التي احتضنتهم حتى انتقلوا إلى الكويت فترة ومنها أخيرا إلى لبنان حيث قضى غسان لحظاته الأخيرة.

 

وإذا كان القارئ قد ملّ من تفاصيل الانتقال والتواريخ المذكورة، فلعلها فرصة ليتوقف لحظة ليدرك أن تلك التواريخ المزدحة والانتقالات المريعة إنما هي معاناة عاشتها عائلة غسان لحظة بلحظة، ومثلت كل ثانية فيها حياة بأكملها، حتى وإن أصاب المارين عليه اليوم الملل والسأم.

 

تعكس تلك الرحلة القاحلة بوضوح ما فعله المحتل في الشعب الفلسطيني صاحب الحق والأرض، ومنها أيضا يمكن أن نستشف بوضوح كيف كان لمثل تلك الرحلة القاصمة من أثر في نفس غسان وفكره وعقله، وفي النهاية انعكست بوضوح على قضية حياته التي خرجت في شكل كتابات ملهمة عن القضية الفلسطينية وحق الشعب العربي في أرضه وجرائم المحتل الصهيوني بحق أصحاب الأرض والتاريخ.

 

هذا الانعكاس الواضح لرحلته الشاقة في قلمه، ظهر بوضوح في الاسم المستعار الذي درج على أن يكتب به مقالاته في “ملحق الأنوار” الأسبوعي عام 1968، ثم مجلة “الصياد” عام 1972، ومقالات قصيرة في جريدة “المحرر” تحت عنوان “بإيجاز” 1965، والتي نُشرت كلها تحت اسم مستعار هو (فارس فارس)، وللاسم كما هو واضح دلالة عما كان يصول ويجول في عقل غسان وطموحه وأمنياته. 

 

ورغم وفاته المبكرة، صدر لغسان نحو 18 كتابًا، ومئات المقالات والدراسات في الثقافة والسياسة دافع فيها عن حق الشعب الفلسطيني وأبرز نضاله وتاريخه العريق، وتُرجمت معظم أعماله إلى أكثر من ستة عشر لغة في أكثر من عشرين دولة مختلفة حول العالم، وله حضور بارز بين الشعوب العربية وشعوب أمريكا اللاتينية.

 

ومن أهم أعمال غسان كنفاني الأدبية، رواية “رجال في الشمس”، ورواية “عائد إلى حيفا”، و”الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968″، ونال في عام 1966 جائزة أصدقاء الكتاب في لبنان عن روايته “ما تبقى لكم”، كما مُنح بعد استشهاده عدة جوائز أهمها: جائزة منظمة الصحفيين العالمية في 1974، وجائزة اللوتس في 1975، ومنح وسام القدس للثقافة والفنون في 1990.

 

وأقام له الشعب الفلسطيني نصبا تذكاريا في مدخل مقبرة النبي صالح بمدينة عكا، لكن الاحتلال في عهد وزير الداخلية الصهيوني، أرييه درعي، ووزيرة الثقافة الصهيونية، ميري ريغيف، أجبرت عائلة كنفاني على إزالة النصب بحجة أنه كان عضوا في “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” التي يصنفها الاحتلال -وفي دبره الولايات المتحدة بالطبع- “منظمة إرهابية”.