العدسة – معتز أشرف
في تقدير موقف لمركز “كارينجي” للدارسات الإستراتيجية حول انسحاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، أكد بيري كاماك -الباحث البارز في برنامج الشرق الأوسط في مؤسسة “كارنيجي” للسلام الدولي، والذي تركّزت أبحاثه على التوجهات الإقليمية بعيدة المدى، وتأثيراتها على السياسة الخارجية الأمريكية- أن “ترامب” انسحب بلا خطة بديلة، وأنه يعتمد على أداء مسرحي أكثر من أداء سياسي، وفق خطط وخيارات، غير أن المركز رجح ثلاثة خيارات للتعامل مع الأزمة خلال الفترة المقبلة نطل عليها في هذا التقرير.

مرحلة صعبة!

هي فترة عصيبة، هكذا خلص تقدير موقف مركز “كارينجي” الذي وصل (العدسة)، بعد أن انسحب الرئيس دونالد ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، وباشرت إدارته إعادة فرض العقوبات، التي ينصّ أقساها على منع الجهات الدولية التي تشتري النفط الإيراني الخام من التعامل مع النظام المالي الأمريكي، مضيفًا أنه مع ذلك، ستمنح الإدارة الأمريكية حلفاءها وشركاءها فترة سماح مدّتها 180 يومًا، لذا، يجوز القول إن انهيار الاتفاق لن يحدث في القريب العاجل، مع أنه يبدو اليوم مرجّحًا، وستسعى أوروبا خلال هذه المهلة إلى إيجاد صيغة ما للحفاظ على هذا الاتفاق، فيما ستحاول إيران دقّ “إسفين” الانقسام داخل التحالف عبر الأطلسي، إسرائيل والسعودية ستستسيغان من جهتهما احتمال وقوع مواجهة بين إدارة “ترامب” وإيران، أما الدول العالقة في الوسط مثل العراق ولبنان واليمن، فستشهد فترة عصيبة.
وتوقع التقدير أنه في غضون ذلك، وريثما ينقشع الغبار عن هذا الملف، سيوجّه “ترامب” ناظريه إلى كوريا الشمالية، ويعتقد البيت الأبيض أن الرئيس سيتّخذ موقفًا صارمًا في هذا الشأن، فهو يعتزم التفاوض مع بيونج يانج من موقع قوة، لكن قد يصح العكس؛ ذلك أن انسحاب “ترامب” سيلقى معارضة من جانب الصين، وستثير لامبالاته بحلفاء أمريكا الأوروبيين قلق كلٍّ من كوريا الجنوبية واليابان، حيث سيطلب “كيم” من “ترامب” ضمانات ملموسة أكثر من تلك التي قدّمها الرئيس السابق باراك أوباما لطهران، وفي غضون ذلك، يشير منتقدو الاتفاق النووي الإيراني إلى أن هذا الأخير ليس معاهدة، ولم يحظَ بموافقة الكونجرس، وهذا صحيح، لكن “ترامب” سيكتشف -على الأرجح- أن حظوظه في الكونجرس ليست أفضل بكثير من حظوظ سلفه.
وأشار التقدير إلى أن الاتفاق النووي يلزم إيران بتخفيض مخزونها من اليورانيوم بنسبة 98%، وبتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي لديها بمقدار الثلثين، ولن تكون الأمور على هذا المنوال مع نظام كوريا الشمالية، ومع أن تفكيك البرنامج النووي لكوريا الشمالية أمرٌ مرغوبٌ فيه للغاية، فإنه واهمٌ من يظنّ أن “كيم” سيتخلّى بملء إرادته عن أسلحته النووية التي يتراوح عددها من عشرة إلى عشرين، لذا من لمرجّح للغاية أن تُمنى هذه العملية بالفشل، ما سيمهّد الطريق أمام وقوع مواجهة خطيرة في شبه الجزيرة الكورية، بحيث يظهر الملف الإيراني، بالمقارنة معها، في غاية البساطة.

مستقبل الاتفاق

وبخصوص الاتفاق النووي بحدّ ذاته يرى تقدير الموقف الصادر من مركز “كارينجي”، أن العقوبات هي مجرّد أداة، وليست الترياق الشافي لكل العلل، مشيرًا إلى أنه في الماضي، ساعدت العقوبات الأمريكية -بالشراكة مع أوروبا وتحت الغطاء السياسي لعددٍ من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة- على إبرام اتفاق مع إيران، وصحيحٌ أن المؤرّخين قد يختلفون حول جدواه، لكنهم سيجمعون على أمرٍ واحد، هو أن وتيرة التقدّم النووي الإيراني تباطأت أحيانًا، خلال الأعوام التسعة من المفاوضات، بيد أنها لم تنقطع قطّ.
وأوضح التقدير أنه ليست إيران بحدّ ذاتها المُستهدَفة الرئيسة من العقوبات الثانوية الأمريكية، بل المؤسسات المالية الأجنبية التي تتعامل معها، حيث ستفرض إدارة “ترامب” على الدول الاختيار بين النظام المالي الأمريكي أو الإيراني، وسيذعن العديد من الدول، وربما معظمها، لشروط “ترامب” على مضض، لكن هذه العملية ستكون طويلة وفوضوية، فهذه المرة لا تتمتّع إدارة “ترامب” بموقف موحّد عبر الأطلسي، ولا بشرعية دولية، وسيجول كبار مسؤولي الإدارة الأمريكية حول العالم لتحذير القادة من مخاطر البرنامج النووي الإيراني، مع أن العديد منهم يعتقدون أن انسحاب “ترامب” يشكّل انتهاكًا جوهريًّا لاتفاقٍ كان يؤتي أُكله.
ولفت مركز “كارينجي” في تقريره، الانتباه إلى أنه قد يشكّك بعض هؤلاء القادة، بمن فيهم أصدقاء لأمريكا، في شرعية العقوبات الثانوية، إذ يرون أنها تشكّل خرقًا لالتزامات منظمة التجارة العالمية والقرار الصادر في يوليو 2015 عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي تبنّى فيه الاتفاق الإيراني، وليست الضربة التي تلقتها العلاقات عبر الأطلسي عصية على الإصلاح، لكنها كبيرة، فقد بذل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون جهودًا سياسية كبيرة لبناء علاقة مع دونالد ترامب، لكنه لم يحصد نتيجةً تُذكر، ومن الصعب تخيّل أن يسير أي قائد أوروبي مهم آخر على خطاه.

ثلاثة خيارات

وفق تعبير مركز “كارينجي”، فإن “ترامب” يعتبر مؤدّيًا مسرحيًّا يركّز في تصريحاته على الجوانب المسرحية بدلًا من مضمون سياساته، وغالبًا ما يظهر كلامه الطنّان بعد حين أقل وقعًا وتهديدًا ممّا كان أثناء التفوّه به، فعلى سبيل المثال، وفي مرحلة مبكرة من ولايته، انسحب غاضبًا من اتفاقية باريس للمناخ، واتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ، ولم يحذُ حذوه أيٌّ من الأطراف الـ193 الأخرى الموقّعة على اتفاقية باريس، وفي خضم التصريحات التجارية المتبادلة بين واشنطن وبيجينج، يفكّر “ترامب” بالانضمام مجددًا إلى اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئ.
وأشار إلى أن “ترامب” يتمتع بصلاحيات كبيرة في مسألة إعادة فرض العقوبات، لذا، قد يصبح مسار الاتفاق الإيراني مليئًا بالعقبات، ومهما كان رأي المرء في النهج الذي اعتمدته إدارة أوباما، فالنتيجة النهائية كانت واضحة، فقد رُفعت الضغوط الاقتصادية المُمارسة على طهران شيئًا فشيئًا، وأُفسح المجال أمام المقايضة بين رفع العقوبات الأمريكية وخفض عدد أجهزة الطرد المركزي الإيرانية، أما في المقابل، فلا يقدِّم إعلان “ترامب” الانسحابَ من الاتفاق أية خطة بديلة، على الرغم من أنه كان متوقّعًا، كذلك لم يحدّد الرئيس هدفًا واضحًا يصبو إلى تحقيقه.
وحدد التقدير ثلاثة خيارات لمستقبل ما بعد الانسحاب بقوله متسائلًا: “هل يسعى “ترامب” إلى إبرام اتفاق جديد مع إيران، أم إلى توجيه ضربة قاضية تطيح بالبرنامج النووي الإيراني، أم إلى تغيير النظام في إيران؟ يمكن للمرء أن يستوحي من تصريحاته أيًّا من هذه الاستنتاجات، أو حتى جميعها، بيد أن العقوبات وحدها لن تحققّ أيًّا منها”، مضيفًا أنه يرجح أن تتضح الخطوات التالية على مدى الأشهر المُقبلة، بانتظار أن تتكشف خيوط الحبكة، فاندلاع الحرب أو نشوب أزمة نووية ليس حتميًّا إطلاقًا، لكن بعد إعلان “ترامب” يوم الثلاثاء، لم يعُد أي من هذين السيناريوَهيْن مستبعدًا.