لا تتساوي الأوجاع في شدتها، وإن تشابهتْ على الناس؛ فوحده صاحبها يدرك تفاوت وطأتها على روحه.. نعم، الألم كله مُجهد وكئيب؛ يأكل من روح صاحبه، ولا يتركه إلا وفي قلبه نُدبة جديدة، تتجاور مع ما سبقها من جروح، لكن الجروح تتفاوت في عُمقها وتأثيرها على صاحبها… فلكل ألم مَقامٌ مختلف.
ويظل هنالك دومًا ذلك الألم الذي لا يمكنك نسيانه، يقف متفردًا معتزًا بمكانته في صدارة ذاكرتك؛ حتى تكاد تنسى ما قد سبقه، ولا تشعر بما يليه، مهما سقطتَ وجُرحتَ؛ كأنما أصابك تبلُّد تام.. ربما يكون مصدر هذا الألم صدمة قاسية في شخص كان عزيزًا لديك، أو فراقٌ مفاجئ بالموت، أو فراق الأحياء الذي غالبًا ما يكون أشد وطأة من فراقنا للأحبة بالموت؛ فتتعدد تجليات الألم، لكن يظل لكل منّا تجربته الخاصة معه.. تجربته التي لم يعد بعدها كما كان أبدًا.
وغالبًا لن يعود.. المشكلة ليست في هذا، العقبة الحقيقية في تقبُّل هذا الأمر.
(2)
في الفيلم الأمريكي الجميل Wind River، يجلس الأب المكلوم، الذي وُجدت ابنته مقتولة منذ يومين، بصحبة صديقه الذي فقد ابنته منذ عدة سنوات، بعد أن وجدوها مقتولة بطريقة مشابهة للغاية لما جرى لابنة صديقه، في مشهد بديع يتجاور فيه نفس الألم في صورة شخصيتين تجمعهما الصداقة، نفس الألم لكنه في مرحلتين مختلفتين تمامًا؛ حيث يبدو الأب الذي فقد ابنته للتوّ متهدِّمًا تمامًا، فاقدًا للسيطرة على انفعالاته، بينما صديقه يتذكر ما جرى لابنته منذ سنوات، متالمًا مثله، لكن الحزن الذي يأكل روحه قد هدأت وتيرته، وبدأ يعتاد التعامل معه.
وهنا يبدأ الصديق في مواساة صديقه الذي فقد ابنته حديثًا، مواساة منطقية للغاية رُغم قسوتها الظاهرية؛ عندما يخبره أن الألم الذي يشعر به لن يرحل مع الأيام، كما قد يخبره البعض؛ فهذا النوع من الصدمات تحدث ليستمر أثرها ملازمًا لصاحبها، وهذا هو الخبر السئ، أمّا الخبر الجيد فهو أن الأيام ستساعده على تقبُّل الألم؛ ستجعله يتوارى داخله ويهدأ قليلًا؛ بحيث لا يصير متحكمًا في حياته بالكامل، لا يقوده ولا يسلب إرادته ووعيه.. وهنا يكمن الأمر كله في خطوته الأولى: التسليم بأن هذا القدر من الألم لن يمضي، لن ينمحي كأنه لم يكن؛ لأننا إذا حدث هذا نصبح مسوخًا لا بشرًا.
(3)
يعتقد بعض مَن يتعرضون لتجارب مريرة أنهم سيبرأون من أثرها تمامًا، وأن ألمها سيتطاير مع الأيام كالدخان، وهذا وهمٌ- في الغالب- للأسف الشديد؛ خاصة إذا كُنّا نتحدث عن تجربة بمثابة الصدمة التي تترك جرحًا ينزف في روح صاحبه.
نحن لا نتجاوز الآلام الحقيقية كُليةً؛ لأن ذاكرتنا ملازمة لنا ما حيينا، خاصةً إذا وهبك الله ابتلاء امتلاك ذاكرة جيدة للإساءات والألم.
فالتجارب المُهلكة لا تُنسى، لكن يمكننا التعايش معها، وتقبل حدوثها والتفكُّر فيها، وهذا يخلق حالة من التعايش، يساعد مَن تعرَّض للضربة أن يستوعب حدوثها، يصدقه ويُسلِّم به؛ تجنبًا للدخول في مرحلة إنكار لا فائدة منها إلا المزيد والمزيد من الألم؛ فلن يجعلك الألم أقوى، وأكثر نُضجًا وقدرة على تحمل الضربات، إلا إذا سلّمت بوقوعه، وتعلَّمت التعايش معه.
فقط عليك أن تُذكِّر نفسك دومًا أن كونك تشعر بوطأة ألم ما مررتْ به، لا يُعد شيئًا يقلل منك أو من صلابتك، على العكس تمامًا، فمَن يقضي عمره بحثًا عن نسيان تام وتجاوز كامل لما لا يمكن نسيانه، يضيع في طريق المحاولة من أجل شبه المستحيل، وتخذله توقعاته تجاه نفسه يومًا بعد يوم.
استيعاب المرء لحقيقة أنه لن يعود كما كان، إذا كُتب له أن يتعرض لدرجة معينة من الألم، هو ما قد يساعده على أن يصبح إنسانًا أفضل مما كان عليه قبل ما أصابه… تُنضِج النار، أو تحرق وتُفني؛ وغالبًا ما يتوقف حدوث هذا أو ذاك على استراتيجية المرء في التعامل مع ما جرى له.
اضف تعليقا