في إعلان مذهل الأسبوع الماضي، أعطت إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” تصريحا لتركيا بالتوغل في شمال شرق سوريا، وهي عملية تستتبع اشتباكات مع حلفاء واشنطن الأكراد في المنطقة، رغم أن الجيش الأمريكي، الذي لديه حوالي 1000 جندي في سوريا، لن “يدعم أو يشارك في العملية”. وأكد البيت الأبيض أنه سيسحب القوات الأمريكية المتمركزة بالقرب من الحدود السورية التركية لتمهيد الطريق أمام القوات التركية.
ورغم ذلك، فإن “أردوغان” لم يكن ينتظر تصريحا من واشنطن على ما يبدو، ذلك لأن استراتيجية تركيا هي أكثر من مجرد تمرين في الجغرافيا السياسية، وبالنسبة إلى “أردوغان”، فإن الحرب تمس بقاءه السياسي.
وعلى مدار السنوات الأخيرة، كانت سياسة تركيا تجاه سوريا مرتبطة بطموحات “أردوغان” في تعزيز حكم الرجل الواحد في الداخل. وقد دعمت تركيا المتمردين الإسلاميين ضد الحكومة في دمشق عندما رأت أن ذلك سيعزز أوراق اعتماد “أردوغان” الدينية في الداخل.
وبعد أن أجبر التصويت الانتخابي “أردوغان” على التحالف مع حزب معارض معاد للأكراد، تحول انتباهه إلى قتال القوات الكردية العاملة في سوريا. ولا يزال هذا الهدف قائماً حتى اليوم، إلا أنه يتم حجبه ببطء بسبب قلق أكثر إلحاحًا وهو التخلص من ملايين اللاجئين السوريين الذين شقوا طريقهم إلى تركيا والذين أصبحوا الآن عبئًا على “أردوغان”. ورغم أن أي توغل عسكري كبير لتركيا من غير المرجح أن يحل هذه المشاكل، يبدو “أردوغان” مصمما على المحاولة.
تغير اللعبة
وقد تغير كتاب اللعب التركي في سوريا تغييرا جذريا منذ اندلاع الحرب الأهلية في عام 2011. وكان “أردوغان” في موقع جيد داخليا في ذلك الربيع، عندما خرج الناس إلى شوارع دمشق للاحتجاج على نظام الرئيس السوري “بشار الأسد”.
في ذلك التوقيت، كانت المعارضة العلمانية التركية في حالة ركود، وكان “أردوغان” يخطط لبدء برنامج لإضفاء الطابع الإسلامي على نظام التعليم في البلاد. وقد أتاح الصراع عبر الحدود في سوريا لـ”أردوغان” فرصة لتمديد أجندته إلى الخارج. وفي غضون أشهر، تخلت الحكومة التركية عن “الأسد”، الشريك المقرب سابقًا، وبدأت في تسليح المتمردين الإسلاميين الذين يخوضون معركة ضد دمشق.
سرعان ما أصبحت تركيا مركزًا للمعارضين السوريين المنفيين وقناة لتدفق المقاتلين الجهاديين الأجانب الذين يشقون طريقهم إلى سوريا. بالتزامن مع ذلك، فتحت تركيا حدودها لملايين اللاجئين الفارين من القتال وبنت مخيمات شاسعة لاستيعاب الوافدين الجدد.
وجادل “أردوغان” أن هذه الحرب البادرة كانت باهظة الثمن ولكنها عادلة أخلاقياً، وأنها نابعة من التعاطف بين المسلمين في مواجهة المحن. وقد مست هذه السردية وترا لدى الجمهور، وظلت المعارضة لتدفق اللاجئين صامتة نسبيًا إلى أن استضافت تركيا 3.6 مليون لاجئ سوري.
ومع ذلك، لم يكن القتال في سوريا مجرد قتال بين المعارضين الإسلاميين والنظام، لكنه شمل الأكراد أيضا. وبالنسبة لـ”أردوغان”، كانت هذه أنباء سيئة خاصة أنها تزامنت مع فقدان حزب العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية المطلقة لأول مرة منذ أكثر من عقد جزئيا بسبب النجاح غير المتوقع لحزب يمثل الأقلية الكردية في تركيا، والتي خاضت أجزاء منها عقودًا من التمرد على مستوى منخفض في جنوب شرق البلاد. وللتمسك بالسلطة.
أقام “أردوغان” تحالفًا مع حزب يميني قومي معروف بمعارضته القوية للقومية الكردية. ونتيجة لذلك، انتهت عملية السلام الحكومية التي استمرت سنوات مع المسلحين الأكراد في الجنوب الشرقي بشكل مفاجئ.
غيرت أولويات “أردوغان” في سوريا تبعا لذلك. وأصبحت أنقرة مصممة الآن على تثبيط الجهود الكردية لإقامة حكم ذاتي في المنطقة التي تمتد جنوب شرق تركيا وشمال سوريا. وتراجعت محاولات تركيا إسقاط “الأسد” من خلال الوكلاء الإسلاميين إلى مقعد خلفي وراء القلق الأكثر إلحاحًا المتمثل في حرمان الأكراد السوريين من منطقة تتمتع بحكم ذاتي على طول الحدود مع تركيا.
وفي حلب، آخر معقل للمتمردين السوريين، جندت تركيا المتمردين الذين كانوا يقاتلون “الأسد” لمهاجمة القوات الكردية، ما ساعد في نهاية المطاف في تيسير تقدم الجيش السوري النظامي الذي استعاد المدينة في عام 2016. وفي ذلك العام، أرسلت تركيا جيشها الخاص إلى شمال سوريا في محاولة لاحتواء الميليشيات الكردية التي تعمل هناك.
في عقل “أردوغان”
بحلول عام 2017، كانت أنقرة تعمل مع نظام “الأسد” وحلفائه، مما أثار جزع المعارضة السورية. ووافقت تركيا وروسيا وإيران على إنشاء العديد من مناطق خفض التصعيد المزعومة.
ومن الناحية النظرية، يتعين على النظام والمعارضة في هذه المناطق احترام وقف إطلاق النار المحدود، ولكن في الممارسة العملية، حقق النظام مكاسب عسكرية من خلال انتهاك الهدنة بشكل متكرر، بدعم روسي في الأغلب الأوقات. في المقابل، أدارت دمشق وحلفاؤها رؤوسهم في الاتجاه الآخر عندما شنت تركيا تدخلًا عسكريًا آخر في جيب عفرين الكردي في يناير/ كانون الثاني 2018.
ومثلما أدت المخاوف الداخلية لـ”أردوغان” بشأن الأكراد إلى حدوث تحول في أهدافه في سوريا، فإن المخاوف الداخلية بشأن اللاجئين تفعل الشيء نفسه الآن.
ويشعر الرئيس التركي بأن سياسة الباب المفتوح أصبحت عبئا داخليا مع فقدان حزبه السيطرة على جميع المدن الكبرى تقريبًا في الانتخابات البلدية لعام 2019، وهي ضربة هائلة لنظام المحسوبية المحلي الذي بنى عليه “أردوغان” سلطته على مدى السنوات الـ 25 الماضية.
ويمكن عزو هذا الأمر إلى الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، لكنه يعكس أيضًا استياءا شعبي متزايدا من اللاجئين السوريين البالغ عددهم 3.6 مليون لاجئ في البلاد.
كان “أردوغان” يريد أن يعود اللاجئون إلى وطنهم بمجرد أن يكون راعيًا لجميع القوى السنية لكن ذلك لم يحدث. واليوم تكثف السلطات التركية عمليات تفتيش المنازل والاعتقالات بحق الاجئين السوريين، فيما تحاول الحكومة إخراج اللاجئين من المدن الكبرى.
وأنشأت الشرطة خطًا ساخنًا لجمع المعلومات عن أولئك الذين يدخلون البلاد بطريقة غير قانونية. وبحسب ما ورد تم ترحيل بعضهم إلى مدينة إدلب السورية، حتى مع اشتداد القتال هناك.
لكن إجبار مئات الآلاف، وربما الملايين، من اللاجئين السوريين على الخروج من البلاد والعودة إلى منطقة حرب يعد أمرا شبه مستحيل، لذا فقد كان “أردوغان” مضطرا للتفكير بطريقة أخرى. وكان الحل الذي طرحه مؤخراً في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، هو إنشاء منطقة عازلة كبيرة على طول الحدود السورية مع تركيا بطول 300 ميل وبعمق 20 ميلا، تحت السيطرة التركية.
ووفقًا لـ”أردوغان”، ستستضيف هذه “المنطقة الآمنة” ما بين مليونين و 3ملايين لاجئ، مما يخلص أنقرة من صداع محلي كبير. وسوف تضم 200 ألف منزل، إلى جانب المستشفيات وملاعب كرة القدم والمساجد والمدارس، التي ستبنيها تركيا وسيتم تمويلها دوليا وهو أمر من شأنه أن يوفر إيرادات تشتد الحاجة إليها لقطاع البناء التركي المتعثر في وقت من التباطؤ الاقتصادي.
ورغم أن تأمين التمويل لهذه الفكرة يعد شاقا، فإن “أردوغان” مستعد لاستخدام جميع أوراقه من أجل دفعها بما في ذلك التهديد بفتح البوابات وتفجير أزمة اللاجئين في أوروبا مرة أخرى.
قد يكون اقتراح “أردوغان” هو الحل الأمثل لمشاكله الداخلية، ولكن من المؤكد أنه يخلق مجموعة من المشاكل الجديدة. وسوف ترسل خطته ملايين اللاجئين العرب السوريين إلى المناطق ذات الأغلبية الكردية داخل سوريا مما سيؤدي إلى تغيير التركيبة الإثنية في المنطقة وهذا من شأنه أن يزيد من تقويض فرص الأكراد، ناهيك عن أن القيام بذلك سيزيد من التوترات العربية الكردية، وسيذكي الصراع في منطقة مستقرة نسبيًا، ويسبب نزوحًا جماعيًا في تلك المناطق.
وبموجب القانون الدولي، لا يستطيع “أردوغان” إجبار اللاجئين السوريين على العودة، ومن المؤكد أن معظمهم لن ينتقلوا طوعًا، حتى إلى منطقة آمنة مزعومة.
بخلاف ذلك، سوف تتعرض الإستراتيجية الأمريكية في سوريا، والتي اعتمدت بشكل كبير على الأكراد لمنع تنظيم “الدولة الإسلامية” من العودة لضربة قوية. وتعتبر هذه الخطة هدية لخصوم الولايات المتحدة في سوريا – روسيا وإيران ونظام “الأسد” – الذين يعتقدون أنهم قادرون على انتظار انسحاب واشنطن لصالح تركيا، قبل أن يخططوا لاستعادة المنطقة وطرد تركيا لاحقًا.
ويدرك العديد من المشرعين الأمريكيين هذا الأمر، وقد تعرض “ترامب” للنقد من الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء بسبب رضاه الظاهر عن العملية التركية، معتقدين أنها عملية يجب أن تعمل الولايات المتحدة جاهدة لمنعها.
حتى السيناتور الجمهوري “ليندسي جراهام” من ساوث كارولينا، الذي عادةً ما يكون أحد أقوى المدافعين عن “ترامب”، هدد بفرض عقوبات على الحكومة التركية إذا وضعت قدمًا في سوريا.
لكن “أردوغان” على استعداد لتحمل هذا الخطر. فحكمه على المحك، وهذا هو كل ما يهمه حتى لو كان ذلك يعني فرض عقوبات اقتصادية على تركيا والمزيد من الفوضى في سوريا.
اضف تعليقا