إبراهيم سمعان

التقى محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، خلال الأسبوع الماضي، “جيسون جرينبلات”، المبعوث الأمريكي لعملية السلام في الشرق الأوسط، وجاريد كوشنر صهر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره؛ لمناقشة المشاريع الإنسانية في قطاع غزة.

ثم انتقل المسؤولان الأمريكيان إلى قطر لإجراء مزيد من المحادثات حول كيفية تخفيف الأوضاع الصعبة التي يعاني منها سكان القطاع؛ كجزء من الجهود الرامية إلى تعزيز خطة “ترامب” للسلام، وكان من المرجح أن يثير التركيزُ على غزة غضبَ الرئيس الفلسطيني محمود عباس أبو مازن.

فحتى قبل أن تبدأ الزيارة، وصفها اثنان من مسؤولي الرئيس الفلسطيني، بأنها زيارة بلا معنى ومضيعة للوقت، لكن زيارة “جرينبلات” و”كوشنر” السريعة إلى السعودية وإسرائيل والأردن وقطر ومصر، تمت بنهاية المطاف، سواء حضر الفلسطينيون أم لا.

كانت القيادة الفلسطينية في رام الله قد قاطعت المسؤولين الأمريكيين، منذ ديسمبر الماضي، عندما أعلن “ترامب” أنه سوف ينقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس ويعترف بها كعاصمة أبدية لإسرائيل.

ولعدة أشهر، راقبت السلطة الفلسطينية العلاقات الوثيقة بين إدارة ترامب وبعض الدول الخليجية بازدراء، ففي اجتماع مغلق، عقد بنيويورك في مارس، مع زعماء يهود – وحسبما أفادت تقارير- وجه محمد بن سلمان انتقادات لاذعة للفلسطينيين واتهمهم بإضاعتهم فرص السلام، كما قلل الأمير السعودي من أهمية قضيتهم، وقال إنه يتوجب عليهم قبول أية صفقة تعرض عليهم.

تعليقات ولي العهد السعودي خلال الاجتماع، وفقًا للصحفي الإسرائيلي براك رابيد -الذي نقل عن مصدر كان موجودًا بغرفة الاجتماع، أذهلت الحضور، لدرجة أن البعض منهم كاد أن يسقط من على كراسيه من هول المفاجأة- تعد بعيدة كل البعد عن نظيره الأمير عبدالله بن عبدالعزيز عندما كان وليًّا للعهد عندما هدد الولايات المتحدة الأمريكية في 2001 بقطع العلاقات معها ما لم تقم واشنطن بالتدخل لوقف الهجمات الإسرائيلية على الفلسطينيين خلال الانتفاضة الثانية.

علاقات السعودية الثنائية الدافئة على نحو متزايد مع إسرائيل لم تمر بدون انتباه السلطة الفلسطينية، والتي لاحظت أيضًا إصرار “ترامب” منذ بداية رئاسته على تنفيذ صفقة نهائية بين إسرائيل والفلسطينيين، سوف يتطلب الدخول في مشكلة أوسع نطاقًا.

وشهدت السلطة الفلسطينية صدمة، عندما منحت الرياضُ إذنًا للهند بالطيران إلى تل أبيب عبر المجال الجوي السعودي، وفي وقت لاحق، اعترف ولي العهد السعودي، خلال مقابلة مع مجلة “أتلانتيك” الأمريكية، بحق إسرائيل في أراضيها الخاصة، وبينما قاطعت السلطة الفلسطينية اجتماعًا للبيت الأبيض حول الأزمة الإنسانية في غزة، في مارس الماضي، حضرت عدة دول عربية، بما فيها مصر والإمارات والسعودية بالإضافة إلى إسرائيل، الاجتماع.

لم يعد الفلسطينيون هم النقطة المركزية في الأجندة الإقليمية، وزاد من قلق السلطة الفلسطينية بشكل متزايد، تحويل القادة العرب انتباههم وتثبيته على تدخلات إيران في اليمن والعراق وسوريا.

الزعماء العرب غالبًا ما يصرون على دعم القضية الفلسطينية، لكن الفلسطينيين يعرفون أن هذه التصريحات غالبًا مجرد نفاق، فلم تنفذ على الإطلاق الكثير من المساعدات التي تعهد المانحون العرب بتقديمها لإعادة إعمار غزة عام 2014، فيما جف تمامًا تدفق المساعدات الحكومية على المنطقة، وانحرف التركيز الدبلوماسي للحكومات العربية في المقام الأول إلى المشاكل الداخلية واستقرار بلدانهم، والخصوم الإقليميين مثل إيران، والنزاعات بين الدول العربية، ومحاربة التشدد الإسلامي.

تهميش متعمد

وقال “شبلي تلحمي”، أستاذ العلوم السياسية بجامعة ميريلاند، وزميل غير مقيم في مركز صبان لسياسات الشرق الأوسط في معهد بروكنجز: إن الأولويات الخاصة للقادة العرب في الوقت الحالي، ليس فقط تهميش القضية الفلسطينية، ولكن لديهم كافة الدوافع لمنع الجمهور من الالتفاف حول القضية الفلسطينية؛ لأنهم يعتبرونها بمثابة تهديد لكراسيهم.

وأضاف “تلحمي”: حينًا ما، كانت هذه الحكومات ذات مرة قادرة على استغلال الهوس العام بالفلسطينيين لإلهاء شعوبها، الآن يستخدمه الناس كـ”إسفين”؛ لأنهم لا يمكنهم مواجهة الحكومة بشكل مباشر فيما يتعلق بالمظالم المحلية مثل البطالة والفقر.

على الرغم من أن محمد بن سلمان أظهر ولاءً واحترامًا باللسان فقط للفلسطينيين في العلن – بزعمه أن توثيق العلاقات بين الرياض ودول الخليج الأخرى من جهة، وإسرائيل من جهة أخرى، قد يحدث فقط شريطة حدوث تقدم كبير في عملية السلام الإسرائيلية الفلسطينية– لكن في المقابل أظهر الأمير السعودي استعداده للاستفادة من الصراعات المختلفة في المنطقة، وخوف الرياض من النفوذ الإيراني لتحويل التركيز بعيدًا عن القضية الفلسطينية.

تأثير ضعيف

الفلسطينيون يدركون الآن أنه لم يعد بإمكانهم الاعتماد على حلفائهم التقليديين في العالم العربي، بجانب عدم التماثل في القوة بينهم وبين الإسرائيليين، بجانب الانقسامات الداخلية للفلسطينيين، والاعتماد المطلق على المساعدات الخارجية، تركهم أيضًا بالقليل جدًّا من التأثير.

أحد خياراتهم هو اللجوء إلى المجتمع الدولي، كما فعلوا في السنوات الأخيرة، عبر السعي إلى الانضمام إلى المنظمات والمعاهدات والاتفاقات الدولية كجزء من إستراتيجيتهم لإقامة دولتهم من خلال المنتديات العالمية، أو تقديم شكاوي جنائية دولية على أمل أن تضغط على إسرائيل وتدفع بمحاسبتها على أفعالها.

وقد أثبتت هذه التكتيكات نجاحًا في بعض الأحيان، ولكن المناخ الدولي الحالي يختلف كثيرًا عن نظيره الذي كان موجودًا أثناء فترة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، وأظهرت إدارة الرئيس “ترامب” بشكل واضح أنها ستكون خصمًا قويًّا للفلسطينيين في الأمم المتحدة.

فرص المصالحة

قال يوسف منير، المدير التنفيذي للحملة الأمريكية لحقوق الفلسطينيين، إن فرص المشاركة الثنائية للحصول على نوع من الاعتراف بدولة فلسطينية، والتي كانت الإستراتيجية الدبلوماسية الدولية لمنظمة التحرير الفلسطينية، لا يبدو أن لديها الكثير من الجاذبية في الوقت الحالي.

فنقص المساعدات الخارجية يوفر فرصة للنظر إلى الداخل، وأنه يجب على الفلسطينيين التعامل مع أزمة الشرعية المحلية: فالسلطة الفلسطينية ليس لديها خطة إحلال للحديث عنها، رغم إصابة القيادة بالشيخوخة برئاسة “عباس” البالغ من العمر 82 عامًا، والمستمر في منصبه منذ عام 2005.

فقد تبدد التقدم الذي تم إحرازه في مسار المصالحة بين حماس والسلطة الفلسطينية العام الماضي، بعدما حملت السلطة محاولة اغتيال رئيس الوزراء رامي الحمدالله، رئيس جهاز المخابرات العامة الفلسطينية في الضفة الغربية، في غزة في مارس، المسؤولية لحركة حماس، وحملة القمع الأخيرة على الفلسطينيين في الضفة الغربية المحتجين على التدابير العقابية التي فرضتها السلطة على غزة التي تديرها حماس.

بدون حكومة موحدة أو عمليات تعاقبية واضحة ومتينة، قد تجد السلطة الفلسطينية نفسها مضطرة إلى اختيار أحد خيارين سيئين؛ وهما: أن تشارك السلطة في عملية سلام مزورة بشروط أقل ملاءمة عما كانت عليه في الماضي، أو أن تشق طريها الخاص دون الحصول على دعم المانحين الغربيين وكونها دولة تابعة، وهذا يعني أن سبل معيشة 145 ألف موظف مدني في الأراضي المحتلة سوف تختفي.

لكن بالنسبة الفلسطينيين العاديين، قد تقدم فرصة لمزيد من الانخراط في المقاومة السلمية سواء عن طريق دعم المقاطعة، والتعرية، وحركة المقاطعة الدولية لإسرائيل، المعروفة باسم (بي دي إس)، أو من خلال المشاركة في “التكتيكات اللاعنفية” الأخرى، مثل مسيرات العودة الكبرى، والتي قوبلت باستخدام الجنود الإسرائيليين للقوة القاتلة لمواجهتها.

هذا النشاط -على مستوى القاعدة الشعبية- لديه الإمكانية في الذهاب لما هو أبعد من ذلك، للمساهمة في رفع قيادة تكون أكثر انعكاسًا لدائرتها الانتخابية، فوفقًا لاستطلاع رأي حديث، فإن أكثر من ثلثي الفلسطينيين يريدون من “عباس” أن يستقيل.

ورغم أن حركات “بي دي أس” لم تؤثر بشكل كبير على إسرائيل اقتصاديًّا، إلا أن إلغاء الرحلات المتتالية إلى إسرائيل من قبل ممثلين ومغنيين، قد ألحق المزيد من الضرر بسمعة إسرائيل، تفوق انضمام السلطة الفلسطينية للمنظمات التابعة للاتحاد الأوروبي.

لقد دفع إحباط الفلسطينيين من فشل السلطة في جعلهم أقرب إلى الاستقلالية، بجانب أن التحول في الأولويات العربية جعل ملامح اتفاق أمريكي سعودي إسرائيلي أكثر وضوحًا: دولة منزوعة السلاح بدون القدس عاصمة، وأراضٍ ذات سيادة محدودة، وحل غير مُواتٍ لمسألة اللاجئين.

وفقًا لتقرير نشرته صحيفة “نيويوركر”، حدد “كوشنر” ومحمد بن سلمان إطار تحالفهم الإستراتيجي في الشرق الأوسط، والذي ركز على عرقلة إيران، ودفع الفلسطينيين إلى الموافقة على اتفاق سلام، وحسب ما ورد، فقد وصف ولي العهد السعودي، إستراتيجية لتنفيذ الاتفاق، بقوله: “سوف أرسل الفلسطينيين وسيقوم “ترامب” بإرسال الإسرائيليين”.

تعليقات ولي العهد السعودي جاءت بلا شك كوقع الموسيقى على آذان رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يعتقد أن الواقع الإقليمي الجديد يجعل من التوصل إلى حل مع الفلسطينيين أقل إلحاحًا، أو حتى غير ضروري بالمرة.

وهذا بعيد كل البعد عما جرى في 2002، عندما قدمت السعودية مبادرة السلام العربية، والتي منحت إسرائيل فرصة للاندماج في المنطقة، مقابل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي لا تزال تحتلها حتى يومنا هذا، ورفضت إسرائيل الصفقة، وبدلًا من ذلك، امتلأت الضفة الغربية بالمزيد من المستوطنات، بالتزامن مع انخراط الإدارات الأمريكية المتعاقبة في دائرة لا نهائية من عمليات السلام، وغض الطرف عن إنشاء الإسرائيليين حقائق جديدة على أرض الواقع.

الآن، مهدت التغيرات الإقليمية الطريق أمام فرصة أخرى لإسرائيل لتطبيع العلاقات “رسميًّا” مع جيرانها – لكن هذه المرة بدون اتفاق سلام!.

انتقلت السعودية والإمارات من مغازلة إسرائيل سرًّا إلى التعبير علنًا عن استعدادهم ورغبتهم في بناء علاقات تتعدى علاقاتهم السرية الحالية.

لكن ليس الجميع مقتنعين بأن تحالف الأمر الواقع بين إسرائيل مع بعض الدول العربية ضد إيران سيؤدي إلى سلام إقليمي دون تحقيق تقدم حقيقي في القضية الفلسطينية.

تجاوز النزاع

فاليوم تم إضعاف أو تحييد معظم أعداء إسرائيل التقليديين؛ فالقيادة الفلسطينية تم تحيدها من قبل السخاء الأمريكي، واتفاقات السلام بين الأردن ومصر تجاوزت حتى أكثر الأزمات الدبلوماسية تعقيدًا، والعراق وسوريا مقسمتان بواسطة الحملة لطرد “داعش”.

وقال نداف تامير، مستشار بارز للشؤون الحكومية والدولية في مركز بيريز للسلام في المؤتمر، خلال حديثه في مؤتمر سنوي لمنظمة “جي ستريت” (وهي منظمة يهودية مؤيدة للسلام، ومنافسة لمنظمة “ايباك” الداعمة بشدة لإسرائيل): إن أولئك الذين يرون النزاع الإسرائيلي الفلسطيني ليس فيه حلول مربحة للطرفين، ولكن كحصيلة صفرية، يعتقدون أنهم يمكنهم استخدام علاقات أفضل، وتحالف مصالح بين إسرائيل والعالم العربي كوسيلة لتجاوز القضية الفلسطينية.

ومع ذلك، فإن إدارة “ترامب” توافق أن الصفقة يمكن تنفيذها استنادا للعلاقات الدافئة بين إسرائيل والدول العربية، والتي سوف تقوم بتحويل الضغط على الفلسطينيين للخضوع إلى الحد الذي تشعر فيه إدارة “ترامب” بالقلق.

“هذه صفقة، عليك فقط العثور على سعر البيع”، كما يقول “ويليام كواندت”، المستشار السابق للأمن القومي في إدارتي ريتشارد نيكسون وجيمي كارتر، والذي كان جزءًا من فريق التفاوض الأمريكي في مباحثات “كامب ديفيد” التي أسفرت عن اتفاق سلام بين مصر وإسرائيل 1979.

قال “كواندت”، خلال حديثه في مؤتمر بواشنطن في مارس: “إذا كان السعوديون على استعداد لتمويلها كيف يمكن للفلسطينيين قول لا للسعوديين؟!”.

وأضاف: “نحن عالقون بالسياسة الأمريكية التي لا تقود إلى أي مكان، وعندما تفشل لا يوجد الحل في حالة التراجع”.

خيارات

الفلسطينيون تعلموا من الماضي أن دعم الحكومات العربية متقلب مثل التضاريس السياسية المتغيرة في المنطقة، فمرة أخرى يجد القادة الفلسطينيون أنفسهم معزولين وممزقين، بينما الحكومات العربية والغربية تُصَعِّد من ممارسة ضغوطها عليهم.

اختياراتهم اليوم تقتصر على: أنهم يمكنهم إنهاء التعاون الأمني مع إسرائيل، وحل السلطة الفلسطينية تمامًا، وإجبار إسرائيل على تحمل مسؤولياتها الناجمة عن احتلالها العسكري، وتشجيع العصيان المدني، وتكتيكات “بي دي أس” على المستوى الوطني.

ويمكنهم في المقابل الرضوخ لمحمد بن سلمان وشركائه في التآمر، والتركيز على عزل حماس ومعاقبة الفلسطينيين هناك؛ لأنهم -لسوء حظهم- ولدوا هناك! ولكن ليس بدون مواجهة غضب شعبهم.