أدى الغضب من وجود القوات الأمريكية على الأراضي السعودية المقدسة في العقود الماضية إلى قيام أسامة بن لادن بتأسيس تنظيم القاعدة وتمويله في الغرب، واليوم، ومع قرار ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالموافقة على التواجد الأمريكي، هل يشعل فتيل غضب الجهاديين مرة أخرى بترحيبه بالقاعدة الأمريكية؟
في 11 يوليو/تموز 1995، تلقى ملك السعودية رسالة مفتوحة عن طريق الفاكس وُصف فيها صراحة بـ “الكافر”، وكان الاتهام العلني مروعاً بصورة كافية، خاصة وأن مُرسل الرسالة سليل عائلة سعودية كبيرة وذات نفوذ، وكانت حتى وقت قريب عضواً في الدائرة الداخلية لاتخاذ القرارات في المملكة.
أسامة بن لادن في رسالته المُشار إليها، قال للملك فهد “مملكتك المزعومة في الواقع ليست سوى محمية أمريكية يحكمها الدستور الأمريكي”، وتابع أن الخيانة والردة في سلوكك باتت “واضحة تمامًا كسطوع الشمس”.
سلك بن لادن طريقه نحو “الجهاد العالمي” كما كان يسميه تحت راية تنظيم القاعدة، في أعقاب الإعلانات عن بداية تواجد قاعدة أمريكية في السعودية، وفي عام 1996، أصدر فتواه للمسلمين طالباً منهم طرد “المشركين” من شبه الجزيرة العربية، في إشارة للأمريكيين، الذين كانت قواتهم، في رأيه، تدنس الأراض المقدسة.
في عام 2003، غادرت القوات الأمريكية الأراض السعودية بعد إزاحة صدام حسين في أعقاب الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق، وقد صرح بول وولفويتز، نائب وزير الدفاع الأمريكي آنذاك، أن وجودهم يعد “أداة تجنيد ضخمة للقاعدة”، وبمغادرتهم فقد تم “رفع هذا العبء” عن كاهل السعوديين.
وبعد 16 عاماً، ورغم ما حدث، عاد التواجد العسكري الأمريكي للظهور على الساحة السعودية من جديد مع تصاعد التوترات العسكرية مع إيران، حيث أعلنت وكالة الأنباء السعودية أن القوات الأمريكية عادت مرة أخرى إلى المملكة، حيث ستستضيف قاعدة الأمير سلطان الجوية 500 جندي أمريكي، بالإضافة إلى عدد من المركبات العسكرية والطائرات والصواريخ من طراز “باتريوت”.
مدلولات استقبال الرياض للقاعدة الأمريكية مرة أخرى لها جوانب أخرى بخلاف الجانب الأمني، فهي انعكاس لرغبة ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في المخاطرة كعادته، حيث يراهن الأمير بشكل أساسي على أن العداء الحالي تجاه إيران، بين شعبه والمؤسسة الدينية، سيطغى على أي معارضة مستمرة للتواجد الأمريكي، فضلاً عن المكاسب الأخرى التي سيجنيها ولي العهد في الحرب التي يقودها في اليمن، خاصة بعد تراجع الإمارات، الحليف الرئيسي للسعودية، عن المشاركة في الحرب، التي تكبدت بسببها عدد من الخسائر الغير مبررة، كالمشاكل الدبلوماسية والأمنية، بالإضافة إلى الأضرار التي لحقت بسمعتها، فضلاً عن الدمار الإنساني الذي حل باليمن.
التواجد الأمريكي في السعودية أيضاً سيعزز من سياسات ولي العهد القمعية ضد المعارضين، وستصبح بمثابة حصانة له سواء داخلياً أو خارجياً ضد كافة الأصوات التي تنادي بمعاقبته بتهم الفساد والانتهاكات الأخرى كحادث مقتل الصحفي المعارض جمال خاشقجي داخل القنصلية السعودية في اسطنبول العام الماضي.
منذ اليوم الأول لتولي محمد بن سلمان ولاية العهد وهو يسعى لإحداث تغييرات جذرية في المجتمع السعودي، من رأس الهرم لقاعدته، فقام بكبح جماح شرطة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مع السماح بإقامة حفلات موسيقية وافتتاح دور للسينما، وإجراء تعديلات على قوانين الوصاية على النساء والسماح لهن بقيادة السيارات على الرغم من قيامه بشن حملة اعتقالات واسعة في صفوف الناشطات النسائيات اللاتي قطعن أشواطاً واسعة في الدفاع عن حق المرأة في قيادة السيارات.
كما تحسنت العلاقات السعودية مع إسرائيل بسرعة ملحوظة، مدفوعة بالعداء المتبادل من الطرفين تجاه إيران، ولعل أبرز مظاهر التقارب الذي حدث بين الطرفين حضور وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية قمة وارسو بقيادة الولايات المتحدة إلى جانب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في فبراير /شباط الماضي.
وفي الشهر الماضي، قام المدون السعودي الشهير محمد سعود، بزيارة القدس تحت رعاية إسرائيل، وهو ما أثار استهجان الفلسطينيين ووصفه الأطفال الفلسطينيون بـ “الخائن”، وعلى الرغم من أن الحكومة السعودية تبذل قصارى جهدها لإنكار حدوث التطبيع الدبلوماسي مع إسرائيل، فإنها لم تستطع إخفاء التقارب المتسارع الذي يحدث بين الطرفين، ومع ذلك، لا زال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مشكلة مشحونة عاطفياً في جميع أنحاء المنطقة وداخل المملكة العربية السعودية نفسها.
واليوم، ومع هذا السلوك الاستراتيجي المتغير في سياسات المملكة، تواجه القيادة السعودية معارضات شديدة من تيارات مختلفة على كافة الأصعدة، بدءاً من الحرس الديني القديم إلى النشطاء الشباب، ليفجر قرار استضافة القوات الأمريكية مرة أخرى قنبلة في وجه النظام السعودي عن غير قصد، حيث أثار هذا القرار حفيظة الجهاديين، وهو ما تعي السعودية عواقبه جيداً، بسبب التجربة السابقة في استضافة القاعدة الأمريكية، حيث أدى التواجد الأمريكي إلى ظهور تنظيم القاعدة وانتشاره.
قبل حوالي 30 عاماً، ظهر الخلاف بين مؤسس تنظيم القاعدة والنظام الملكي السعودي، بعد عودة بن لادن إلى جدة بعد قيادته للجهاديين العرب الذين قاتلوا ضد الاتحاد السوفيتي في أفغانستان في الثمانينيات، وحينها لقد ألمح إلى طموحاته السياسية في المنطقة من خلال محاولة زعزعة استقرار إعادة توحيد اليمن، وهو ما أدى إلى قيام السعودية بمصادرة جواز سفره، إلا أن بن لادن بعد بضعة أشهر، في أوائل عام 1990، عاود في نبرته التحذيرية بصورة علنية من الأخطار التي تحدق بالمملكة والمنطقة بأسرها بسبب صدام حسين وحزب البعث في العراق.
ولعل غزو صدام للكويت في أغسطس/آب 1990 جاء في توقيت غريب بالنسبة للسعوديين، لتكتشف السعودية آنذاك أنها ضعيفة تعجز عن الدفاع عن الكويت، على الرغم من ثروات البلاد النفطية والعقود البالغ قيمتها مليار دولار مع وزارة الدفاع الأمريكية.
من جانبها، أذهلت الحكومة السعودية من عرض بن لادن المزعوم، والذي كان مليئاً بالخرائط وخطط الحرب، لتعبئة جيشه المكون من 100000 من المجاهدين لحماية البلاد من صدام، إلا أن هذا العرض قد قوبل بالرفض بصورة قطعية، لتبدأ العلاقات السعودية الأمريكية منحى آخر بعد هذه الأحداث، حيث طلبت الحكومة السعودية من الجيش الأمريكي الدفاع عن المملكة واستخدام أراضيها المقدسة كقاعدة لتحرير الكويت، وهو ما أثار غضب بن لادن وقال عنه لاحقا لأحد الصحفيين “كان أكبر صدمة في حياته كلها”.
لم يكن غضب بن لادن من الحكومة السعودية لعلاقتها مع أمريكا وحسب، بل بسبب قمعها للنشطاء والمعارضين ممن اعتنقوا الفكر الوهابي الذي كان بن لادن ميالاً له، وعلى الرغم من أن بعض الدعاة المعتنقين لهذا الفكر قاموا بانتقاد سياسة بن لادن في كثير من الأحيان، إلا أن الحكومة السعودية قامت باعتقالهم في التسعينات عدة مرات كالدعاة سفر الحوالي وسلمان العودة، بسبب مطالبتهم بإخلاء القوات الأمريكية ووضع حد للممارسات الفاسدة للنظام الملكي، وقد تم إطلاق سراح بعضهم كسلمان العودة، إلا أن النظام عاود اعتقالهم مرة أخرى في 2017 و 2018، لأنهم طالبوا بالمصالحة مع قطر، كما قاموا بانتقاد انتهاكات حقوق الإنسان التي يرتكبها رؤوس النظام السعودي، ليواجهوا الآن عقوبة الإعدام.
بعد حرب الخليج، بات واضحاً أن القوات الأمريكية ستبقى داخل الأراضي السعودية ولن تغادرها، ما أشعل فتيل الحرب بين بن لادن وتنظيمه وبين النظام الملكي السعودي، الذي اتهمه بالتعامل مع الولايات المتحدة التي تدعم إسرائيل، وتركزت تصريحاته كلها في الفترة بين 1996 و 1998 حول قيان أمريكا باستخدام الأراضي السعودية المقدسة كقاعدة لمحاربة المسلمين.
إن العودة الرسمية للقوات الأمريكية داخل المملكة العربية السعودية سيكون له رد فعل عنيف من تنظيم القاعدة لا محالة، على الرغم من السعي الدائم لتنظيم القاعدة من فصل نفسها عن أي ربط بينها وبين تنظيم الدولة الإسلامية، ومن الجدير بالذكر، أن حمزة نجل أسامة بن لادن، يقود حملة واسعة ضد النظام السعودي منذ 2015 ينتقد فيها التقارب بين السعودية والولايات المتحدة، يردد فيها ذات الانتقادات التي كان يوجهها والده للنظام السعودي.
يُذكر أنه لا توجد أخبار عن حمزة الآن، وهناك إشاعات قوية تفيد بوفاته.
من ناحية أخرى، نشرت صحيفة “الشرق الأوسط” السعودية، الموالية للنظام السعودي، في المقالة الافتتاحية لعدد 23 يوليو/تموز الماضي ما يفيد بعدم ظهور أي انتقاد من الإعلان عن عودة القوات الأمريكية وأن “المواطنين السعوديين لم يعودوا حساسين تجاه هذه العلاقات العسكرية”.
ومع ذلك، لا يمكن الاعتماد على مثل هذه المقالات والتنبؤات الموالية للسلطات، ويجب أن يكون مسؤولو مكافحة الإرهاب في جميع أنحاء العالم في حالة تأهب، فما تحاول المملكة العربية السعودية تصديره للعالم ما هو إلا الهدوء الذي يسبق العاصفة.
للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا
اضف تعليقا