العدسة – منصور عطية

“انتهاكات خصوصية المستخدمين، تسريب البيانات وإمكانية استغلالها من طرف الاستخبارات، نشر مواد تدعو إلى العنف والكراهية والتمييز…” انتقادات عدة وُجهت لموقع التواصل الاجتماعي الأكثر انتشارًا في العالم “فيسبوك”.

وربما لا تتوقف تداعيات القضية عند اتهامات باستخدام البيانات المذكورة لغرض التأثير على الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، أو ما عُرف بفضيحة “كامبريدج أناليتيكا”، بل تفتح النقاش من جديد حول مدى احترام “فيسبوك” لخصوصية مستخدميه، ومدى إمكانية وصول بياناتهم إلى جهات سياسية.

أكبر آلة تجسس

التقارير التي تحدثت عن الاستغلال الحكومي لبيانات مستخدمي “فيسبوك” تعددت، خاصة بعد ارتفاع شعبيته بدءًا من عام 2010، من بين ذلك ما صرح به “جوليان أسانج”، صاحب موقع “ويكيلكيس” حين وصف “فيسبوك” عام 2011 بـ”أكبر آلة تجسس مرّوعة اختُرعت على مدار التاريخ”.

وأشار إلى أن مستخدمي هذا الموقع يقدمون خدمات مجانية للاستخبارات الأمريكية التي تستخدم قواعد بياناتهم.

ورغم أن “فيسبوك” لا يخفي طلبات الحكومات للحصول على بيانات بعض المستخدمين، لكن استخدام الحكومات لا يتركز فقط في مطالب رسمية، بل باتت الحكومات تستخدم الموقع للدعاية لها وللتأثير على الرأي العام، بحسب تقارير إعلامية.

ففي وثيقة نشرتها وسائل إعلام عن القسم التقني في “فيسبوك” عام 2017، يتحدث هذا القسم عن تقنيات تستخدم من حكومات ومنظمات لأجل نشر معلومات مضلّلة لأهداف سياسية، منها الأخبار الكاذبة، وتعميم المحتوى المضلل، واستخدام حسابات وهمية.

عربيًّا، ارتبطت ثورات الربيع العربي ارتباطا وثيقا بمواقع التواصل الاجتماعي خاصة “فيسبوك”، الذي ساهم في اتساع دوائر المحتجين، وتسهيل تواصل قادة الحراك في الشارع مع وسائل الإعلام العالمية، إلى حد وصف فيه تقرير لمعهد السلام في الولايات المتحدة عام 2012، أن هذه الشبكات كانت آلية سببية مهمة في الانتفاضات.

لكن الكثير من الأنظمة العربية استطاعت اللحاق بالتكنولوجيات الحديثة، بعدما باغتها استخدام الشعوب لها لأجل الاحتجاج ورفع منسوب الوعي بالحقوق الأساسية، فلجأت إلى عدة طرق للدعاية، منها خلق صفحات رسمية وغير رسمية على المواقع الاجتماعية، تتغنى بالحكام والمسؤولين الأمنيين والعسكريين والسياسيين المقرّبين من دوائر القرار.

تطوّر الاستخدام لاحقًا، فلجأت جهات داخل السلطة بأكثر من بلد عربي إلى تقنيات متعددة لخلق رأي عام في الشبكات الاجتماعية ضد الآراء التي تنتقد الأوضاع، ومن ذلك “الذباب الإلكتروني” الذي يعني خلق آلاف الحسابات الوهمية عبر طرق برمجية بسيطة.

تتكفل هذه الحسابات بنشر تعليقات تتكرّر، من حيث مضمونها، على صفحات المواقع الإخبارية والشخصيات المؤثرة، تتمحور كلها حول مساندة السلطة أو طرف فيها، أو تصفية حسابات سياسية داخل الدولة ذاتها أو على المستوى الخارجي.

كما تقوم هذه الحسابات الوهمية بالترويج لوسم (هاشتاج) معيّن يخدم مصالح من يحرّكها، حتى يصعد في السلم الأكثر تداولًا، ثم تقوم وسائل إعلام أغلبها يدور في فلك السلطة، وبعض منها ينشر عن حسن نية، بإنجاز تغطيات عن هذا الوسم باعتباره رأيًا عامًّا في قضية معينة، وفضلا عن ذلك، تقوم هذه الحسابات بحملات تبليغ واسعة عن حسابات المعارضين حتى يتم إغلاقها.

وما يزيد من التحديات المفروضة على “فيسبوك” وغيره من الشبكات الاجتماعية، هو حديث عدة تقارير أمنية متخصصة عن قدرات السلطة على الوصول إلى معلومات المستخدمين ورسائلهم الشخصية، دون الحاجة لإرسال طلب إلى الموقع، من خلال توظيف آليات للتجسس واستغلال ثغرات أمنية تظهر في المواقع الاجتماعية من حين لآخر، فضلا عن ضعف الثقافة الأمنية للكثير من المستخدمين، ثم يأتي استغلال هذه المواقع لسلوكيات المستخدمين ونمط اختياراتهم لأجل اقتراح إعلانات تناسب اهتماماتهم، ليزيد من دائرة الشك في عالم رقمي تضيق فيه مساحة الخصوصية.

الفضيحة ليست الأولى

بالعودة إلى فضيحة كامبريدج أناليتيكا، يتبين أنها لم تكن الأزمة الأولى التي يلاحق عارها موقع “فيسبوك”، بل تعددت تلك الفضائح على مدار الأعوام الماضية، وتركز معظمها في مسألة استغلال بيانات المستخدمين لأغراض سياسية ونشر الأخبار الكاذبة والمحتويات العنصرية.

ارتباطا بملف الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، وفي سبتمبر الماضي، كشفت مراجعة داخلية أن حسابات روسية على “فيسبوك” اشترت إعلانات بقيمة مائة ألف دولار، أججت الانقسام واستهدفت التوتر الاجتماعي في البلاد، خلال حملة الانتخابات، وصلت إلى 3 آلاف إعلان سياسي.

وذكر مسؤول في “فيسبوك” حينذاك، أن 470 حسابًا أُنفق عليها نحو 100 ألف دولار، بين يونيو 2015 ومايو 2017، على إعلانات تحوي أنباءً زائفة أو مضللة، أو تزيد من عدد الزيارات لصفحات إلكترونية تحمل مثل هذه الرسائل.

حادث القتل الجماعي في “لاس فيجاس”، أكتوبر الماضي، قدم أدلة جديدة على إمكانية التلاعب بالشبكة الاجتماعية، إذ روج “فيسبوك” أخبارا زائفة ادّعت أن منفذ الاعتداء ديمقراطي مناهض للرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، وانتشرت هذه الأخبار بسرعة على شبكة الإنترنت، بعد ساعات فقط من إصابة المئات خلال حفل موسيقي.

وعلى الرغم من استناد القصة إلى ادعاءات غير مثبتة، إلا أن صفحة “التحقق من السلامة” Safety Check على “فيسبوك”، والتي يناط بها تمكين الأشخاص من التواصل مع أحبائهم خلال الأزمات، روجت لقصة ادعت أن مطلق النار لديه وجهات نظر معارضة لـ”ترامب”، بالإضافة إلى روابط لأخبار زائفة أخرى.

وفي ألمانيا حذف موقع “فيسبوك” عشرات الآلاف من الحسابات الوهمية خلال الانتخابات الأخيرة العام الماضي، وقال نائب رئيس “فيسبوك” لشؤون السياسات العامة في أوروبا وإفريقيا الوسطى، ريتشارد آلان، إن جهود الموقع لمحاربة الأخبار الكاذبة تضمّنت إزالة عشرات آلاف الحسابات الوهميّة في الشهر الأخير من الحملة الانتخابية الألمانية.

تلاحق الأزمات أيضًا تطبيق “واتساب” للتراسل الفوري، والذي تملكه شركة “فيسبوك”، وتبدو المشاكل حادة للتطبيق في بريطانيا، بعدما انتقدت وزيرة الداخلية “أمبر رود” تكنولوجيا تطبيقات التراسل للمحافظة على الخصوصية، معتبرة أن تطبيق “واتساب” ملاذ لمستغلي الأطفال جنسيا.

تجسس ومراقبة

على مدار السنوات الماضية، كشفت العديد من التقارير الإعلامية أن تطبيق “فيسبوك” يتجسس على مستخدميه، حيث يأخذ وهو مفتوح كلمات محددة من أحاديثهم ثم يحولها إلى إعلانات، إذ يقوم بتفعيل المايكروفون في هاتفك المحمول، بحيث يبقى مفتوحا يستمع لأحاديثك ويعطيك الإعلانات المتطابقة مع اهتماماتك.

صحيفة “الإندبندنت” البريطانية، نبهت قراءها إلى ذلك قبل أشهر عديدة، مشيرة إلى أن الخاصية موجودة منذ نحو عامين لكن قليلا من المستخدمين من انتبه لها.

في 2012، أزاح “جو سوليفان” كبير مسؤولي الحماية في “فيسبوك” حينها، عن قيام الشركة باستخدام تقنيات تقوم وبشكل آلي بمراقبة رسائل الدردشة ومختلف مشاركات المستخدمين ضمن الموقع بحثا عن أية نشاطات إجرامية. وتقوم تقنية المراقبة الآلية هذه بتحديد المحتويات المشكوك بها بحيث يقوم موظفون مختصون بالاطلاع عليها لاتخاذ الإجراءات اللازمة، ومنها الاتصال بالشرطة في حال توجب ذلك.

وعلى الرغم من الهدف النبيل المعلن من قبل الشركة في هذا السياق، إلا أن الأمر ينطوي على عملية مراقبة واسعة لكل ما تتضمنه أنشطة مستخدمي الموقع، سواء كانت تتعلق بممارسات إجرامية أو غير ذلك.

مساندة الأنظمة الديكتاتورية

من بين الفضائح التي يتورط فيها موقع “فيسبوك”، ما توصلت إليه مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية في 2016، حيث رأت أن منصات التواصل الاجتماعي تدعم الحكومات أكثر مما تدعم مناهضيها، وتقوض الديمقراطية أكثر مما تبنيها.

وأشارت إلى أن الزيادة المذهلة لحركات المقاومة السلمية جاءت قبل اكتشاف الإنترنت، وهو الأسلوب الذي حظي بوجود واسع النطاق، وتحديدا على يد غاندي، الذي روج لنظرية “المقاومة السلمي”، ففي حين أن نحو 70% من حملات المقاومة السلمية نجحت خلال تسعينيات القرن الماضي في تحقيق ما تصبو إليه، فإن 30% منها فقط نجح منذ عام 2010.

في حين يستخدم النشطاء وسائل التواصل لنشر خروقات الحكومة، فإن العدد الأكبر من مستهدفي الحشد يقع ضحية هذا الترويج، وتشير تقارير حديثة إلى أن أقسام الشرطة المحلية في أمريكا تراقب وسائل التواصل الاجتماعي لجمع البيانات حول المناطق التي تعمل بها.

في الماضي، كان يجب على الحكومة تخصيص قدر كبير من مواردها للكشف عن المعارضين، لكن في يومنا هذا يشجع المناخ الرقمي الناس على الإعلان بكل فخر عن معتقداتهم وهوياتهم الدينية والاجتماعية والسياسية؛ ما يتيح للجهات الأمنية وهيئات إنفاذ القانون استهدافهم بفعالية، بحسب التقرير.

كما أن وسائل التواصل الاجتماعي قد يكون لها أثر عكسي في فض الحشود والتجمعات عن طريق تمكين العناصر المسلحة من تهديد أو حتى تنسيق أعمال عنف منظم ضد النشطاء.