من هو أشهر مناضل ليبي للاستعمار الإيطالي في أذهان الجمهور العربي؟ ربما لا يحتاج الأمر كثير بحث للوقوف على اسمه، إذ يحتل المجاهد عمر المختار مكانة بارزة في مسيرة النضال العربي ضد الاستعمار، وهو بلا شك أبرز مجاهد ليبي يعرفه العرب والعالم، رغم أن تاريخ تلك الحقبة يحفل -واقعيًا- بأسماء أعمق أثرًا في مسيرة النضال الليبي من المختار، لكن كلمة السر في بقاء اسم المختار عصيّا على النسيان، هي السينما.
لكنّ الاستعمار الليبي -على إجرامه- كان أكثر إنسانية من النظام السعودي، إذ اكتفى باغتيال المختار مرة واحدة، تاركين له حسن السمعة وشرف التاريخ، ومقرين له في مذكراتهم الخاصة بالتبجيل والاحترام، ونصبوا مشهد إعدامه في مقام علني يوثق للحاضرين والتاريخ كيف صمد الرجل في وجوههم متشبثا بمصحفه ونظارته.
إلا أن النظام السعودي لم يكتفِ باغتيال الصحفي المعارض جمال خاشقجي بخسة وفي جنح الخفاء، وهم يستمعون الموسيقى الصاخبة في السفارة السعودية بإسطنبول قبل عام ونصف العام، بل سعوا جاهدين لاغتياله مرتين، عبر تشويه سمعته وتلويث تاريخه ونضاله وكلمه الحق التي قالها في وجه السلطان الجائر وابنه الحالم بكرسي العرش.
ومن هذه الزاوية يأتي أهمية العمل الفريد الذي قدمه المخرج الأمريكي براين فوغل، الحائز على جائزة أوسكار عن فيلم Icarus عام 2018، والذي يحاول من خلال فيلمه الجديد تقديم صورة دقيقة عن تلك الجريمة، عبر وثائقي “المعارض” “The Dissident” الذي يُعرض الآن في قاعات السينما الأمريكية، ليبث للأمريكيين والعالم أجمع تجسيدًا مؤلمًا لحادثة الاغتيال البشع الذي استشرى منه الانتقام متجاوزا حد الرغبة في التخلص من الرجل، إلى غاية تقطيع جثته والتمثيل بها.
قصة الفيلم
يتضمن الفيلم مقابلات مع أشخاص مقربين من خاشقجي ولقطات من كاميرات المراقبة، وتبدأ قصة الفيلم، ومدّته حوالي ساعتيْن، مع عمر عبد العزيز الزهراني، المعارض السعودي المقيم في كندا وأحد المقربين من خاشقجي الذي كان على تواصل دائم معه حتى اغتياله، ويكشف الفيلم استغلال السلطات السعودية لعلاقة المُعارضين للتخطيط لاغتيال خاشقجي، وذلك باختراق هاتف عمر عبد العزيز، باستخدام تقنيات إسرائيلية.
ويعرض الفيلم مداخلات مع عدة مسؤولين أتراك على احتكاك مباشر بتحقيقات قضية اغتيال خاشقجي، من بينهم عرفان فيدان، المدعي العام بإسطنبول، والذي قال: “خلال 20 سنة من عملي في التحقيق، يمكنني القول بكل ثقة إن جمال خاشقجي قتل عمدًا”.
ويعطي مسؤول بالشرطة العلمية التركية تفاصيل حول الجريمة ويقول إن جمال خاشقجي وخطيبته توجهوا إلى القنصلية السعودية بإسطنبول للحصول على أوراق لإتمام زواجهما، ولم تمض 10 دقائق حتى كان “فمه مغطى بيد أحدهم”، وراح خاشقجي قبل موته يردد عبارته “أنت تخنقني سوف تقتلني”.
ينتقل الفيلم بين حيثيات اغتيال خاشقجي وتداعياتها وتفاصيلها والضجة العالمية التي أحدثتها، ويربطها بصراع الحكم داخل الأسرة الحاكمة السعودية، آل سعود، والصعود الجموح لولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
ويعرض الفيلم لقاءات مع أصدقاء لخاشقجي ممن عرفوه من سياسيين وإعلاميين قريبين منه، ويتطرّق الفيلم لتأثير أحداث الربيع العربي والثورة المصرية بالتحديد على خاشقجي، وكيف أثّر فيه دعم السعودية للثورة المضادة ضد الربيع العربي، وتمويل الانقلاب العسكري في مصر، وهو ما دفعه للتحرك شيئًا فشيئًا نحو المعارضة، بعد أن عمل لسنوات طويلة في دوائر الحكم السعودية.
تفاصيل حصرية
يتحدث الفيلم عن تحوّل موقع “تويتر” لملجأ للنقاش والحوار بين السعوديين هربًا من الفضاء العام المغلق في البلاد والذي تسيطر عليه الحكومة بالكامل، فشدّدت السلطة قبضتها على وسائل التواصل الاجتماعي للتحكم فيها أكثر، وسعت لاعتقال المؤثرين فيها وإدخالهم السجن إذا لم تتوافق آراؤهم مع خطّ الحكومة، وتزامن هذا التوجه مع صعود الرئيس دونالد ترمب للبيت الأبيض، ورأى ابن سلمان فرصةً للصعود للعرش من خلال علاقته مع صهر ترامب ومستشاره جاريد كوشنر.
ثم يعود ضابط الشرطة التركي ليحكي تفاصيل صادمة عن التخلص من جثّة خاشقجي، فيقول: “حسب تقديراتنا فإن جثة جمال خاشقجي نقلت لمنزل القنصل السعودي، وجدنا في المرآب بئرًا مسوّرًا، أردنا فحصه فرفض السعوديون، وفي منطقة حوض السباحة وجدنا فُرنًا للشواء على شكل بئر بعمق متر ونصف أو مترين، وفي نفس ليلة اغتيال خاشقجي طُلب حوالي 30 كيلوجرامًا من اللحم لمنزل القنصل من مطعم شهير، وأُحرق الجسد هناك، واختفى معها أي أثر للشفرة الوراثية لخاشقجي، وكان طلب اللحم من المطعم للتمويه عن رائحة إحراق الجسد”.
لم تكن هذه الزيارة الأولى لخاشقجي للقنصلية السعودية، فقد سبقتها زيارة أخرى كانت مريحة بحسب خاشقجي، واستقبل باحترام وحفاوة وطلب منه الانتظار لأيام لتحضير الأوراق، وفورًا تواصلت القنصلية مع المسؤولين في السعودية فأرسلوا “فرقة الموت” المكونة من 15 شخصًا كشفت أسماؤهم لاحقًا.
يقول المدعي العام التركي في الوثائقي: “نعرف جميع من شاركوا في اغتيال خاشقجي وحتى أدق التفاصيل، الـ15 شخصًا الذين جاؤوا لتركيا، والمسؤولون الثلاثة في القنصلية الذين شاركوا في القتل، وأصدرنا مذكرة باعتقالهم جميعًا”، ويضيف وزير العدل التركي: “من جاءوا من السعودية هم مسؤولون سعوديون رفيعو المستوى، ويأتون من تخصصات مختلفة”.
ويذكر أن “أهمهم على الإطلاق ماهر مطرب، لأنه عضو في المجموعة الأمنية لابن سلمان وهو من أدار وأعطى الأوامر. الشخص الثاني هو صلاح الطبيقي، وهو المسؤول عن الطب الشرعي وتشريح الجثث. ولكن جميعهم كانوا مجرد جنود ينفذون “أوامر” بحسب المدعي العام”.
تتبع عائلي
يتتبع الوثائقي حياة خديجة جنكيز، خطيبة خاشقجي وكيف غيّرت هذه الحادثة حياتها، ويتحدث عن علاقتها بخاشقجي وكيف تطوّرت من مجرّد لقاء في إطار بحث علمي إلى التخطيط للزواج ثم حادثة اغتيال، ونشاطها لتطبّق العدالة في قضية خطيبها المغدور به.
ويكشف الوثائقي أيضًا أساليب النظام السعودي لاستدراج المعارضين للعودة للبلاد، من بينها الاتصال بالناشط عمر عبد العزيز وإخباره من طرف أحد الشخصيات التابعة للحكومة بأن: “محمد بن سلمان معجب بك ويشاهد فيديوهاتك ويطلب منك العودة للبلاد”، وكيف التقى بمسؤولين سعوديين في كندا وأصروا على عودته للبلاد أو على الأقل زيارة القنصلية “لتجديد جواز سفره”.
ويتحدث عمر عبدالعزيز عن “الذباب الإلكتروني” أو اللجان الإلكترونية التابعة للحكومة السعودية، والموجودة في مواقع التواصل الاجتماعي، والتي تهاجم المعارضين وتغرقهم بالتهم والشتائم، وتنشر تغريدات مؤيدة للحكومة وترفع الوسوم المؤيدة للحكومة لتتصدر تويتر، ويقود هذه الجيوش من الذباب الإلكتروني مقرّبون من ابن سلمان، أهمهم مستشاره السابق سعود القحطاني، بحسب الوثائقي.
لمقاومة الذباب الإلكتروني وغزوه لمواقع التواصل الاجتماعي، اقترح المعارض السعودي عمر عبد العزيز على خاشقجي فكرة إنشاء “جيش إلكتروني مضاد” وأن يسمى بـ “النحل الإلكتروني”، ليكون من مجموعة متطوّعين من العالم العربي لمجابهة دعاية السلطة، ونقل الحقيقة بافتتاح حسابات على منصة تويتر والرد على حسابات “الذباب الإلكتروني” حسب قوله. وقد تجاوب خاشقجي مع الفكرة بصورة إيجابية، وسعى لتوفير التمويل المادي لها، ثم خطط خاشقجي للقاء عمر في كندا للانطلاق في خطة “النحل الإلكتروني”.
يقول عمر عبدالعزيز إنه يشعر أنه مسؤول شخصيًا عن اغتيال خاشقجي، خاصةً بعد اتصال من خاشقجي أخبره فيه بوقوع اختراق إلكتروني لمعارضين سعوديين في كندا، واستهدفت الاختراقات عمر نفسه.
متخصصون يعلقون
يظهر في الوثائقي جون سكوت رايلتون، الباحث المتخصص في الأمن السيبراني في المؤسسة الكندية “سيتزن لاب – Citizen Lab”، ويقول جون “إنها معجزة أنّا وجدنا عمر، وأنه استطاع أن يحيا حتى الآن”، ويقول رايلتون أن الأنظمة عجزت عن التجسس على هواتف المعارضين الموجودين في الخارج، لأن معلوماتهم لا تمرّ عبر الشبكات المحلية في بلدانهم، فالحلّ هو اختراق أجهزتهم.
ويشير الوثائقي إلى استخدام السعودية لخدمات الشركة الإسرائيلية الشهيرة “NSO”، وحصلوا منها على أفضل تقنيات الاختراق المتاحة اليوم، ويأتي الحديث على برنامج “بيجاسوس Pegasus” التجسسي الذي يستطيع اختراق الرسائل والصور وحتى تشغيل الكاميرا والميكروفون.
ويقول رايلتون أنهم وجدوا شبكة مرتبطة بالسعودية تتجسس على جهاز في كندا باستخدام بيجاسوس، ما دفعهم للاتصال بعمر عبد العزيز والوصول إليه ومن ثم اكتشفوا اختراق هاتفه، وتمّ الاختراق برسالة نصية مموّهة تشبه التي ترسلها شركات التوصيل (الشحن) وتحوي في داخلها رابطًا يخترق الجهاز لو تم الضغط عليه، ومؤخرًا كشف المركز الكندي أنّ الشركة طوّرت تقنيات لاختراق الأجهزة دون الحاجة لهذه الرسائل.
وبالتجسس على عمر عبد العزيز، اكتشفت الرسائل بينه وبين جمال خاشقجي، وقبض على 23 من أصدقاء عمر. ولكن أشهر ضحايا الاختراقات السعودية هو الملياردير الأمريكي جيف بيزوس، أغنى رجل في العالم حينها ومالك جريدة “واشنطن بوست” التي انتقدت السعودية بشراسة بعد اغتيال خاشقجي الذي كان كاتبًا فيها، وقد ألغى بيزوس زيارة له للسعودية خطّط أن يعلن فيها عن صفقة ضخمة تتعلق برؤية “2030” التي دشّنها ولي العهد السعودي.
أغضب إلغاء الزيارة ابن سلمان ما دفعه لاختراق هاتف بيزوس باستخدام برنامج “بيجاسوس”، ولكن الرسالة وصلت هذه المرة لهاتف بيزوس من حساب ابن سلمان شخصيًا على واتساب. وينتهي الوثائقي بالتذكير باثنين من إخوان عمر عبد العزيز مسجونين دون محاكمة في السعودية، ومثلهم 23 من أصدقائه.
احتفاء دولي
من جانبها، دعت هيلاري كلينتون، المرشحة السابقة للرئاسة الأمريكية ووزيرة الخارجية في عهد الرئيس باراك أوباما، إلى مشاهدة الفيلم، وقالت، في تغريدة عبر حسابها على تويتر: “إذا لم تشاهدوا The Dissident بعد، أتمنى أن تفعلوا. هذ الوثائقي القوي بشكل مذهل عن اغتيال الصحفي جمال خاشقجي على أيادي الحكومة السعودية متاح لمشاهدته الآن”، ووضعت رابط لمشاهدة الفيلم على “Apple TV”.
وردا على تلك الدعوة، تداول عدد من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي في السعودية مقطعا مصورا قديما لعادل الجبير، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية اعتبروه ردا على دعوة كلينتون، قال فيه: “بلا شك، بالتأكيد، كان خطأ فظيعا، ونحن ندفع ثمنه ونستمر في دفع ثمنه، ولكن الأخطاء للأسف تحصل، في الولايات المتحدة الأمريكية كان لديهم أبو غريب في العراق، هل علم قائد القوات المسلحة بذلك؟ لا، هل علم وزير الدفاع بذلك؟ لا، هل علم الرئيس بذلك؟ لا.. نحن أيضا لم نكن نعرف”.
وردا على تصريح الجبير، غرد “زهير” كاتبا: “فيلم “المعارض” الذي يحكي قصة اغتيال #جمال_خاشقجي بمشاركة عمر الزهراني، هو عبارة عن ضربة قاضية لـ#بن_سلمان سياسياً وخصوصا أمام العالم الغربي. شاشة السينما و التلفزيون هما المصدر الاساسي للشعب الامريكي في معرفة ما يجري في الكون!! وهذا الفيلم يعرض الان في سينما أمريكا”.
وكتب وجيه احمد:”يولد الأمل من رحم المعاناة، ويبزغ الفجر بعد سواد، والاستبداد يصنع الحرية، والطغيان لا يودي إلا بصاحبه هكذا شعرت وأنا أشاهد فيلم المعارض لولا إجرام النظام السعودي ممثلا في شخص ابن سلمان لما شاهدنا معارضين له يزدادون عددا وقوة كلما ازداد هو في طغيانه”.
وقال مغرد آخر:”فيلم المعارض…لحظات معربة وقاسية مر بها الكاتب والصحفي السعودي جمال_خاشقجي داخل القنصلية السعودية بإسطنبول اثناء ذبحه وتقطيعه…. جريمة دولة”. فيما جاء في تغريدة “طالب فيصل”:”هيلاري كلينتون تدعو لمشاهدة فيلم وثائقي جديد (المعارض أو المنشق) عن جمال خاشقجي.. وخديجة جنكيز تشكر دعمها سيعود الموضوع من جديد وبقوة يا قاتل الروح وين تروح”.
اضف تعليقا