أتأمل الأحرف الصادرة من فمي إلى آذان أبنائي، سرعتها وتأثيرها، أحياناً تخرج الكلمات بطيئة، قد مرت على عقلي أولاً أنشد بها تغييراً وتأثيراً، وأحياناً أخرى أترك صياغتها لانفعالي ومشاعري، وأقسى كلمات تلك التي يحيكها الانفعال، أتراها لا تؤثر فيهم؟ بلى! فرب جرح كلام أوجع من ضرب الحسام.

أن توجه أبنائك بكلمات صحيحة تلقائية دون أن تضطر أن تمرر أحرفها على عقلك أولاً فهذا درب من دروب الحكمة لمن أراد الله أن يؤتيه الحكمة، فتصبح أكثر دراية بما يقال ومالا يقال ومتى وكيف يقال.

معيار تلك الحكمة أفتش عنه في الأثر، وأنا أتخيل أبنائي يوماً وهم بالغون في جلسة ما وقد دعتهم الحاجة لاستدعاء ماض فات، فيقول أحدهم (يومها قالت لي أمي..)، أشعر بشغف شديد لمعرفة تلك الكلمات التي سيذكرها أبنائي حينها من بين كثير كلامي المنسكب في آذانهم الآن!

الأثر هو ذلك النقش الذي ينقش في الصدور، تصنعه أمثالٌ وحكم بديعة في صياغتها، أو آيات قرآن بارعة في حكمتها، أو أبيات قصائد مؤثرة في معانيها. ولكن كم منا -نحن الآباء- كلقمان يحدّث أبنائه بكلمات صادقة رصينة بحيث تظل كرداء لا يبلى يدثر أبناءنا من برد العيش وقسوته؟.

سحرة يعيشون بيننا، أحرف هزيلة تخرج من الأفواه دون جهد كبير قد تتغيربها أنفس أوتتشكل عُقدٌ أو يُزال ألمٌ أو يُترك جرحٌ أو قل ربما تنشب حربٌ، فمشادة كلامية كانت سبباً في اندلاع معركة مثل كارانسيبيس العجيبة، وحاجز لغة بين جنود ذوي أعراق مختلفة في جيش واحد ساعد في اشتعالها، ليسقط عشرة الاف قتيل من الجيش النمساوي قتلوا أنفسهم بأنفسهم كان من الممكن أن تنقذهم بضع كلمات!

أذكر ذلك الشخص الثلاثيني الراشد الذي يحكي عن ردة فعل والده عندما ذهب ليريه موضوعاً كتبه، قابله والده بسخرية (إيه اللي انت كاتبه دا!) عبارة قليلة الكلمات لم تمح من الذاكرة لأكثر من عشرين عاماً ولا تزال تصحبه هذه العبارة كلما همّ بكتابة شيء ما. أما والده فمن المؤكد أنه لا يذكر عنها شيئاً الآن.

كم من كلمات تخرج من أفواهنا لا نلقي لها بالاً، لا تخرج من عقول سامعيها، نلقاها في صحائفنا مكتوبة علينا أو في مصائرنا رفعاً للدرجات من رضوان الله أو سقوطاً في جهنم من سخطه والعياذ بالله.

“words can change your brain” هذه خلاصة واسم كتاب لأندريو نيوبرج ومارك والدمان صدر بعد رحلة بحثية طويلة، توصلا فيه لحقائق علمية حول تأثير الكلمات في بعض جينات الجسم، وأن للكلمات الإيجابية تأثيراً في تقوية الإدراك في الدماغ في مقابل الكلمات العدائية التي يمكنها تعطيل عمل بعض الجينات الوقائية في أجسادنا علاوة على تنشيطها لمراكز الخوف في أدمغتنا. ولك أن تتخيل كيف يمكن أن نساهم في إطلاق مارد الخوف داخل أبنائنا بكلماتنا فقط.

قبل أن أعرف هذا، شعرت يوماً أنه من قبيل المبالغة والفلسفة  الفارغة أن تسمع نصائح كتلك التي توصي الآباء بعدم مدح أبنائهم، بل استخدام التشجيع بديلاً، والفارق بينهما لا يعدو أن يكون مجرد اختلاف في طريقة صياغة الكلمات، ثم أدركت بعد قليل من التمرن أن البون بينهما شاسع.

كنت أظن أنني أم رائعة عندما أخبر ابني بعد إتمام تنظيف غرفته كم هو ممتاز و(شاطر) ، لكن اتضح أنه عليك  بدلاً من ذلك أن تصف الشيء الذي قام بإنجازه أو أن تسأله عن كيفية إنجازه. وفارق بين مدح يعزز لديه الرغبة في إرضاء الغير وتشجيع يعزز قدراته وينمي ثقته بنفسه.

تنبهت بعدها لخطورة الكلمات وتأثيرها، وبدأت أشعر بالتحدي وأنا أتحدث مع أبنائي ولا أخفيكم أحياناً أخرى أشعر بالتلعثم!. حتى قررت يوماً القيام بتجربة صغيرة، كان هدفي منها هو تعلم استبدال بعض الطرق المعتادة في الكلام كالأوامر أو التهديد أو إلقاء المحاضرات والتي توقف عمل أدمغتهم بأساليب أخرى تجعلهم أكثر تعاوناً.

وجدت حينها أنه يمكننا استخدام بدائل أخرى متعددة، يحتاج الأمر منا فقط دراية وتركيز وثوان قليلة من التفكير، وددت لو أن هناك مجال لتفصيلها لكن منها أن تعبر عن احتياجك أو أن تذكّر بعواقب بعض السلوكيات أو أن تطرح سؤالاً أو أن تقدم بديلاً أو أن تغذي عقله بمعلومة أو أن تعطيه فرصة أن يختار.

واحدة من هذه الطرق البديلة التي ساعدتني كثيراً وهي الأقرب لقلبي والأيسر بالنسبة لي والأنفع لأبنائي استقيتها من والدي رحمه الله.

كان أبي كلما همّ  بالخروج من المنزل ودعته أمي عند الباب، ثم تظل أمي واقفة عند الباب إلى أن يبدأ في النزول على الدرج، كنا نمد رؤوسنا خارج الباب أحياناً فنجد أبي واقفاً في آخر ردهة بيتنا الطويلة أمام الدرج دون أن يتحرك، لثوان  معدودة ثم يبدأ في الانطلاق، لم نستغرق وقتاً طويلاً لنفهم ماذا كان يفعل أبي، فقد كانت عادته أن يضع أساساً دائماً لما يفعل فكان دائماً يقف ليجدد قصده فيما هو ذاهب إليه.

كانت هذه مدرسته دائماً، كنا إذا ركبنا السيارة متوجهين لزيارة جدتي يذكرنا بحديث “ابدأ بمن تعول: أمك وأباك، وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك”، كنا إذا انتهينا من العام الدراسي وبدأت أجازتنا قال لنا أبي “فإذا فرغت فانصب”، كنا إذا أقبل رمضان أيقظنا لتناول السحور وهو يقول “تسحروا فإن في السحور بركة”، وكان إذا أراد أن يستحثنا على قيام الليل يقول “والمستغفرين بالأسحار”.

كم هو بديع أن تستعير كلمات صاغها رسول أوتي الحكمة، لا ينطق عن الهوى، أن تكرر كلمات مربي البشرية الأول. كم يوفر هذا علي جهداً في محاولات صياغة الكلمات والبحث عن صحيحها وأفضلها، لن أخشى التلعثم مجدداً، كم يعين هذا على الاختصار وهو واحد من استراتيجيات نيوبرج ووالدمان في كتابهما من أجل فاعلية حديثنا مع الغير.

“ذكّر بالأساس” فكلمات النبوة وآيات القرآن بهما الحكمة الكافية ويتبقى لك صدق الشعور ولين الطريقة، ويكفيك أنك تلحق أبنائك بمدرسة النبوة لتشكل دافع أخلاقهم الأعظم، وما أعظمه من دافع يحفظ الأثر ويبقيه. ستنحت هذه العبارات في جدران عقل ابنك، وسيتمكن من استدعائها بسهولة على قدر تكرارك لها، ستصحبه في الكبر، وآمل أن تشكل متجاورة شخصيته يوماً ما.

الآراء الواردة في التدوينة تعبر فقط عن رأي صاحبها، ولا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر “العدسة