العدسة: محمد العربي

لم تكن الولايات المتحدة الأمريكية في حاجة لجيش يتصدي لرئيس الوزراء الإيراني الإصلاحي محمد مصدق عام 1953، واكتفت بأحد رجال الـ CIA لكي ينهي وجود ثورة الشعب الايراني ضد حكم الشاه، وبالفعل لم يخيب العميل كيرمت روزفلت ظنون المخابرات الأمريكية حيث أشعل الشارع الإيراني ضد مصدق الذي انتهى به المقام في السجن بعد تخفيف الشاه لحكم الإعدام الذي صدر بحقه، إلا أنه وبعد 26 عاما كانت إيران على موعد مع ثورة أخري، ولكن هذه المرة كانت عقائدية على يد الخميني وليست سياسية كما كانت مع مصدق، وفي كلاهما كان الجانب الاقتصادي حاضرا وبقوة في حركة الشارع الإيراني، وهو ما يبدوا واضحا الآن على سطح الأحداث التي تشهدها إيران منذ عام.

وقد شهدت المدن الإيرانية بما فيها العاصمة طهران خلال الأيام الماضية مظاهرات ليلية وصباحية بدأت بالتنديد بالوضع الاقتصادي السيء وانهيار العملة الإيرانية بشكل لم يسبق أن حدث لها، إلا أن جديد مظاهرات الأيام الماضة هي أن حركة التنديد تجاوزت الحكومة لتمتد إلي انتقاد “علي خامنئي” المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، والدعوة لثورة في كل المحافظات والمدن الإيرانية.

فتش عن المستفيد

وبالرغم من أن السلطات الأمنية الإيرانية لم تشر لوجود أياد خارجية تقف وراء المظاهرات، إلا أن الأمور تشير لوجود لاعبين أو مستفيدين من تأزم الوضع داخل إيران، وربما كان هناك تلاميذ لـ “كيرمت روزفلت” يقومون بنفس الدور الذي لعبه العميل الاستخباراتي منذ اكثر من نصف قرن.

المحللون من جانبهم اختلفوا في تعاطي الولايات المتحدة مع المظاهرات الإيرانية، حيث ذهب فريق إلي أن الإدارة الأمريكية تتعامل مع التظاهرات الإيرانية باعتبارها حدثا عابرا يجب ان يتم استغلاله لمزيد من الضغوط على النظام الايراني، واستدل أصحاب هذا الرأي بالإعلان الصريح الذي صدر عن الرئيس الأمريكي ترامب قبل أيام بأنه يأمل في وجود حوارا عن طريق طرف وسيط مع الإدارة الإيرانية للتباحث عن صيغة جديدة متعلقة بمشروعها النووي، وهو ما اعتبره المراقبون بأن إدارة ترامب الذي فرضت عقوبات علي طهران (سوف تدخل حيز التنفيذ خلال الايام المقبلة) وألغت الاتفاق النووي الذي سبق وأن وقعته إدارة أوباما، تفتح الباب لأن يكون الاتفاق معها بما يحقق مكاسب إضافية إسرائيل التي تمارس ضغوطا علي إدارة ترامب في هذا الإتجاه.

أما الفريق الآخر من المحللين فيرون أن إدارة ترامب تعتبر هذه المظاهرات فرصة لتغيير أحد الأنظمة التي تعتبرها ضمن مثلث الشر الذي يهدد مصالحها، وبالتالي كانت خطوتها بإلغاء الاتفاق النووي واعادة العقوبات على النظام الإيراني الذي بدأ ينتعش من إلغاء إدارة أوباما للعقوبات على طهران عام 2015، والإفراج عن الأموال الإيرانية المجمدة لدي البنوك الأمريكية، وبالتالي جاءت خطوة ترامب لتزيد من أزمة النظام الإيراني الذي يواجه الآن مشاكل عديدة نتيجة الهبوط الحاد للعملة المحلية، واستدل أصحاب هذا الرأي بتصريحات وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، بأن الحكومة الإيرانية تبدد موارد مواطنيها، سواء من خلال مغامراتها فى سوريا أو دعمها لحزب الله وحركة حماس والحوثيين أو طموحاتها فى توسيع برنامجها النووى، مضيفا قوله: “لا ينبغى على أحد أن يفاجأ”، وتابع الوزير: “كما قلت من قبل، إن استمرار الاحتجاجات فى إيران لا ينبغى أن يفاجئ أحدا، فالشعب الإيرانى يطالب قادته بمشاركته بثروات البلاد والاستجابة لاحتياجاته المشروعة”.

السعودية وإسرائيل

وتعد المملكة العربية السعودية أحد أكبر الدول المستفيدة من انهيار النظام الشيعي في إيران، باعتباره المهدد الأكبر لسلطان آل سعود في الحكم، إلا أن فكرة تغيير نظام الحكم من خلال ثورة شعبية أمر يقلق الرياض، خاصة وانها تعيش على هاجس كبير من أية ثورات شعبية، باعتبار أن هذه الثورات يمكن أن تمتد إلى أرض الحجاز بما يهدد ملك آل سعود، ولذلك كان موقفها الرافض للثورات العربية منذ اليوم الأول باحتضانها للرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي، ثم دعم الإنقلاب العسكري بمصر الذي أطاح بالرئيس المنتخب محمد مرسي، ودعمها اللامحدود لأنصار الحوثي والرئيس اليمني السابق علي عبد الله صالح، للقضاء على الثورة اليمينة، وحتى تصديها لنظام الأسد في سوريا كان الهدف منه منع سيطرة جماعة الإخوان على الأمور بسوريا بعد الفوز الذي حققته الجماعة بدول الربيع العربي الأخرى، ومن هنا دعمت الرياض الجماعات الأصولية المتشددة التي تعارض الإخوان المسلمين كأنصار الشريعة، إلا أن الأمور خرجت عن السيطرة نتيجة تحول سوريا لساحة نزاع دولي ضم روسيا وتركيا وإيران وأمريكا والسعودية.

ويرى عدد من المحللين أن السعودية تحاول إثقال السلطات الإيرانية بالمزيد من الأعباء من خلال إشعال منطقة باب المندب، وأن قرارها الذي تراجعت عنه فيما بعد، بوقف تصدير النفط عبر البحر الأحمر جزءا منه يأتي في إطار الحرب الخفية التي يتم ممارستها ضد طهران، بجرهم لمواجهة عسكرية تزيد من تأزم الوضع الداخلي للشعب الإيراني.

وتشير التقارير الصادرة عن تل أبيب بأنه رغم حرصها على تنفيذ نصيحة الإدارة الأمريكية بعدم التورط في الأزمة الإيرانية، إلا أن الأمر لا يخلو من تقديم دعم بشكل غير مباشر لصالح استمرار المظاهرات لما يمثله ذلك من تهديد للنظام الإيراني الذي تجاوز العديد من الأزمات طوال 39 عاما قضاها في الحكم منها حرب استمرت قرابة العشر سنوات مع العراق، فضلا عن الحصار الذي صاحب الثورة الإيرانية منذ بدايتها وحتى الآن، وبالتالي فتح إسرائيل لجبهات مع غزة وسوريا من وقت لآخر، سوف يؤدي هو الآخر لزيادة الإنفاق العسكري الإيراني، وهو ما تريده إسرائيل باعتباره أحد أهم محركات الاحتجاجات الشعبية في شوارع إيران والتي رفع المجتجون فيها شعارات ” مالنا وغزة ولبنان .. انظروا إليها فنحن نموت”.

فساد أبناء المسئولين

يعد الوضع الاقتصادي هو المحرك الأساسي “المعلن” للاحتجاجات التي يزيد عدد المشاركين فيها، كما تزيد عدد مدنهم المحتجة، حيث يركز المحتجون على جذب الانتباه للأزمة الاقتصادية التي ساءت في الشهور الأخيرة بعد فرض أمريكا لعقوباتها، ما أدى لخسارة العملة الإيرانية أكثر من نصف قيمتها نتيجة ارتفاع معدلات التضخم في كل القطاعات، وانتشار الحديث عن تورط مسئولين كبار في السلطة بقضايا فساد، وهو ما دفع بالرئيس الإيراني السابق أحمدي نجاد لمطالبة الرئيس الأمريكي بالكشف عن أسماء أفراد أسر المسؤولين الإيرانيين الحاصلين على “جرين كارد” وقيمة ثرواتهم بالولايات المتحدة، وهي الخطوة التي اتخذها نجاد بعد تقرير نشرته وكالة «إيسكا» للأنباء التابعة لجامعة الحرة الإسلامية التي يرأسها علي أكبر ولايتي، كبير مستشاري المرشد الأعلى علي خامنئي، في يونيو الماضي بأن 5 آلاف و432 من أفراد أسر المسؤولين الإيرانيين يعيشون بالولايات المتحدة، منهم 354 شخصا يدرسون بالجامعات الأمريكية، وأن 3 آلاف و947 من أبناء المسؤولين الإيرانيين الذين يعيشون في أمريكا ليس لديهم أي تخصص أكاديمي عالي أو خبرة مهنية معينة، وأن باقي هؤلاء يعملون في قطاعات عادية لا تحتاج لتخصص، كما كشفت الوكالة أنه تم إيداع 148 مليار و267 مليون دولار في الحسابات البنكية لأفراد أسر المسؤولين الإيراني في المصارف الأمريكية، ورغم أن الوكالة سحبت التقرير لمتطلبات الأمن القومي كما أعلن أحد مسئوليها، إلا ان عدد من كبار مراجع الشيعة بإيران، طالبوا الحكومة والسلطة القضائية والجهات المعنية الأخرى التصدي بحزم للفساد الاقتصادي والعابثين باقتصاد البلاد.

الموت للديكتاتور

ورغم أن الوضع الاقتصادي هو المحرك للتظاهرات إلا أن هناك أصوات علت أثناء الاحتجاحات وصفت المرشد الأعلى للثورة بالخائن للأمة، بينما رفع آخرون شعار ” الموت للديكتاتور” في إشارة لـ “علي خامنئي”، ويرى المحتجون أن تورط إيران في العديد من الحروب بسوريا ولبنان وأخيرا اليمن أثر بالسلب على الوضع الاقتصادي لبلادهم التي تعاني من الحصار بشكل كبير، محملين المرشد الأعلى مسئولية جر بلاده لصراعات الشرق الأوسط، وهو ما يبرر شعارهم “أتركوا سوريا وفكروا بنا”.

ويرى المتابعون أن الأمور حتى الآن لم تخرج عن سيطرة السلطات الإيرانية التي اعتبرت الاحتجاجات غير قانونية، بالإضافة لعدم إعلان أي جهة تبنيها للمظاهرات، وهو ما يزيد من فرص السيطرة عليها خاصة وأن المحتجيين أنفسهم يرون أن الولايات المتحدة هي عدوهم لأنها هي التي تفرض العقوبات على بلادهم، وبالتالي فإن معظم المطالب لا تخرج عن محاربة الفساد ومحاسبة المفسدين.

بينما يرى آخرون أن خطورة هذه الاحتجاجات بأنها تأتي من أقليات غير فارسية، وهي عرقيات لها ارتباطات قومية ودولية حيث تضم إيران أذربيجانيين، وأكراد، وعرب وتركمان وبلوش، وهي العرقيات التي تشتكي من عدم المساواة التي يمارسها تجاههم النظام الفارسي في إيران، وبالتالى فإن تمرد هذه الأقليات قد يثير مخاطر أخرى تهدد وحدة الدولة الإيرانية.