العدسة – منصور عطية:
للوهلة الأولى عند سماع عبارة “مذبحة الأرمن” تستدعي الأذهان ما يقال إن القوات التركية ارتكبته بحق الأقلية الأرمينية المسيحية في عهد الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى بين عامي 1915 و1917.
لكن لا يتحدث أحد بشكل معكوس، عما ارتكبه الأرمن ضد المسلمين أتراكًا وأكرادًا من مذابح يشيب لها الولدان، رغم ما يشوب الرواية الغربية من تزييف أثبته مؤرخون وباحثون مستقلون.
ويرى كثيرون أن الغرب يتبنى تلك الرواية المزعومة بقتل مليون ونصف مليون أرمني على يد القوات العثمانية، من أجل ابتزاز تركيا واستخدام الملف كورقة ضغط ضد أنقرة في صراعها المحتدم مع أوروبا.
وتطالب أرمينيا واللوبيات الأرمنية في أنحاء العالم بشكل عام، تركيا بالاعتراف بما جرى خلال عملية تهجير الأرمن في 24 أبريل عام 1915 على أنه “إبادة عرقية”، وبالتالي؛ دفع تعويضات.
وفي المقابل، ترفض أنقرة إطلاق صفة “الإبادة العرقية” على الأحداث، وتصفها بـ”المأساة” لكلا الطرفين، وبأنها “أحداث مؤسفة أودت بحياة أرمن وأتراك مسلمين”، وتدعو إلى تناول الملف بعيدًا عن الصراعات السياسية، وحل القضية عبر منظور “الذاكرة العادلة” الذي يعني باختصار التخلي عن النظرة الأحادية.
وتشدد تركيا على أنها دعت أرمينيا إلى فتح أرشيف الدولتين بهذا الخصوص، لكن الأخيرة ترفض ذلك وتعتبر أن القضية “غير قابلة للنقاش”، وحاليًا تعترف نحو 20 دولة، من بينها فرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، و42 ولاية أمريكية رسميًّا بوقوع تلك المجازر كحدث تاريخي.
وتصر تركيا على أن ما حدث هو حرب أهلية قتل فيها ما بين 300 ألف و500 ألف أرميني، ومثلهم من المسلمين، وقد تم تمرير الفقرة 301 في القانون التركي في العام 2005 التي تجرم الاعتراف بالمذبحة الأرمينية في تركيا.
ماذا حدث؟
بحسب الرواية الغربية، فإن السلطنة العثمانية المتداعية حينها ساقت الأقلية الأرمنية إلى مذابح جماعية بدعوى تهجيرهم إلى سوريا، وفي الطريق من الأناضول نصبت الكمائن ضد هؤلاء بغية الإبادة الجماعية بحقهم.
وبحسب وثائق تركية, تعاون الأرمن مع القوات الروسية بغية إنشاء دولة أرمنية مستقلة في منطقة الأناضول، وحاربوا ضد الدولة العثمانية، وعندما احتل الجيش الروسي شرقي الأناضول، لقي دعمًا كبيرًا من هؤلاء المتطوعين الأرمن؛ العثمانيين والروس، كما انشق بعض الأرمن الذين كانوا يخدمون في صفوف القوات العثمانية، وانضموا إلى الجيش الروسي.
وبينما كانت الوحدات العسكرية الأرمنية، تعطل طرق إمدادات الجيش العثماني اللوجستية، وتعيق تقدمه، عمدت العصابات الأرمنية إلى ارتكاب مجازر ضد المدنيين في المناطق التي احتلوها، ومارست شتى أنواع الظلم بحق الأهالي، بحسب الوثائق.
وسعيًا منها لوضع حد لتلك التطورات، حاولت الحكومة العثمانية، إقناع ممثلي الأرمن وقادة الرأي لديهم، إلا أنها لم تنجح في ذلك، ومع استمرار هجمات المتطرفين الأرمن، قررت الحكومة في 24 أبريل من عام 1915، إغلاق ما يعرف باللجان الثورية الأرمنية، واعتقال ونفي بعض الشخصيات الأرمنية البارزة.
وفي ظل تواصل الاعتداءات الأرمنية، وبرغم التدابير المتخذة، قررت السلطات العثمانية، في 27 مايو 1915، تهجير الأرمن القاطنين في مناطق الحرب، والمتواطئين مع جيش الاحتلال الروسي، ونقلهم إلى مناطق أخرى داخل أراضي الدولة العثمانية.
ومع أن الحكومة العثمانية، خططت لتوفير الاحتياجات الإنسانية للمهجّرين، إلا أن عددًا كبيرًا من الأرمن فقد حياته خلال رحلة التهجير القسري بسبب ظروف الحرب، والقتال الداخلي، والمجموعات المحلية الساعية للانتقام، وقطاع الطرق، والجوع، والأوبئة.
وتؤكد الوثائق التاريخية التركية، عدم تعمد الحكومة وقوع تلك الأحداث المأساوية، بل على العكس، فقد لجأت إلى معاقبة المتورطين في انتهاكات ضد الأرمن أثناء تهجيرهم، وجرى إعدام المدانين بالضلوع في تلك المأساة الإنسانية، رغم عدم وضع الحرب أوزارها.
وعقب انسحاب روسيا من الحرب، جراء الثورة البلشفية عام 1917م، تُركت المنطقة للعصابات الأرمنية، التي حصلت على الأسلحة والعتاد الذي خلفه الجيش الروسي وراءه، واستخدمتها في احتلال العديد من التجمعات السكانية العثمانية.
الاحتكام إلى التاريخ
في كتابه “الاحتكام إلى التاريخ“، كشف الباحث اللبناني “ماجد الدرويش”، عبر وثائق ومستندات ودراسات أجنبية براءة تركيا من دماء الأرمن، ويقول: إن “شرارة هذه الأحداث بدأت في القرن التاسع عشر، عندما احتل الروس شمال منطقة الأناضول ودخل معهم أرمن، فسلم الروس الحكم المحلي للأرمن، وارتكبوا مجازر شنيعة بحق الأكراد والأتراك معًا”.
ولفت إلى أن “هذه المجازر سبقتها مجازر أخرى بحق المسلمين في اليونان والقوقاز ومناطق أخرى، هاجر منها المسلمون عندما احتلها الجيش الروسي”.
ونقل عن الباحث الأمريكي “جاستون ماكارثي”، صاحب كتاب “الطرد والإبادة”، المبني على تقارير قناصل أجنبية في الدولة العثمانية، كانوا ينقلون أخبار مجازر الروس وأعوانهم الأرمن بحق المسلمين على مدار 100 سنة (1821 حتى 1922) في بلاد القوقاز.
وبحسب الأدلة الموثقة في كتاب “ماكارثي”، فإنه في العشرين من أبريل 1915، بدأ الأرمن في مدينة “وان” (ضمن نطاق الدولة العثمانية) بإطلاق النار على مخافر الشرطة ومساكن المسلمين، مع تقدم الأرمن وتغلبهم على قوات الأمن العثمانية، وقد أحرقوا الحي المسلم، وقتلوا مسلمين وقعوا بين أيديهم.
نفذ الأرمن “جرائم فظيعة” بحق الأتراك والأكراد في شمال شرق الأناضول، وحين انسحبت روسيا من هذه المنطقة عقب الثورة البلشفية، ذهب مع الروس عدد كبير من الأرمن، فيما بقي آخرون، فتم الانتقام منهم ردًّا على التنكيل.
آنذاك، ووفق الباحث، “وجدت الدولة العثمانية نفسها مجبرة على ترحيل الأرمن من شمال شرق الأناضول إلى الداخل للحفاظ على حياتهم، حيث أرادت أن تحول بين هذا التقاتل”.
في تلك المرحلة، وتحديدًا عام 1917، جرت عملية ترحيل الأرمن من جانب الدولة العثمانية، وسط ظروف صعبة جدًّا، حيث كانت تضرب العالم مجاعة كبيرة، فتوفي بعض الأرمن بسبب الجوع والمرض، وليس كما يشاع بأن العثمانيين هم من قتلوهم.
يتضمن الكتاب معلومات كثيرة وموثقة حول حقيقة أحداث 1915، ويظهر من كان المعتدي الأول وكيف، وهو يقع في 158 صفحة، واعتمد كاتبه الباحث والمحاضر اللبناني على 19 مصدرًا رسميًّا تاريخيًّا.
مذابح الأرمن ضد الأتراك
على الجهة المقابلة، ورغم قلة المادة الموثقة لكشف زيف الادعاءات الغربية، إلا أن كتاب “مذابح الأرمن ضد الأتراك” يوفر مادة دسمة وشديدة الموثوقية لمن أراد الوصول إلى حقيقة ما جرى.
89 وثيقة اعتمد عليها الكاتب المتخصص في التاريخ العثماني، استطاعت إحصاء أكثر من نصف مليون ضحية من المسلمين المدنيين وليس العسكريين على يد العصابات الأرمنية المدعومة من روسيا.
وتروي إحدى الوثائق شهادة أحد الطلاب الروس في كلية طب موسكو، وممرضة روسية تدعى “ناتاليا كاراملي” تعمل بالصليب الأحمر الروسي، أن الأرمن كانوا يرتكبون أعمال العنف بشراسة ضد السكان المسلمين، وخاصة النساء والأطفال في ضواحي بايبورت وأسبير.
ويتضمن الفصل الثاني وثيقة عبارة عن تقرير رسمي من أحد الضباط الروس أثناء قتالهم بمشاركة كتائب المتطوعين الأرمن ضد الأتراك العثمانيين، يقول عنها المؤلف: “إنه بالرغم من المنافع المتبادلة والمشاركة الإستراتيجية في مقاتلة عدو واحد؛ فإن الضابط المذكور استفزته التصرفات اللاإنسانية والشاذة للأرمن في مواجهة الأهالي من الأتراك العثمانيين المسلمين”!.
ووثقت شهادة الليفتانت كولونيل “تواردو خليبوف”، القائد الروسي حينها، قتل أعداد ضخمة من الأتراك على يد الأرمن، بدم بارد، دون قتال أو حتى توفر فرصة للدفاع عن النفس أو حمل السلاح.
ينتقل الفصل الثالث إلى تقرير لجنة “نايلز وسزرلاند”، المفوضة من الكونجرس الأمريكي وبتكليف منه، عام 1919، للتحقيق في أوضاع الأقاليم الشرقية للإمبراطورية العثمانية في أعقاب الحرب العالمية الأولى.
في التقرير، يضع المبعوثان الأمريكيان مشاهداتهما، ويدونان الملاحظات على ما حدث في المناطق التي مرّا بها، تحديدًا في مدن ولايتي “بتليس” و”فان” التي تتكون أساسًا من المسلمين، فقد دُمر نحو تسعة أعشارها، ويقول التقرير: “احتل الجيش الروسي المنطقة ثم انسحب منها، وما لبث الأرمن أن قاموا بارتكاب جرائم القتل والاغتصاب والحرق.. قاموا بكل الفظائع الرهيبة بحق المسلمين”.
في منطقة أرضروم الحدودية، التي تتكون من سلسلة من السهول التي تحيط بها الجبال ويقطنها الأكراد والأتراك، حدثت أيضًا أعمال قتل وتدمير كامل للمنازل والمزروعات ونهب الماشية، ويؤكد التقرير أن الأرمن قاموا قبل انسحابهم من المنطقة بتدمير القرى وعمل مذابح وفظائع أيضًا ضد السكان المسلمين.
وينقل الباحث عن المؤرخ الأمريكي “جستن مكارثي” في كتابه “الطرد والإبادة مصير المسلمين العثمانيين” قوله: “هجمات الأرمن على المسلمين لم يأت ذكرها أو تؤخذ في الحسبان إلا فيما ندر، أما هجمات المسلمين على الأرمن فهي فقط التي يهتمون بها ويبرزونها، كان من السهل على المعلقين أن يصوروا المسلمين بوصفهم متوحشين شعروا بين فينة وأخرى بالحاجة إلى قتل المسيحيين، في الحقيقة هاجم الأرمن المسلمين وفي كثير من الأحيان دون استفزاز واضح أو مسوغ مباشر”.
اضف تعليقا