وهم السلام

في سبتمبر/أيلول الماضي، كان دونالد ترامب في أكثر حالاته فرحاً وشعوراً بالانتصار، إذ استطاع إقناع الإمارات والبحرين بتطبيع علاقتهما مع إسرائيل، ليتم توقيع الاتفاقيات بحضور كبار قادة المملكتين الخليجيتين ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. أخذت الاتفاقيات اسم “اتفاقيات أبراهام”، في إشارة إلى الوعد بالتعايش والازدهار المشترك في مسقط رأس الديانات الثلاث الكبرى.

 

“نحن هنا بعد ظهر اليوم لتغيير مجرى التاريخ”، هكذا قال ترامب من شرفة البيت الأبيض “بعد عقود من الانقسام والصراع، نحتفل ببزوغ فجر شرق أوسط جديد”، مضيفًا أن الاتفاقات “ستكون بمثابة الأساس لسلام شامل في جميع أنحاء المنطقة”، لينضم إليهما المغرب والسودان في الأشهر التالية.

 

هذه الخطوة منذ بدايتها قوبلت بالكثير من السخرية من قبل الشعوب العربية، لم تكن الإمارات ولا البحرين الصغيرة في حالة حرب مباشرة مع إسرائيل في أي يوم من الأيام، لقد حافظوا بالفعل على قنوات عديدة للتعاون السري مع الدولة اليهودية. جاءت تلك الاتفاقيات التي وقعتها الدول الأربع، مصحوبة بتحسينات جيوسياسية مهمة من إدارة ترامب، وباعتبارها دولًا غير ديمقراطية، لم تستطع النخب الحاكمة فيها الادعاء بأنها تمثل رأي الشعب أو أن موقفها يدعمه الرأي العام الإقليمي.

 

فيما يتعلق بالتعاون الإماراتي الإسرائيلي، الدعاية لم تتوقف لإقناع الجميع بالتطبيع، ضجت مواقع التواصل الاجتماعي بالكثير من اللقطات المصورة لإماراتيين يقضون عطلاتهم في تل أبي، وإسرائيليين يحتفلون في دبي، ومع ذلك، لم تنضم أي دول جديدة إلى التطبيع منذ الموجة الأولى في عهد ترامب.

 

مع وصول بايدن للسلطة في الولايات المتحدة، من غير الواضح إلى أي مدى تعتزم البناء على مبادرة السياسة الخارجية الرئيسية لترامب، كما أجل الرئيس بايدن تواصله المباشر مع نتنياهو عند توليه منصبه؛ كان أول زعيم شرق أوسطي تحدث إليه هو العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني، الذي تشارك بلاده بشكل مباشر في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني أكثر من دول الخليج. كما أن العلاقات بين الأردن وإسرائيل متدنية، وهو ما يعكس جزئيًا تجاهل ترامب ونتنياهو للأردن باعتباره حارسًا تقليديًا للمخاوف الفلسطينية.

 

ثم جاءت موجة العنف الأكبر هذا الأسبوع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والتي اندلعت بعد أسابيع من الاضطرابات والاشتباكات في القدس، بعد اعتداءات متتالية من قبل القوات والشرطة الإسرائيلية، ما دفع نشطاء حماس في قطاع غزة المحاصر -يوم الثلاثاء- للرد بإطلاق صواريخ ناحية إسرائيل، وهو ما تبعه أشرس هجوم إسرائيلي على الإطلاق على قطاع غزة.

 

أحد الصحفيين هناك أكد أن رد فعل إسرائيل كان وحشياً للغاية “حيث شنت إسرائيل واحدة من أشد حملاتها الجوية منذ حرب 2014 التي اجتاحت الجانبين لأكثر من شهر”.

من جانبه قال الجيش الإسرائيلي إنه قصف أكثر من 500 هدف ردا على الهجمات الصاروخية من غزة، بحلول مساء الثلاثاء، قالت وزارة الصحة الفلسطينية إن الغارات الإسرائيلية أسفرت عن “مقتل 30 من سكان غزة، بينهم 10 أطفال وإصابة حوالي 200 آخرين “.

 

جاء التصعيد في أعقاب تصاعد التوترات في القدس، حيث أدت المسيرات الأخيرة للجماعات اليهودية اليمينية المتطرفة، والضغط الإسرائيلي لطرد السكان الفلسطينيين في حي الشيخ جراح بالقدس الشرقية، والحملات القمعية الوحشية التي شنتها قوات الأمن الإسرائيلية على المتظاهرين الفلسطينيين، إلى إشعال شرارة الحرب، شرارة أكبر بكثير من سابقاتها، حيث امتدت الاضطرابات إلى مدن خارج الأراضي المحتلة، حيث احتشد المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل لدعم إخوانهم في الداخل المحتل.

 

في هذه العاصفة، حتى الدول العربية التي طبعت علاقاتها مع إسرائيل لم تجد بُداً من تخفيف التواصل، أدانت كل من الإمارات والبحرين اقتحام إسرائيل للمسجد الأقصى، الذي يعتبر ثالث أقدس المواقع الإسلامية وكذلك أدانوا تحركات إسرائيل لطرد عشرات الفلسطينيين من منازلهم في الشيخ جراح في القدس الشرقية، كما شهدت وسائل التواصل الاجتماعي في كلا البلدين موجة من الهاشتاغات لدعم المواطنين العرب [الفلسطينيين] في القدس.

 

على الصعيد الإقليمي، وعقب اجتماع افتراضي لوزراء خارجية جامعة الدول العربية يوم الثلاثاء، أدان كبير الدبلوماسيين المغربيين الخطاب الإسرائيلي الذي وصفوه بـ “البغيض” وأفعال الجماعات اليهودية اليمينية المتطرفة المتورطة في أعمال العنف في القدس.

وأضافت الكتلة العربية، التي سخرت الشعوب طويلا من عدم تحركها، أنها ستمارس مزيدا من الضغوط نيابة عن الفلسطينيين في الأمم المتحدة وفي المحكمة الجنائية الدولية، التي بدأ المدعي العام فيها في مارس/آذار تحقيقا رسميا في جرائم حرب إسرائيلية مزعومة في الأراضي المحتلة.

 

أما الدبلوماسي الإماراتي البارز أنور قرقاش، أعلن بصورة صريحة تضامنه مع الفلسطينيين، حيث كتب مغرداً “تقف الإمارات مع الحق الفلسطيني ومع إنهاء الاحتلال الإسرائيلي ومع حل الدولتين ومع دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس الشرقية، وهذا موقفٌ تاريخي مبدئي لا يتزحزح”، بالإضافة إلى ذلك أصدرت حكومات عمان وقطر والسعودية بيانات مماثلة تؤكد دعمها لدولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.

 

هذا هو الخط التقليدي الذي كثيرا ما تلتزم الحكومات العربية كلما اشتعل العنف الإسرائيلي الفلسطيني، لكنها أكثر وضوحا الآن لأنها تتعارض مع “رؤية السلام” التي أطلقتها إدارة ترامب بمباركة نتنياهو العام الماضي، والتي تآمرت لأقناع الدول الداعمة لفلسطين بالقبول بإقامة دولة فلسطينية مستقبلية ومنكمشة ذات سيادة محدودة، مع الاحتفاظ بالقدس عاصمة لإسرائيل.

من وجهة نظر إدارة ترامب، ستسرع اتفاقيات أبراهام من إعادة تنظيم السياسات الإقليمية، بحيث تتجاهل الدول العربية، الصديقة لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، مخاوفها تجاه الفلسطينيين واهتمامها بالقضية الفلسطينية، لصالح تعاون تجاري وأمني أكبر مع إسرائيل.

 

من غير الواضح ما هو الموقف الذي ستتخذه الدول العربية المطبعة حيال هذه الأوضاع الجديدة، حيث تخلى قادة تلك الدول -بصورة غير مباشرة- عن القضية الفلسطينية وقاموا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل قبل التوصل إلى حل ذي مغزى لإنهاء هذا الصراع، بحجة التصدي للتمدد الإيراني، مع التأكيد على اهتمامهم بتحقيق “سلام شامل” بين الإسرائيليين والفلسطينيين إذ ستحظى حكومات مثل حكومة الإمارات بنفوذ كبير يسمح لها بإملاء شروطها على إسرائيل، هكذا ظنوا، أو هكذا ادعوا، لكن الواقع أن ما يحدث حالياً على الأرض لا يمكن انتظار أي “سلام” منه… فأين وعود اتفاقيات “أبراهام” الآن؟

 

 

للاطلاع على النص الأصلي من المصدر اضغط هنا