العدسة – معتز أشرف

من تسريبات مصر إلى تسريبات في لبنان، يبدو أن التسريبات لا تتوقف في المنطقة، بيد أن التسريب الذي كشف إساءة وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل إلى رئيس البرلمان نبيه بري فجّر أزمة سياسة كبرى، تواصل الاشتعال قبيل انطلاق الانتخابات البرلمانية في البلاد ومع احتدام الصراع السياسي، وسط محاولات لسيارات الإطفاء السياسية من هنا وهناك، وكأن بلاد شجرة الأرز مع موعد دائم مع الخلافات والمناكفات، فلم تنتهِ جريمة اختطاف السعودية لرئيس الوزراء سعيد الحريري والتفاف لبنان في مواجهة الجريمة، إلا وتشتت عروس العرب بيروت مجددا بعد التسريبات المسيئة واشتعلت الإطارات والأجواء، في مقابل دعوات للتهدئة ترفع شعار”الصلح خير”، فمن ينتصر في دولة المناكفات الدائمة، هذا ما ستشكفه الساعات المقبلة.

قصف كلامي

الأزمة تفجرت بعد تسريب مقاطع فيديو في لقاء انتخابي يوجه خلالها وزير الخارجية جبران باسيل رئيس “التيار الوطني الحر” صهر رئيس البلاد المحسوب على التيار العوني، يوجه إساءات إلى رئيس البرلمان نبيه بري، حيث وصفه في تسريب بأنه “بلطجي (شبيح باللبناني كذلك) لا يعرف دولة القوانين “وأنه يمارس “البرعطة لأنه فهم أنه لم يعد يستفيد منا في الدولة” مشيرًا إلى أنه يضع يده على السلطة التشريعية مثلما يريد ولدى التكتل 126 قانونًا معطلًا في المجلس من عام 2005 حتى اليوم ويسعى لتقسيم المغتربين بالتزامن مع تهديد الشيعة لمقاطعة مؤتمر المغتربين الذي كان برعاية باسيل، والذي أضاف في حدة: “أحد الأمثلة على ذلك هو مشروع قانون السيارات العاملة على الغاز. وقد روّجوا يومها أنها ستنفجر، ولكن الواقع أن رؤوسهم هي التي ستنفجر لأنهم بلا فهم”،  ثم ظهر “باسيل” يهدد “بري” في تسريب ثان بكسر الرأس بقوله: “حلتها نحنا نكسرلو راسو ومش هوي يكسرلنا راسنا”.

التسريبات أدت إلى تجاذبات ساخنة بين المعسكرات المترقبة لأي حريق سياسي في البلاد، فسرعان ما قطع أنصار “أمل” عددًا من الطرق وأقدموا على إحراق الإطارات في منطقة مار الياس مقابل مكتب التيار الوطني الحر وتقاطع بشارة الخوري بيروت، احتجاجا على الإساءات، كما تجمّع عدد من أنصار حركة أمل أمام المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى على طريق المطار في بيروت، رافعين صور بري ومندِّدين بتصريحات باسيل، بالتزامن مع حراك خارجي أمام  مقر السفارة اللبنانية في أبيدجان، التي تقيم فيها جالية لبنانية كبيرة دعمت بري في مواجهة باسيل،  فيما أعلن وزير المال على حسن خليل، أن مقدمة أي حل تبدأ باعتذار باسيل من الرأي العام، موجها حديثه لرئيس الجمهورية عبر منصات القصف الاجتماعي– هكذا باتت الآن في لبنان-: “إذا كان هناك من يسمع فليسمع أن صهره المفضل قليل الأدب، ووضيع، وكلامه ليس تسريبا بل هو خطاب الانحطاط، ونعيق الطائفيين، أقزام السياسة، الذين يتصورون أنهم بالتطاول على القادة يحجزون موقعا بينهم.. المس ببري يُسقط كل الحدود التي كان (أي بري) يضعها أمامنا كي لا نفضح الكل في تاريخهم وإجرامهم والقتل والصفقات والمتاجرة بعنوان الطائفية”.

من جانبهما  أصدر حزب الله وحركة أمل” بيانين بنفس المضامين تقريبا، تحدثا عن رفض الإساءات، والتقدير لبري، مؤكدين أن “هذه اللغة لا تبني دولة ولا تأتي بإصلاح؛ بل تخلق المزيد من الأزمات وتفرِّق الصف وتمزِّق الشمل، وتأخذ البلد إلى مخاطر، هو بغنى عنها”، فيما طالب حزب الله  بـ”المسارعة بمعالجة هذا الوضع القائم بأعلى درجة من الحكمة والمسؤولية”، دعت “أمل” في بيانها، من يعنيهم الأمر إلى “كبح جماح الرؤوس الحامية والواهمة وتدارك الأمور قبل فوات الأوان” بحسب تعبير البيان الساخن.

أما المستشار الإعلامي للرئيس نبيه بري علي حمدان أضاف في تصريحات لإذاعة صوت لبنان أن “ما نشهده اليوم ليس حدثا سياسياً يحتمل السجال فيه ومن أخطأ يجب أن يتحمل نتيجة خطئه وأن يدفع الثمن، ووصف ما حدث بـ”الطيش”، معتبرا أن  من لديه طيش في التعابير عليه أن يغادر الشأن العام الذي هو مساحة للكلام الرصين ولمتابعة قضايا الناس وحاجاتهم، كما أشار الى أنّ “الاعتذار هو الحدّ الأدنى المطلوب من الوزير جبران باسيل لأن الاستقرار الوطني في البلد يتطلب أشخاصا يتحملون مسئولية أفعالهم”.

مدروس ومخطط

يذهب البعض أن ما فعله باسيل رغم أنه “عملية انتحارية” إلا أنه يهدف إلى شدّ العصب المسيحي عشية الانتخابات النيابية المقبلة، خاصة مع ربط الإساءات بالكلام عن حقوق المسيحيين وعدم دفعهم إلى الهجرة وتوظيفهم في الدولة، وهو ما يوحي بسابق تصور وتصميم بهدف استمالة الشارع المسيحي في البترون، لكن الكاتب اللبناني غسان ريفي يرى أن  باسيل تناسى أن قصفه لجبهة بري بهذا الشكل الخارج عن أدبيات السياسة اللبنانية، قد أحرج عمه رئيس الجمهورية ميشال عون، وأربك عهده بخلاف غير قابل للحل مع رئيس السلطة التشريعية، كما أحرج حليفه الاستراتيجي حزب الله الذي لم يستطع تحمل كلام باسيل فرد عليه بقوة منتقدا الإصلاح والتغيير في حال كانا على هذا الشكل، وكذلك أحرج باسيل حليفه الأساسي الرئيس سعد الحريري الذي بدا أمس حائرًا بين متخاصمين تجمعه بكل منهما علاقة سياسية ومصلحة انتخابية، كما أضاع باسيل كل الإنجازات التي كان حققها خلال أزمة الرئيس الحريري في السعودية، وأعاد نفسه إلى المربع الأول من خلافاته السياسية مع أطراف عدة على الساحة اللبنانية.

ويربط الكاتب اللبناني غسان ريفي بين “الكلام المسيء” وشعور الوزير بفائض قوة “فهو الناطق الرئاسي باسم عمه رئيس الجمهورية ميشال عون، وكلمته لا ترد عند رئيس الحكومة سعد الحريري، وهو المشرف العام على الوزارات التي يشغلها عونيون وخصوصا الطاقة والمياه، والشريك الأساسي في اتخاذ كل القرارات سواء بالتوظيفات أو بالتشكيلات أو بالمشاريع، الأمر الذي دفعه إلى التصرف وكأنه الحاكم بأمره في لبنان، ورغم ذلك، نفذ عملية سياسية انتحارية أصابته بالدرجة الأولى وطالت شظاياها كل حلفائه، علما أنه في حال كان يسعى إلى كسب عدد من أصوات المسيحيين بكلامه التصعيدي، فإنه أهدر بشكل حاسم أكثر من ألف صوت شيعي في البترون، ومثلهم من السنة الذين قد لا يلتزمون بتوجهات الرئيس الحريري بعد الاعتراض الأفقي على أدائه في الحكم، كما من شأن كلامه أن يؤدي إالى مزيد من التشابك بين خصومه لاسيما النائب بطرس حرب والقوات اللبنانية والمردة والكتائب وبعض الشخصيات المستقلة، الأمر الذي قد يؤدي إلى تصعيب مهمته الانتخابية في البترون خصوصا وفي دائرتها عموما”.

مبادرات التهدئة

كانت الخطوات للتهدئة كثيرة، بدأها وزير الخارجية اللبناني جبران باسيل، في اتصال هاتفي، مع صحيفة “الأخبار” اللبنانية بقوله: “أعرب عن أسفي لما سرّب من كلام لي في الإعلام أتى في لقاء مغلق في بلدة بترونية بعيداً عن وسائل الإعلام، لا سيما أنه خارج عن أدبيّاتنا وأسلوبنا في الكلام، وقد أتى نتيجة المناخ السائد في اللقاء، مهما تعرّضنا له فإننا لا نرضى الانزلاق بأخلاقياتنا” لكن سرعان ما ذهب الاعتذار في مهب الرياح بعد التسريب الثاني، وهو ما جعل رئيس الحكومة اللبنانى سعد الحريرى يعلن أنه سيطرح مبادرة لتهدئة الأجواء فى الداخل اللبنانى مشددا على أن “البلد ليس بحاجة إلى تصعيد ولا إلى تأزيم، وأهدافنا جميعا أن ندير هذا البلد بأفضل طريقة لما فيه مصلحة المواطنين”، كما اجتمع الحريري لاحتواء الأزمة بالرئيس اللبنانى العماد ميشال عون بقصر بعبدا، وقال الحريرى – وفقا للبيان الرئاسى – “‘إن شاء الله تتجه الأمور إلى التهدئة والإيجابية،  لقد سمعنا الكثير، وحصل اعتذار من قبل الوزير باسيل. فلندع الأمور عند هذا الحد، ومع الوقت نأمل أن تحصل التهدئة”.

وفي السياق ذاته توالت دعوات باسيل للاعتذار على لسان بعض الوزراء المُشاركين في الحكومة، ومنهم وزير الأشغال، يوسف فنيانوس الذي دعا باسيل إلى الاعتذار، “وأن يقول إنه أخطأ بحق اللبنانيين في كلامه الأخير ويجب عدم الوصول إلى هذا الخطاب المتدنّي”، فيما دعا وزير الداخلية نهاد المشنوق بعد زيارته بري إلى الترفّع فوق الصغائر وقال :”دولة الرئيس دائماً يتجاوب مع التعقّل والهدوء”، بالتزامن مع ما كشفته مصادر سياسية مراقبة بحسب صحيفة “الجمهورية” اللبنانية عن مجموعة أفكار لمخارج حلول تمّ تداوُلها في بعض الغرف السياسية، وهي : أن يبادر باسيل الى زيارة عين التينة، وهذه الخطوة تُغني عن الاعتذار وتنفيس الاحتقان القائم عبر إعادة النظر في مرسوم الأقدمية وتوقيع وزير المال، إذ إنّ ما يجري هو امتداد طبيعي لأزمة المرسوم، وأن يتوجّه باسيل برفقة الرئيس الحريري إلى عين التينة، وهذه الخطوة تُعَدّ مدخلاً أمام الحريري لاستعادة خط الاتصال مع برّي الذي انقطع بسبب توقيعه مرسومَ الأقدمية.

وفيما يواصل الجيش اللبناني العمل على إعادة فتح عدد من الطرق في البلاد بعد أعمال الاحتجاج الغاضب لأنصار بري تتواصل محاولات الفرقاء في التجمع مرة أخرى بعد وابل القصف المتبادل، وهو ما يكون صعبا في بلد كلبنان، خاصة مع قدوم الانتخابات، ولكن قد يطلق بري عبارة ” الصلح خير ” في أي وقت ففي بلاد شجرة الأرز كل شيء ممكن.