قسمت جريمة اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي في سفارة بلاده باسطنبول منتصف العام 2018، ظهر بن سلمان وحاشيته في الرياض بشكل غير مسبوق، ومن بين مسار صعود بن سلمان للسلطة منذ تولي والده خلفا للملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2014، كانت تلك اللحظة -لحظة اغتيال خاشقجي- هي الحلقة الأكثر ضعفا في رحلة صعوده السياسي اللافت.
وإذا كانت تلك الجريمة قد كشفت عن مملكة من العصور الوسطى تعيش في أجوائها السعودية، فإنها كشفت أبعادا سياسية أخرى أكثر عمقا، كهشاشة هذا النظام الملكي القمعي، وذكاء خصومه الأكثر ديموقراطية كما في أنقرة في إدارة الأزمات، وأخيرا، كشفت الأزمة للرياض -وللعالم أجمع- كيف أن الإمارات حليف لا يمكن الوثوق به.
انتبهت الرياض بعد تلك الجريمة إلى شكل تحالفاتها الدولية المهترئة، فخسارة حليف ذكي كتركيا التي أدارت الملف باحترافية عالية، أدبت فيها الرياض على تجاوز أرضها، وفي الوقت نفسه، خرجت للعالم كله بصورة ديبلوماسية محترمة، خسارة حليف كهذا يبدو أمرا يستحق التفكر، لا سيما وأن البديل له كان تحالفا هشا مع خصم خبيث يتربص بجيرانه، الإمارات.
للإمارات سجل أسود في استهداف جيرانها، بدءا من رعايتها للانقلاب العسكري الفاشل في تركيا 2016، مرورا بحصار الجارة القطرية، والاعتداء على الجيران في اليمن، وصولا لأذرع خبيثة في كافة البلاد العربية صاحبة التجارب الديموقراطية الموؤدة، مثل مصر وسوريا والعراق وليبيا، بل وحتى تونس والمغرب.
لكن تصريح بن زايد الشهير، حول أن الجزء الأكبر من نجاحك يكمن في إضعاف من حولك، يكشف جانبا من طريقة تفكير هذا النظام الاخطبوطي الخبيث، إذ إن استراتيجية أبو ظبي باختصار هي تدمير كل من حولها، لتبقى هي وحدها على قمة الجماجم، تبدو من بعيد زاهية وناصعة، وفي الحقيقة تُخفى تحتها كل القبح الذي يعرفه التاريخ.
كل ذلك ساهم في انتباه الرياض لما تُحيكه أبو ظبي من وراء ظهرها، رغم أن كل المؤشرات كانت تزيح الدفة إلى توقع ذلك، بل ورؤيته رأي العين أحيانا كثيرة، ولكن رحيل إدارة ترامب بشكل مفاجيء وغير متوقع في القصور الحاكمة بالخليج، ألهب مشاعر الصدام، وفتح الباب على مصراعيه لصراع لم يعد خافيا على متابع، وتبرز كل يوم ملامحه إلى النور.
علاقة متدهورة
بدأ الفتور في علاقة بن سلمان بسيده الإماراتي بن زايد يبرز مؤخرا، بعد وشاية أمريكية نُقلت للقصر الملكي السعودي عن تقارير قدمتها أبو ظبي للمستثمرين في شركات دولية مثل المجموعة الهندسية الأمريكية (بكتل) وشركة الفنادق الهندية أويو، بعدما أعلنت تلك الشركات أنها تفكر في فتح مقرات لها في الرياض.
وبخطوة غير مسبوقة، أبدى الملك سلمان نهاية العام 2019، في قصره بمكة “انزعاجه الشديد” من الإمارات أقرب الشركاء العرب للمملكة -حسب مصادر مطلعة- رغم أن كل المؤشرات كانت تدل على أن عرى العلاقة بين البلدين لا تنفصم على الساحة العالمية، حيث عمل البلدان معا على الظهور بمظهر من يتمتع بالنفوذ في الشرق الأوسط وما وراءه، كما توددا للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب من أجل التصدي “للعدو المشترك” إيران.
وخلافا لجريمة خاشقجي، فإن المصدر المباشر للتوتر هو حرب اليمن الطاحنة، ومنذ أشهر تتزايد الاحتكاكات بسبب هذا الصراع الذي كان من المنتظر في بدايته أن يستمر بضعة أسابيع لكنه طال لسنوات وسقط فيه عشرات الآلاف، ولا تبدو له نهاية في الأفق.
أما السبب الأشمل فهو قرار يبدو أن الإمارات اتخذته بالتحول لخدمة مصالح وطنية أضيق وإظهار نفسها بصورة الشريك الأكثر نضجا الذي بمقدوره تحقيق استقرار المنطقة حتى إذا كان المغزى من وراء ذلك تقليص الخسائر والمضي قدما من دون الرياض.
ويبدو أن أبو ظبي حريصة أيضا على إنقاذ صورتها في واشنطن حيث أدى مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي إلى تعميق المخاوف من تحول السياسة الخارجية التي تنتهجها المملكة إلى الاندفاع والنزوع للتدخل، فالإمارات تريد أن تظهر بمظهر الدولة الصغيرة التي تيسر تحقيق السلام والاستقرار لا التابع لطرف سعودي يبدو منتصرا وينزع للتوسع، الأمر بأي شكل من الأشكال هو تقديم مصالحهم، لأنهم يعتقدون أنه إذا كانت السعودية تنزع للتوسع فستبتلعهم.
طعنة في الظهر
عمليا على الأرض، قلصت الإمارات في يونيو 2019 وجودها العسكري باليمن، وقيدت الرياض بحرب مكروهة بدأتها لتحييد الحوثيين ومنع إيران من تعزيز نفوذها على الحدود، وقال مسؤول إماراتي إن تلك الخطوة كانت تطورا طبيعيا بسبب اتفاق السلام الذي أبرم برعاية الأمم المتحدة في مدينة الحديدة الساحلية الغربية.
غير أن بعض الدبلوماسيين يقولون إن الإمارات قبلت فكرة أنه لا يوجد حل عسكري للصراع وإنها تشعر بالحساسية للانتقادات الموجهة للكارثة الإنسانية والضربات الجوية التي يشنها التحالف وأسفرت عن مصرع مدنيين، وقد عجل تزايد التوترات الخاصة بإيران بهذا القرار، فيما قال دبلوماسي غربي “لم يُستقبل ذلك بطريقة إيجابية، فقد شعر السعوديون بأنهم جرى التخلي عنهم”.
في حين تقول أبو ظبي إن هذا التحرك تم بالتنسيق مع الرياض مقدما، وعكس حقائق واقعة على الأرض مع تحرك الأمم المتحدة لتمهيد السبيل أمام محادثات السلام، كما يبدو أن للبلدين العربيين، وهما من القوى الرئيسية في العالم الإسلامي السني، آراء مختلفة في إيران خصمهما الشيعي.
فالإمارات التي كونت لنفسها سمعة كمركز للأعمال أكثر عرضة للتأثر مقارنة بالسعودية أكبر دولة مصدرة للبترول في العالم، وترى نفسها عامل استقرار في المنطقة، وفي الوقت الذي تعمل فيه واشنطن على تكوين تحالف بحري لتأمين مياه الخليج، يمكن لإيران أن تذكي نار التوترات من خلال الحوثيين للضغط على السعودية وتجنب المجازفة بحرب ناقلات على غرار ما حدث بالثمانينيات.
أبو ظبي التي تكره الخير لجيرانها، اختارها بن سلمان للتحالف معها من بين كل رؤوس الشر في المنطقة، متوهما أنهم سيكونون عونا له على قهر شعبه وخيانة أهله، لكنهم -كعادتهم الدائمة- طعنوه في الظهر، وأفسدوا عليه ترويج أكذوبته الكبرى حول مملكة المستقبل المزعوم.. ومن يزرع الشر، يحصد الشر!
اقرأ المزيد : “اليهود إخواننا والمثليون يشبهوننا”.. مناهج آل سعود “صُنعت في تل أبيب”
اضف تعليقا